مارون الحكيم: الخلق الجمالي نجاتي من وجع الوجود

أصدر أخيراً كتابه الذي يوثّق فيه رحلته لأكثر من خمسين عاماً

مارون الحكيم
مارون الحكيم
TT

مارون الحكيم: الخلق الجمالي نجاتي من وجع الوجود

مارون الحكيم
مارون الحكيم

يكثّف الرسام والنحات اللبناني مارون الحكيم رحلة أكثر من خمسين عاماً من العطاء في عالم الفنون التشكيلية، بمجلّد ضخم (656 صفحة) بعنوان «بالفن أحيا»، مكتوب بالعربية والإنجليزية والفرنسية، وتُجمّله صور اللوحات والمنحوتات، وفيه شهادات ونصوص تختزل أبرز المحطات والمراحل، بعضها بأقلام شعراء ونقاد، وبعضها كتبها مارون الحكيم نفسه، عن فلسفته في الحياة ومواقفه من الإنسان والمرأة والطبيعة.
وُلد الحكيم لأب معمرجي في قرية مزرعة يشوع في جبل لبنان عام 1950، ضمن عائلة مؤلفة من 11 أختاً وأخاً، كان صغيرها. عاش الحياة القروية بكامل تفاصيلها: من تربية المواشي وزراعة البطاطا والفول والقمح وجني العنب والمشمش والزيتون، إلى قائمة طويلة من الأعمال لمساعدة الأهل في جمع الصعتر والسمّاق وطبخ التين وصنع الزبيب. منحته الحياة المتقشّفة قوة في الاعتماد على النفس والتعوّد على مجابهة القسوة.
يقول لنا عن ألعاب طفولته: «كانت ألعابنا، كباقي أطفال القرية في ذلك الزمان، بدائية ومن صُنع أيدينا وخيالنا: الركض في الغابات والحقول، واللعب على البيادر والطرقات الفرعية. كانت الطبيعة ملعبنا وتسليتنا الوحيدة. فيها راقبتُ الأشجار بتفاصيلها المؤثرة، غياب الشمس وشروقها، ألوان السحب وأشكالها، أسراب العصافير، صوت الضفادع، انعكاس الضوء في مياه العيون... في هذا الإطار، تكوّنت الجينات الأولى لمعنى الموهبة وتوجهاتها نحو المراقبة والتخيّل والاستمتاع».
ماذا عن بدايات النحت؟ كيف تكوّنت؟ يجيب: «تفتّحت لديّ من التّماس المباشر مع صفة والدي وإخوتي في مهنة العمار ونحت الحجر. تصدمني الأزاميل والمطارق والعِدد البدائية، وهي تبرق أمام عيني وتناديني لأستعملها. فأتقنتُ أصعب مهنة في التاريخ، وهي النحت ومجابهة الصخر الأصم الجامد وتطويعه».
نحتَ المنحوتة الأولى بالأدوات البدائية وسمّاها «العقدة»، كإشارة إلى ما ينتظره في الحياة من تفكيك لعقد الفن ومطباته. لا صور لديه لرسوماته الطفولية أو المدرسية، لكن أولى لوحاته بالألوان الزيتية رسمها عام 1973. يستذكر معنا: «أنا ابن طبيعته وبيئته

وتقاليدها. لذلك، فالأصالة تحصيل حاصل، لأنّ رسمها مطبوع في كل خط وزيح، وكل ذرّة لون وتجربة وبحث. أما الخيارات فهي قرارات أكدتها التجارب والأبحاث المعمّقة التي استحدثتها خلال مسيرتي التشكيلية المبنية على الكشف والخلق. أقول الخلق، لإيماني بأنّ عمل الفنان مكمّل لما أوجدته الطبيعة التي هي من صنع الخالق. مكمّل بمعنى الإبداع وحَرْف الوقائع من الطبيعة إلى منظور جديد لا يتم إلا بالرؤية الخلّاقة».
يلعب مارون الحكيم بالألوان بجرأة وتجدّد طوال رحلته مع الرسم واللوحة، ثم مقاطعتها مع مسار النحت، ومتعة (وصعوبة؟) الجمع بينهما، مما قد يفسّر قول سمير الصايغ ّد: «في النهاية، لا بد أن يتوحّد الطرفان، فيصير الحجر نحاتاً ويصير الفنان هو نفسه الرخام».
بالنسبة إليه، يتحوّل اللاوعي الطفولي في تأملات الطبيعة الخام، مع الأيام، إلى وعي تشكيلي مغمّس بغزارة الخزان اللوني المعشّش في المخيلة والدماغ، فـ«اللوحة الفنية، وهي بنت التأملات والتخيّل، تصير واقعاً بصرياً ملموساً يجسّد الإيهامات والتموّجات السابحة في عالم غير محسوس وغير مرئي». يقول: «علاقتي باللون بحثية واختبارية، ليس فحسب من الناحية البصرية والقوس - قزحية، بل هي أيضاً دعوة للحواس الأخرى، خصوصاً اللمس، إلى وعي حقيقة التجديد في التقميش البصري واللمسي معاً على مسطّح القماشة البيضاء».
نسأله: كيف ينظر مَن يحيا بالفن إلى من يحيون بالعنف والموت والخراب الفردي والجماعي؟ وهل لا يزال الفن قادراً على جعله يحيا في خضمّ المحرقة اللبنانية وبراكين الحقد ومتاريس الفوضى واليأس؟ يعود إلى عام 1974، تاريخ تخرّجه في معهد الفنون الجميلة تزامناً مع الحرب اللبنانية، ليتحدث عن همّ طغى على عمله التشكيلي في كل المراحل والمعارض التي أقامها عبر السنين. وفيها عالج مواضيع الحرب والمعاناة الإنسانية بلغة فنية غير مباشرة، لاعتباره أنّ «اللغة المباشرة تقتل وهج الفن وألقه». يتابع: «لكن الهمّ والقلق تحوّلا، مع الوقت وحالياً، إلى مصالحة بيني وبين ذاتي، فقررتُ الهروب من واقعنا المرير إلى عالم تجمّله الأحلام والآمال والتوق إلى السلام ونبذ التشاؤم. وهذه قدرة توصّلت إليها بصعوبة، واكتشفتها من خلال عزلة تشكيلية فنية طوعية في صومعة محترفي وبين أفراد عائلتي. فأتت أعمالي الجديدة دعوة إلى لقاء النور في نهاية النفق والتفوّق على الظلمة والعنف».
إنه يؤمن بأنّ الفن علاج روحي للمآسي، ومن جنون الواقع اللبناني: «هذه العصفورية المفتوحة على الصراعات الطائفية، تجعلني كعصفور يرى الأشياء والأمور من الأعلى، محلقاً فوق غابات الحرية المطلقة التي تنادي بالتسامح والحب. هذا السلام الداخلي يعود إلى تنسّكي من أجل الرسالة الجمالية البعيدة عن المحرقة اللبنانية وبراكينها الحاقدة ومتاريسها البائسة واللاجدوى من كل ما يحصل».
ويكشف سرّ النجاة: «في ظل المآسي الكبرى وتفشّي الأوبئة، على المرء التحلّي بالإيمان والرجاء والانحناء أمام مشيئة الظروف والأقدار، من دون تخلّيه عن الأمل وتوقُّع الفرج». يتذكر أياماً سوداء تركت ندوبها في قلبه وذاكرته، وخطفت أقارب وأصدقاء وأحبة، فيُنهي الحوار بعبرة: «على المرء استعادة قواه والاستعداد للنهوض مجدداً. فالحياة مستمرة بالأحياء، ولا مفر من الموت المحتوم. سأبقى متعلقاً بقشة الخلاص بواسطة الخلق الجمالي حتى الأنفاس الأخيرة. هو منقذي الوحيد من وجع الوجود».



عبد الله حبيب: لا مكان للشاعر في هذا العالم

عبد الله حبيب
عبد الله حبيب
TT

عبد الله حبيب: لا مكان للشاعر في هذا العالم

عبد الله حبيب
عبد الله حبيب

عُرف الشاعر والسينمائي العُماني عبد الله حبيب بوصفه واحداً من أهم محركات الحداثة في الخليج، زاوج بين الشعر والسينما، وكتب عدداً من النصوص والمجموعات الشعرية، إلى جانب الدراسات السينمائية، وهو حاصل على الدكتوراه في الدراسات النقديَّة السينمائيَّة، وقبلها الماجستير في الدراسات السينمائيَّة والثقافيَّة، والبكالوريوس في الفلسفة.

وهو عضو الجمعية العمانية للكُتَّاب والأدباء، وكان عضواً في جمعية الدراسات النقدية السينمائية والميديا الأمريكية، (1997 - 2006)، وعضو جماعة الدراسات ما بعد الكولونياليَّة في جامعة أوتاجو بنيوزيلاندا، وعضو اللجنة التأسيسية للسينما في مجلس التعاون لدول الخليج العربية، عضو مؤسس للجمعية العُمانيَّة للسينما. هنا حوار معه:

(*) ما الرابط بين الشعر والسينما؟ ماذا يعطي أحدهما الآخر؟

- تعريف «السِّينمائي» و«الفيلمي» قد يكون أقل صعوبة من تعريف «الشِّعري» و«الشَّاعري»، وهذه، بالطبع، مسألة نظريَّة، أو أكاديميَّة... إلخ. ومع ذلك فإن «الشِّعر» في سلوكه المتمرد خارج التعريف الكتابي الذي حاقَ به في كل ثقافات العالم يتجاوز التَّراكم المعرفي والتَّعريفي الذي تمكنَّا من إنجازه حتى الآن، في محاولة سبر غوره. وهذا يقودنا إلى مسألة معرفيَّة ووجوديَّة أخرى، هي حقَّاً أكثر تعقيداً، حول الرَّابط بين الشِّعر والسينما؛ فالمُشاهد قد لا يكون ضليعاً بالمحاججات السِّيميولوجيَّة المعقَّدة التي أوردها بيير باولو بازوليني، مثلاً، في سياق إصراره على أن السِّينما لغة للشِّعر وليس النَّثر، لكنه - أي المُشاهد - يستطيع أن «يرى» الشِّعر متحقِّقاً في فيلم بازوليني «الإنجيل وفقاً لمتَّى»، على سبيل المثال لا الحصر.

وسأضيف أن مُخرجي السِّينما الكبار إنما يُعتدُّ بهم لأنهم حوَّلوا الشِّعر إلى صور سمعيَّة وبصريَّة على الشَّاشة. خُذ، مثلاً، بيرغمَن، وبارادجانوف، وتاركوفسكي، وغيرهم.

• النص الإبداعي

(*) هل يحتاج إنتاج النصّ الإبداعي لوجود «حالة ثقافيَّة» تُواكب هذا النص وتوازيه؟

- مبدئياً، لا أعتقد ذلك، على الأقل ليس بالمعنى المباشر. الغرابة، واليتم، بل حتى الشيطانيَّة من صفات النص الإبداعي المتفرد، بغض النَّظر عن معطيات البيئة التي وُلِد فيها، ومع ذلك فإن النص الإبداعي (أيَّاً كان جنسه) ليس إلا نتاجاً للغة التي هي (أيَّاً كان شكلها) «حالة ثقافيَّة» بالمعنى الأنثروبولوجي والسوسيولوجي للتعبير، شئنا ذلك أم أبيناه.

لكن ما أقوله سيبدو محرجاً جداً حين نتأمل في موضوع «النَّص الإبداعي» و«الحالة الثقافيَّة»، بعد انقضاء ربع القرن الحادي والعشرين فيما يخص الثَّقافة العربيَّة. أعتقد أن هذه المشكلة صارت تخصُّنا نحن العرب فقط؛ فالثقافات الأخرى (ولا أقصد الغربيَّة فقط، بل ثقافات مناطق أخرى من آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية) تجاوزت هذا السؤال، وأعادت إنتاجه في ممارستها ومسارها، بعيداً عن التناقضات المبدئيَّة التي فرضتها الحالة السياسيَّة والتَّعقيدات التقليديَّة المرافقة لها. التاريخ يصنع الأسئلة، لكنه أيضاً يلغيها ويجددها بحيث إن بعض الأسئلة يتجرَّد من المعنى القديم بالتقادم.

وهكذا فإنه ليست لديَّ إجابة مثاليَّة عن سؤالك، لكنني سأقول بأنني بدأت التَّعالق مع أسئلة الثَّقافة والسِّياسة في بلداننا منذ أكثر من أربعين سنة، وعبر ما أتاحه التَّدرج العمري والثَّقافي. وبصراحة، أشعر، اليوم، بالسَّأم من مثل تلك الثُّنائيات الضِّدية التي لا تزال تهيمن على حواراتنا، في الوقت الذي ينهمك فيه بقية العالم في توكيد أو دحض أمور أخرى.

(*) هل يمكن أن يُنتَج نصّ حداثي في محيط لا يؤمن بالحداثة؟

- نظريَّاً، نعم. وأقول ذلك ببعض الثِّقة، خصوصاً بالنَّظر إلى الحالة العربيَّة التي تنتج نصوصاً أصيلة الحداثة في بيئة تنتمي بعض شروطها السياسيَّة والاجتماعيَّة إلى عصور ما قبل التاريخ تقريباً.

شخصيَّاً، لا أستطيع الانفكاك عن تصوُّر يكاد يكون سحريّاً وميتافيزيقيّاً عن حالة الحداثة في النَّص، لكن كلامي هذا يبقى متكئاً إلى النصوص الكلاسيكيَّة الكبرى. غير أنني، ومع إيماني بإنتاج نصٍّ حداثي في محيط لا يؤمن بالحداثة بل يحاربها، لا أستطيع أن أطمئن إلى هذا اليقين، إلى أن أموت. لماذا؟ لأن التَّاريخ والإنسان يتقدمان، ولا أستطيع أن أفرض على النَّص الحداثي أيَّ توقعات؛ هو نفسه - أي النصّ الحداثي - من سيغربلها.

وكلامي هذا متَّسق بالضَّبط مع الإصرار على الاستحقاقات المدنيَّة والحضاريَّة التي تليق بالمواطن العربي في القرن الحادي والعشرين، وبمتطلبات الحداثة فيه بشروط أبسطها الحريَّة؛ أي أن السؤال هنا يصير استفساراً عن المعطيات التي تنتج النَّص الحداثي لدينا. وغياب تلك الحريَّة سيتسبب في عُسْر كبير عند الحديث عن النَّص الحداثي في بلداننا. وفي غياب تلك الحريَّة المبدئيَّة والضروريَّة سيكون الأمر أشبه بالحديث عن الغيبيَّات.

• نقد الذات

(*) إلى أي حدّ يمكن للنَّقد أن يخلق نقاشاً يبدأ من نقد الذات؟

- قديماً قال سقراط «اعرف نفسك»، وأظن أن هذه كانت من أبكر الدعوات في الفلسفة الغربيَّة لنقد الذَّات. لكن، في الثَّقافة العربيَّة الرَّاهنة، صار يغلب علينا «نقد الآخر» أكثر من «نقد الذَّات»، وذلك من باب التَّهرب من المسؤوليات والاستحقاقات.

هذا التهرُّب المؤسف قد تكون له أسبابه الموضوعيَّة والوجيهة التي لا يمكن التخفيف من وطأتها؛ فذاتنا المعاصرة (بوصفنا «أُمَّة») إنما تكونت تحت سنابك ومؤامرات الغزاة الغربيين، وصولاً إلى ما يسمى «الدولة الوطنية»، غير أنني أعتقد أن «نقد الآخر»، خصوصاً مع صعود تيار دراسات ما بعد الكولونيالية، صار مِشجباً جاهزاً، وعذراً مجانيّاً، اتكاليّاً كسولاً، لتبرير إخفاقات الذات وإلقائها على «الآخر» في كل شاردة وواردة. من السهل أن تنقد الآخر، وليس من السهل أن تنقد نفسك.

(*) كنتَ تقول إنّ النصّ الإبداعي يصفق بيد واحدة، ما اليد الأخرى التي يحتاج إليها؟

- سأصارحك بأنني من الأشخاص الذين يستطيبون أن يصفِّق النص الإبداعي بيد واحدة، لكن، إذا كان لا بد من التصفيق مع النص الإبداعي بيد ثانية، فذلك يقع على عاتق الخطابات والمؤسسات التي لا يروقها أن يصفق النص الإبداعي، حتى في الأحلام، بل تجند كل أدواتها، ومنابرها، وسكاكينها من أجل التيقن من قطع كل أصابع تلك اليد الواحدة واليتيمة.

(*) أنت تقول: «الشعر يأتي أولاً، والقصيدة هي النسخة الثانية من الشعر أو هي أشبه بالترجمة، أو الصورة الفوتوغرافية من الشعر». أليست هناك مبالغة في تعظيم دور الشعر؟

- لا أظن أن هناك مبالغة كبيرة إذا ما كنا مقتنعين بأن الشِّعر يتعلق بما نتوق إليه أكثر مما ننجزه على أرض الواقع، أو أنه يقع في نطاق معرفتنا وما هو مألوف ومُتوقَّع لدينا. أتذكر جملة من دوستويفسكي في «الإخوة كارامازاوف»: «إن الجَمال مستحيل لأن الرب لم يمنحنا سوى الألغاز»، وأظن أن هذا يلخص ما أريد قوله من ناحية أن الشِّعر مُطالب بالذهاب إلى ما وراء «الجَمال» و«الألغاز» معاً. في السينما استخدم روبير بريسون مفهوم «السينماتوغرافيا» المتداول بمعنى العمل التقني الذي يقوم به الشخص المتمهن الذي يقف خلف الكاميرا، لنكتشف لاحقاً أن «السينماتوغرافيا»، لدى بريسون، تعني نوعاً من ضروب التَّوق الروحي المستحيل، شكل جديد من «النرفانا» لا يمكن الوصول إليه بالأدوات والأساليب السينمائية التي كانت سائدة في عصره. بهذا المعنى نحن لا نعظِّم دور الشِّعر، ولكننا نطالبه بمزيد من التحولات التي عليها أن تضيء حياتنا. والشِّعر سيبقى دوماً مشروعاً ناقصاً.

(*) أين مكان الشاعر في هذا العالم؟ سأقتبس لك: «مشكلة الشَّاعر في الحرب مُضاعَفة وكارثيَّة: عليه أن يكون في المقدِّمة، والمؤخّرة، والميمنة، والميسرة. وبعد أن تضع الحرب أوزارها يقتلُ الشَّاعرَ المنتصرون والمهزومون معاً».

- سأجيبك باختصار وإيجاز. لا مكان للشاعر في هذا العالم. في الحقيقة، وخارج الأغراض البراغماتيَّة والمنفعيَّة التي زُجَّ فيها الشاعر (العرب، مثلاً، كانوا يستخدمونه بوصفه متحدثاً باسم القبيلة) لا يليق بالشَّاعر أن يكون له أي مكان. لكن أضعف الإيمان يقتضي أن مكان الشَّاعر هو أن تكون أعماله متاحة لمن أراد، وأن يتذكره خمسة أشخاص على الأكثر بعد انقضاء مائة سنة على الأقل من وفاته.

مخرجو السِّينما الكبار نجحوا لأنهم حوَّلوا الشِّعر إلى صور سمعيَّة وبصريَّة على الشَّاشة

• السينما والإنسان

(*) كيف كانت أول علاقتك بالسِّينما؟ كيف لفتى يعيش في بلد من آخر البلدان التي دخلها التلفزيون أن يكون شغوفاً بالسِّينما إلى هذا الحدّ؟

- في إجابتي عن سؤالك أجد نفسي متكئاً، بطريقة المُكرَه لا البطل، على «التَّطرف» الذي لم يكن منه بد في حياتنا العُمانيَّة المعاصرة، والذي أظن أنه أصابني بصورةٍ ما. أنت تعلم أنه كانت لدينا في عُمان ثورة مسلَّحة تقاتل تحت النجمة الماركسيَّة بوازع الصِّراع الطَّبقي. لكن أين؟ في جبال ظفار التي، للمفارقة، لم يكن نمط الإنتاج الاقتصادي فيها رأسماليَّاً حتى، بل هو نمط إنتاج آسيوي هجين من المشاعيَّة، والتبادل السِّلعي، والملكيَّة المحدودة.

لكن في الوقت الذي كانت فيه البنادق تلعلع في ظفار، شاهدت، أنا القادم من قرية لم تكن حتى فوانيس الجاز متوافرة في كل بيوتها السعفيَّة المتهالكة، أول فيلم في حياتي الصغيرة في الكويت ذات الكهرباء، والصُّحف، والطُّرق المسفلتة، والتيَّارات السياسيَّة، وقد كان ذلك في أواخر السِّتينات. كنت هناك بمعيَّة والدي في زيارة أشخاص؛ منهم المرحوم عبد الله زكريا الأنصاري الذي كان من أقارب أو أرحام العائلة البعيدين. أحد أو بعض من أولاد المرحوم الأنصاري، أو أولاد أقاربه، أخذوني إلى السِّينما، ذات ليلة. من تلك الزيارة السِّينمائية الأولى أتذكَّر مشهداً مُحدَّداً من الفيلم (الذي من الأرجح أنه كان كوميدياً): ثمَّة لصوص أشقياء يختبئون وسط قطيع ماشية كانوا يريدون سرقة بعضها، والجمهور يضحك لبؤس وفشل محاولاتهم المفضوحة.

بهذا أنظر إلى تلك التجربة السينمائيَّة الباكرة الراسخة في ذاكرتي. لقد كنت أعيش المفارقة التاريخيَّة ذاتيّاً وموضوعيّاً من دون أن أريد أو أدري. في الحقيقة، لم أفهم ذلك إلا بعد سنوات حين انخرط الوعي في قراءة الأشياء بصورة استعاديَّة وإسقاطيَّة.