عبد الله حبيب: لا مكان للشاعر في هذا العالم

الشاعر العماني يرى أن «نقد الآخر» يغلب على «نقد الذَّات» في الثَّقافة العربيَّة

عبد الله حبيب
عبد الله حبيب
TT

عبد الله حبيب: لا مكان للشاعر في هذا العالم

عبد الله حبيب
عبد الله حبيب

عُرف الشاعر والسينمائي العُماني عبد الله حبيب بوصفه واحداً من أهم محركات الحداثة في الخليج، زاوج بين الشعر والسينما، وكتب عدداً من النصوص والمجموعات الشعرية، إلى جانب الدراسات السينمائية، وهو حاصل على الدكتوراه في الدراسات النقديَّة السينمائيَّة، وقبلها الماجستير في الدراسات السينمائيَّة والثقافيَّة، والبكالوريوس في الفلسفة.

وهو عضو الجمعية العمانية للكُتَّاب والأدباء، وكان عضواً في جمعية الدراسات النقدية السينمائية والميديا الأمريكية، (1997 - 2006)، وعضو جماعة الدراسات ما بعد الكولونياليَّة في جامعة أوتاجو بنيوزيلاندا، وعضو اللجنة التأسيسية للسينما في مجلس التعاون لدول الخليج العربية، عضو مؤسس للجمعية العُمانيَّة للسينما. هنا حوار معه:

(*) ما الرابط بين الشعر والسينما؟ ماذا يعطي أحدهما الآخر؟

- تعريف «السِّينمائي» و«الفيلمي» قد يكون أقل صعوبة من تعريف «الشِّعري» و«الشَّاعري»، وهذه، بالطبع، مسألة نظريَّة، أو أكاديميَّة... إلخ. ومع ذلك فإن «الشِّعر» في سلوكه المتمرد خارج التعريف الكتابي الذي حاقَ به في كل ثقافات العالم يتجاوز التَّراكم المعرفي والتَّعريفي الذي تمكنَّا من إنجازه حتى الآن، في محاولة سبر غوره. وهذا يقودنا إلى مسألة معرفيَّة ووجوديَّة أخرى، هي حقَّاً أكثر تعقيداً، حول الرَّابط بين الشِّعر والسينما؛ فالمُشاهد قد لا يكون ضليعاً بالمحاججات السِّيميولوجيَّة المعقَّدة التي أوردها بيير باولو بازوليني، مثلاً، في سياق إصراره على أن السِّينما لغة للشِّعر وليس النَّثر، لكنه - أي المُشاهد - يستطيع أن «يرى» الشِّعر متحقِّقاً في فيلم بازوليني «الإنجيل وفقاً لمتَّى»، على سبيل المثال لا الحصر.

وسأضيف أن مُخرجي السِّينما الكبار إنما يُعتدُّ بهم لأنهم حوَّلوا الشِّعر إلى صور سمعيَّة وبصريَّة على الشَّاشة. خُذ، مثلاً، بيرغمَن، وبارادجانوف، وتاركوفسكي، وغيرهم.

• النص الإبداعي

(*) هل يحتاج إنتاج النصّ الإبداعي لوجود «حالة ثقافيَّة» تُواكب هذا النص وتوازيه؟

- مبدئياً، لا أعتقد ذلك، على الأقل ليس بالمعنى المباشر. الغرابة، واليتم، بل حتى الشيطانيَّة من صفات النص الإبداعي المتفرد، بغض النَّظر عن معطيات البيئة التي وُلِد فيها، ومع ذلك فإن النص الإبداعي (أيَّاً كان جنسه) ليس إلا نتاجاً للغة التي هي (أيَّاً كان شكلها) «حالة ثقافيَّة» بالمعنى الأنثروبولوجي والسوسيولوجي للتعبير، شئنا ذلك أم أبيناه.

لكن ما أقوله سيبدو محرجاً جداً حين نتأمل في موضوع «النَّص الإبداعي» و«الحالة الثقافيَّة»، بعد انقضاء ربع القرن الحادي والعشرين فيما يخص الثَّقافة العربيَّة. أعتقد أن هذه المشكلة صارت تخصُّنا نحن العرب فقط؛ فالثقافات الأخرى (ولا أقصد الغربيَّة فقط، بل ثقافات مناطق أخرى من آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية) تجاوزت هذا السؤال، وأعادت إنتاجه في ممارستها ومسارها، بعيداً عن التناقضات المبدئيَّة التي فرضتها الحالة السياسيَّة والتَّعقيدات التقليديَّة المرافقة لها. التاريخ يصنع الأسئلة، لكنه أيضاً يلغيها ويجددها بحيث إن بعض الأسئلة يتجرَّد من المعنى القديم بالتقادم.

وهكذا فإنه ليست لديَّ إجابة مثاليَّة عن سؤالك، لكنني سأقول بأنني بدأت التَّعالق مع أسئلة الثَّقافة والسِّياسة في بلداننا منذ أكثر من أربعين سنة، وعبر ما أتاحه التَّدرج العمري والثَّقافي. وبصراحة، أشعر، اليوم، بالسَّأم من مثل تلك الثُّنائيات الضِّدية التي لا تزال تهيمن على حواراتنا، في الوقت الذي ينهمك فيه بقية العالم في توكيد أو دحض أمور أخرى.

(*) هل يمكن أن يُنتَج نصّ حداثي في محيط لا يؤمن بالحداثة؟

- نظريَّاً، نعم. وأقول ذلك ببعض الثِّقة، خصوصاً بالنَّظر إلى الحالة العربيَّة التي تنتج نصوصاً أصيلة الحداثة في بيئة تنتمي بعض شروطها السياسيَّة والاجتماعيَّة إلى عصور ما قبل التاريخ تقريباً.

شخصيَّاً، لا أستطيع الانفكاك عن تصوُّر يكاد يكون سحريّاً وميتافيزيقيّاً عن حالة الحداثة في النَّص، لكن كلامي هذا يبقى متكئاً إلى النصوص الكلاسيكيَّة الكبرى. غير أنني، ومع إيماني بإنتاج نصٍّ حداثي في محيط لا يؤمن بالحداثة بل يحاربها، لا أستطيع أن أطمئن إلى هذا اليقين، إلى أن أموت. لماذا؟ لأن التَّاريخ والإنسان يتقدمان، ولا أستطيع أن أفرض على النَّص الحداثي أيَّ توقعات؛ هو نفسه - أي النصّ الحداثي - من سيغربلها.

وكلامي هذا متَّسق بالضَّبط مع الإصرار على الاستحقاقات المدنيَّة والحضاريَّة التي تليق بالمواطن العربي في القرن الحادي والعشرين، وبمتطلبات الحداثة فيه بشروط أبسطها الحريَّة؛ أي أن السؤال هنا يصير استفساراً عن المعطيات التي تنتج النَّص الحداثي لدينا. وغياب تلك الحريَّة سيتسبب في عُسْر كبير عند الحديث عن النَّص الحداثي في بلداننا. وفي غياب تلك الحريَّة المبدئيَّة والضروريَّة سيكون الأمر أشبه بالحديث عن الغيبيَّات.

• نقد الذات

(*) إلى أي حدّ يمكن للنَّقد أن يخلق نقاشاً يبدأ من نقد الذات؟

- قديماً قال سقراط «اعرف نفسك»، وأظن أن هذه كانت من أبكر الدعوات في الفلسفة الغربيَّة لنقد الذَّات. لكن، في الثَّقافة العربيَّة الرَّاهنة، صار يغلب علينا «نقد الآخر» أكثر من «نقد الذَّات»، وذلك من باب التَّهرب من المسؤوليات والاستحقاقات.

هذا التهرُّب المؤسف قد تكون له أسبابه الموضوعيَّة والوجيهة التي لا يمكن التخفيف من وطأتها؛ فذاتنا المعاصرة (بوصفنا «أُمَّة») إنما تكونت تحت سنابك ومؤامرات الغزاة الغربيين، وصولاً إلى ما يسمى «الدولة الوطنية»، غير أنني أعتقد أن «نقد الآخر»، خصوصاً مع صعود تيار دراسات ما بعد الكولونيالية، صار مِشجباً جاهزاً، وعذراً مجانيّاً، اتكاليّاً كسولاً، لتبرير إخفاقات الذات وإلقائها على «الآخر» في كل شاردة وواردة. من السهل أن تنقد الآخر، وليس من السهل أن تنقد نفسك.

(*) كنتَ تقول إنّ النصّ الإبداعي يصفق بيد واحدة، ما اليد الأخرى التي يحتاج إليها؟

- سأصارحك بأنني من الأشخاص الذين يستطيبون أن يصفِّق النص الإبداعي بيد واحدة، لكن، إذا كان لا بد من التصفيق مع النص الإبداعي بيد ثانية، فذلك يقع على عاتق الخطابات والمؤسسات التي لا يروقها أن يصفق النص الإبداعي، حتى في الأحلام، بل تجند كل أدواتها، ومنابرها، وسكاكينها من أجل التيقن من قطع كل أصابع تلك اليد الواحدة واليتيمة.

(*) أنت تقول: «الشعر يأتي أولاً، والقصيدة هي النسخة الثانية من الشعر أو هي أشبه بالترجمة، أو الصورة الفوتوغرافية من الشعر». أليست هناك مبالغة في تعظيم دور الشعر؟

- لا أظن أن هناك مبالغة كبيرة إذا ما كنا مقتنعين بأن الشِّعر يتعلق بما نتوق إليه أكثر مما ننجزه على أرض الواقع، أو أنه يقع في نطاق معرفتنا وما هو مألوف ومُتوقَّع لدينا. أتذكر جملة من دوستويفسكي في «الإخوة كارامازاوف»: «إن الجَمال مستحيل لأن الرب لم يمنحنا سوى الألغاز»، وأظن أن هذا يلخص ما أريد قوله من ناحية أن الشِّعر مُطالب بالذهاب إلى ما وراء «الجَمال» و«الألغاز» معاً. في السينما استخدم روبير بريسون مفهوم «السينماتوغرافيا» المتداول بمعنى العمل التقني الذي يقوم به الشخص المتمهن الذي يقف خلف الكاميرا، لنكتشف لاحقاً أن «السينماتوغرافيا»، لدى بريسون، تعني نوعاً من ضروب التَّوق الروحي المستحيل، شكل جديد من «النرفانا» لا يمكن الوصول إليه بالأدوات والأساليب السينمائية التي كانت سائدة في عصره. بهذا المعنى نحن لا نعظِّم دور الشِّعر، ولكننا نطالبه بمزيد من التحولات التي عليها أن تضيء حياتنا. والشِّعر سيبقى دوماً مشروعاً ناقصاً.

(*) أين مكان الشاعر في هذا العالم؟ سأقتبس لك: «مشكلة الشَّاعر في الحرب مُضاعَفة وكارثيَّة: عليه أن يكون في المقدِّمة، والمؤخّرة، والميمنة، والميسرة. وبعد أن تضع الحرب أوزارها يقتلُ الشَّاعرَ المنتصرون والمهزومون معاً».

- سأجيبك باختصار وإيجاز. لا مكان للشاعر في هذا العالم. في الحقيقة، وخارج الأغراض البراغماتيَّة والمنفعيَّة التي زُجَّ فيها الشاعر (العرب، مثلاً، كانوا يستخدمونه بوصفه متحدثاً باسم القبيلة) لا يليق بالشَّاعر أن يكون له أي مكان. لكن أضعف الإيمان يقتضي أن مكان الشَّاعر هو أن تكون أعماله متاحة لمن أراد، وأن يتذكره خمسة أشخاص على الأكثر بعد انقضاء مائة سنة على الأقل من وفاته.

مخرجو السِّينما الكبار نجحوا لأنهم حوَّلوا الشِّعر إلى صور سمعيَّة وبصريَّة على الشَّاشة

• السينما والإنسان

(*) كيف كانت أول علاقتك بالسِّينما؟ كيف لفتى يعيش في بلد من آخر البلدان التي دخلها التلفزيون أن يكون شغوفاً بالسِّينما إلى هذا الحدّ؟

- في إجابتي عن سؤالك أجد نفسي متكئاً، بطريقة المُكرَه لا البطل، على «التَّطرف» الذي لم يكن منه بد في حياتنا العُمانيَّة المعاصرة، والذي أظن أنه أصابني بصورةٍ ما. أنت تعلم أنه كانت لدينا في عُمان ثورة مسلَّحة تقاتل تحت النجمة الماركسيَّة بوازع الصِّراع الطَّبقي. لكن أين؟ في جبال ظفار التي، للمفارقة، لم يكن نمط الإنتاج الاقتصادي فيها رأسماليَّاً حتى، بل هو نمط إنتاج آسيوي هجين من المشاعيَّة، والتبادل السِّلعي، والملكيَّة المحدودة.

لكن في الوقت الذي كانت فيه البنادق تلعلع في ظفار، شاهدت، أنا القادم من قرية لم تكن حتى فوانيس الجاز متوافرة في كل بيوتها السعفيَّة المتهالكة، أول فيلم في حياتي الصغيرة في الكويت ذات الكهرباء، والصُّحف، والطُّرق المسفلتة، والتيَّارات السياسيَّة، وقد كان ذلك في أواخر السِّتينات. كنت هناك بمعيَّة والدي في زيارة أشخاص؛ منهم المرحوم عبد الله زكريا الأنصاري الذي كان من أقارب أو أرحام العائلة البعيدين. أحد أو بعض من أولاد المرحوم الأنصاري، أو أولاد أقاربه، أخذوني إلى السِّينما، ذات ليلة. من تلك الزيارة السِّينمائية الأولى أتذكَّر مشهداً مُحدَّداً من الفيلم (الذي من الأرجح أنه كان كوميدياً): ثمَّة لصوص أشقياء يختبئون وسط قطيع ماشية كانوا يريدون سرقة بعضها، والجمهور يضحك لبؤس وفشل محاولاتهم المفضوحة.

بهذا أنظر إلى تلك التجربة السينمائيَّة الباكرة الراسخة في ذاكرتي. لقد كنت أعيش المفارقة التاريخيَّة ذاتيّاً وموضوعيّاً من دون أن أريد أو أدري. في الحقيقة، لم أفهم ذلك إلا بعد سنوات حين انخرط الوعي في قراءة الأشياء بصورة استعاديَّة وإسقاطيَّة.


مقالات ذات صلة

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

عالم الاعمال جانب من أحد المعارض السابقة (الشرق الأوسط)

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

تطلق هيئة الأدب والنشر والترجمة النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء في الطائف خلال الفترة من 9 إلى 15 يناير (كانون الثاني) المقبل، تحت شعار «حضورك مكسب»

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.