«الإسلام في القرن الواحد والعشرين» تحتفي بابن طفيل

«الإسلام في القرن الواحد والعشرين»  تحتفي بابن طفيل
TT

«الإسلام في القرن الواحد والعشرين» تحتفي بابن طفيل

«الإسلام في القرن الواحد والعشرين»  تحتفي بابن طفيل

تواصل «رابطة الإسلام في القرن الحادي والعشرين» مسيرتها الصاعدة من خلال عقد الندوات والمؤتمرات، ثم بالأخص من خلال إصدار مجلة فصلية تحمل الاسم ذاته، أي مجلة «الإسلام في القرن الحادي والعشرين». وقد صدر عددها الرابع مؤخراً قبل أيام في باريس. ودشّنه رئيس الرابطة الدكتور صادق بلوصيف عن طريق افتتاحية طويلة نسبياً، ومليئة بالأفكار والتحليلات الجادة.
والدكتور بلوصيف هو مفكر جزائري الأصل وأحد كبار أطباء فرنسا في آن معاً. ولا غرابة في الأمر؛ فعلى مدار تاريخنا كان هناك فلاسفة أطباء أو أطباء فلاسفة من الطراز الأول. نذكر من بينهم ابن سينا الملقب بالشيخ الرئيس. فقد كان طبيباً عظيماً وفيلسوفاً ضخماً في آن معاً. إنه عبقري العباقرة. وقل الأمر ذاته عن الفيلسوف الأندلسي الكبير ابن باجة. وقل الأمر ذاته عن ابن طفيل صاحب رواية «حي بن يقظان» الخيالية المبتكرة. بل، وحتى ابن رشد تلميذ ابن طفيل لم يكن فيلسوفاً فقط، وإنما طبيب أيضاً.
على أي حال، فإن الدكتور صادق بلوصيف هو رئيس قسم التخدير والإنعاش في المستشفى الجامعي بمدينة «أميان» الفرنسية. كما أنه في الوقت ذاته عضو «جمعية الأطباء المسلمين» في فرنسا. فماذا يقول في افتتاحيته لهذا العدد الرابع يا ترى؟
إنه يقول لنا ما معناه: لقد خصصت جريدة «النيويورك تايمز» في عددها الصادر يوم 7 أبريل (نيسان) الماضي صفحة كاملة للمفكر العربي الكبير ابن طفيل تحت عنوان «المفكر المسلم الذي ألهم الكاتب الإنجليزي دانييل ديفو روايته الشهيرة: روبنسون كروزو».
من المعلوم أن رواية «روبنسون كروزو» صدرت في القرن الثامن عشر عام 1719، أي في عز عصر التنوير. وهي عبارة عن استعادة للرواية الفلسفية التي ألَّفها ابن طفيل في القرن الثاني عشر: أي قبل ذلك بستة قرون. وهذه هي المسافة الفاصلة بين التنوير العربي والتنوير الأوروبي. وهذا يعني أن التنوير كان أولاً عربياً إسلامياً قبل أن يصبح أوروبياً. وهذا هو معنى عبارة ريجيس دوبريه العميقة: العرب شهدوا تنويرهم قبل عصورهم الوسطى على عكسنا نحن. بمعنى أن العرب شهدوا التنوير طيلة القرون الستة الأولى من عمر الحضارة العربية الإسلامية، أي حتى موت ابن رشد عام 1198.
ثم بعد ذلك دخلوا في القرون الوسطى والعصور الانحطاطية الطويلة بعد انطفاء أنوار الفلسفة والفكر العقلاني مغرباً ومشرقاً على حد سواء. وقد استمرت عصورنا الوسطى حتى القرن التاسع عشر: تاريخ الانطلاقة الجديدة لعصر النهضة المجيدة. أما الأوروبيون فقد عاشوا في مرحلة ظلاميات القرون الوسطى طيلة ألف سنة حتى انطلقوا في القرن السادس عشر إبان النهضة الإيطالية المشهورة. وبعد ذلك خرجوا كلياً من مرحلة العصور الوسطى وحققوا الفتوحات العلمية والفلسفية الكبرى، واستمر تنويرهم متصاعداً حتى اليوم.
ثم يضيف بلوصيف:
إن فكرنا الحديث يعي جيداً تلك المناقشة الكبرى التي جرت بين العقل/ والإيمان، أو بين الفلسفة/ والدين. ومن هذه الزاوية، فإن ابن طفيل هو فعلاً مفكر سباق ورائد؛ لأنه طرح هذه التساؤلات منذ القرن الثاني عشر وأضاء للمفكرين الأوروبيين الطريق من أمثال دانييل ديفو الذي قلّده عن طريق تأليف روايته الشهيرة «روبنسون كروزو». إن المقارنة بين هاتين الروايتين العالميتين توسع الآفاق فعلاً وتثبت لنا أن الهموم البشرية واحدة أو متشابهة في نهاية المطاف. وهذا يعني أن إعادة قراءة قصة «حي بن يقظان» الفلسفية وقصة «روبنسون كروزو» الأدبية التي تلتها تساعدنا على فهم هذه المناقشة الفلسفية والميتافيزيقية الكبرى. وهي مناقشة لا تزال تشغل عالمنا اليوم أيضاً. إنها تشغل زمننا المليء بالقلق والغضب والاحتجاج. لا توجد ثقافة في العالم إلا وهي تطرح أسئلة جوهرية من نوع: من نحن؟ من أين جئنا؟ وإلى أين المصير؟ وجواب ابن طفيل يجمع بين حكمة التراث الإسلامي الكبير وحكمة الفلسفة اليونانية التي كانت معروفة جيداً في الأندلس آنذاك. بل وكان ابن طفيل ذاته أحد رعاتها الكبار.
أما المفوضة العامة للرابطة والمحركة الأساسية للمجلة الباحثة، إيفا جانادان، فقد أطرت كالعادة جميع المداخلات عن طريق كتابة مقدمة افتتاحية مهمة لكل مداخلة. وهي مقدمة تموضع كل مداخلة داخل إطارها التاريخي الواسع، وتساعدنا بالتالي على فهمها واستيعابها. ونفهم من كلامها وشروحاتها المعمقة أنها متخصصة فعلاً في التراث العربي الإسلامي وتعرف قضاياه وإشكالياته بشكل دقيق.
لكن ما هي عناوين هذه المداخلات، ومن هم أصحابها؟ المداخلة الأولى هي للدكتور مورينو الأعجمي بعنوان «الجنة والنار طبقاً للقرآن الكريم». والباحث المذكور هو دكتور في الطب، ودكتور في اللغة والآداب العربية في آن معاً. كما أنه مختص بالدرجة الأولى في الدراسات القرآنية.
أما المداخلة الثانية الواردة في هذه المجلة، فهي من تأليف الباحث مجدي الساحلي كما ذكرنا آنفاً. وهو حاصل على شهادة الدكتوراه في مجال الدراسات المتوسطية والشرقية. هذا، وقد ناقش أطروحة الدكتوراه عام 2012 في جامعة ستراسبورغ تحت إشراف البروفسور إريك جوفروا بعنوان «التصوف في رواية حي بن يقظان لابن طفيل (1110 - 1185): الجانب الروحاني الصوفي المختبئ تحت الجوانب الفلسفية».
وقد خلع على مداخلته العنوان التالي: هل حي بن يقظان فيلسوف أم متصوف عصامي؟ والبروفسور جوفروا هو أستاذ كبير في جامعة ستراسبورغ. وقد كان لي شرف ترجمة أحد كتبه إلى اللغة العربية تحت عنوان «المستقبل للإسلام الروحاني». منشورات المركز القومي للترجمة، القاهرة 2016.
أخيراً، فإن الباحثة إيفا جانادان تقول لنا ما يلي: إن رائعة الثقافة الإسلامية هذه، أي «حي بن يقظان»، تكمن أهميتها في أنها تقيم المصالحة بين الوحي والعقل، أو بين الدين والفلسفة. وهذا ما نحن بأمس الحاجة إليه اليوم. وذلك على عكس الإمام الغزالي الذي هاجم الفلسفة بضراوة في كتابه الشهير «تهافت الفلاسفة». فردّ عليه ابن رشد في كتابه الأشهر «تهافت التهافت». ولكن الغزالي انتصر لأننا كنا قد دخلنا في عصورنا الوسطى الانحطاطية الطويلة وغرقنا فيها رويداً رويداً. فهل استفقنا أخيراً يا ترى؟


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو
TT

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

في روايتها «عشبة ومطر» دار «العين» للنشر بالقاهرة - تختار الكاتبة الإماراتية وداد خليفة الثقافة العربية سؤالاً مركزياً حائراً بين واقع مشوّش ومستقبل مجهول، حيث تبدو اللغة والتاريخ وكأنهما ينازعان أنفاسهما الأخيرة للصمود داخل قِلاعها العربية نفسها.

وتعتمد الروائية على تقنية الأصوات المتعددة لتعميق صراعات أبطالها مع عالمهم الخارجي، حيث تتشارك كل من بطلة الرواية «عشبة» وابنها «مطر» في نزعة تراثية جمالية يتفاعلان من خلالها مع دوائرهما التي يبدو أنها تتنصّل من تلك النزعة في مقابل الانسحاق في مدّ «الثقافة العالمية» المُعلبّة، ولغة التواصل «الرقمية»، فتبدو بطلة الرواية التي تنتمي إلى دولة الإمارات وكأنها تُنازِع منذ أول مشاهد الرواية من أجل التواصل مع محيطها الأسري بأجياله المتعاقبة، حيث تُقاوم النزعة «السائدة» في ذلك المجتمع العربي الذي بات أفراده يتحدثون الإنجليزية داخل بيوتهم، ولا سيما أجيال الأحفاد وسط «لوثة من التعالي»، «فهؤلاء الأبناء لا يعرفون من العربية سوى أسمائهم التي يلفظونها بشكل ركيك»، في حين تبدو محاولات «عشبة» استدراك تلك التحوّلات التي طرأت على المجتمع الإماراتي أقرب لمحاربة طواحين الهواء، فتأتيها الردود من محيطها العائلي مُثبِطة؛ على شاكلة: «لا تكبّري المواضيع!».

صناديق مفتوحة

يتسلل هذا الصوت النقدي عبر شِعاب الرواية، فتبدو «عشبة» مهمومة بتوثيق العلاقة مع الماضي بذاكرته الجمعية التي تتقاطع مع سيرتها الشخصية منذ تخرجها في معهد المعلمات بإمارة الشارقة وحتى تقاعدها، لتعيد تذكّر تفاعل جيلها مع كبريات التغيّرات السياسية سواء المحلية، وعلى رأسها المخاض الطويل لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، وحتى سياقات الحروب والنكبات العربية منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وصولاً لمجازر «صبرا وشاتيلا» الدامية في لبنان 1982 والنزف الفلسطيني المُستمر، في محطات تجترها البطلة بعودتها إلى قصاصات الأخبار التي ظلّت تجمعها وتحتفظ بها من مجلات وصحف عربية لتؤرشفها وتُراكمها عبر السنوات داخل صناديق، ليصبح فعل تقليبها في هذا الأرشيف بمثابة مواجهة شاقّة مع الماضي، بينما تبدو الصناديق والقصاصات الورقية مُعادلاً للحفظ الإلكتروني والملفات الرقمية التي قد تتفوق في آلياتها وبياناتها، وإن كانت تفتقر إلى حميمية الذكرى، وملمس المُتعلقات الشخصية التي تنكأ لديها جراح الفقد مع كل صندوق تقوم بفتحه: «أعدت غطاء الصندوق الذي يحتاج مني إلى جرأة أكبر لنبشه، ففي الصندوق ثوب فلسطيني طرَّزته أمٌ ثكلى من بئر السبع... أم صديقتي سميرة أخت الشهيد، ودفتر قصائد نازقة دوّنته صديقتي مها من غزة... صورٌ لزميلاتي بالعمل من جنين ونابلس ورام الله... رسائل من صديقتي ابتسام المقدسية... ومن حيفا مفارش مطرزة من صديقة العائلة أم رمزي».

بالتوازي مع تنقّل السرد من حكايات صندوق إلى آخر، يتصاعد الصراع الدرامي لبطل الرواية «مطر» الخبير في تقييم التُحف، الذي يقوده شغفه بمجال «الأنتيك» والآثار القديمة لتتبع مساراتها في مزادات أوروبية تقترب به من عالم عصابات مافيا القطع الأثرية، كما تقوده إلى الاقتراب من حكايات أصحاب القطع الأثرية التي تُباع بالملايين في صالات الأثرياء، كحكاية «مرآة دمشقية» ظلّ صاحبها يتتبعها حتى وصلت لقاعة مزادات «كريستيز» حاملاً معه ذكرى حكاية جدته وأسرته وتشريدهم، وتصنيعهم تلك المرآة بأُبهتها الزخرفية والفنية في غضون ظروف تاريخية استثنائية خلال فترة سيطرة الحكم العثماني في دمشق.

نهب ممنهج

تبدو الرواية التي تقع في 350 صفحة، وكأنها تمنح حضوراً سردياً للقطع الأثرية المفقودة، والمنهوبة، بصفتها شواهد تاريخية تتعقب «تُجار الممتلكات الثقافية»، ودور المزادات، وأمناء المتاحف، وسط متاهات تزوير الوثائق الخاصة بالقِطع وشهادات المنشأ، وتهريب القطع من بلادها، ولا سيما بعد الربيع العربي والحروب الأهلية التي أعقبته، لتفتح ساحات السرقة الممنهجة للآثار في المواقع الأثرية العربية، كما في تونس ومصر وسوريا والعراق، في حين تبدو قصص القطع المفقودة أُحجيات تتبعها الرواية وتحيكها بخيوط نوستالجية تمدّها الكاتبة على امتداد السرد.

تعتني لغة الرواية بالوصف الدقيق للتفاصيل الجمالية التي تبدو في صراع متواتر مع تيار محو أعنف، كقطع السجاد الأصيل وأنواله التقليدية، والزخارف الغرناطية العتيقة على الأسطح، في مقابل ثقافة «الماركات» الاستهلاكية التي تُميّع الذوق العام، والحروف اللاتينية التي تُناظر الحروف العربية وتُغيّبها في لغة الحياة اليومية.

وقد حازت رواية «عشبة ومطر» أخيراً جائزة «العويس للإبداع»، ومن أجواء الرواية نقرأ:

«كنتُ قصيراً، أقفز كي تلمس أطراف أصابعي مطرقة الباب، وبعد أن كبرت قليلاً، وأصبحت أمسكها بيدي، استوقفني شكلها الذي صُنع على هيئة يد بشرية، ثم أدركت أن هناك مطرقتين فوق بعضهما، تعجبت، وسألت أمي عن السبب فقالت: (كانت لدروازتنا مطرقة واحدة، لكن والدك أبهرته فنون بغداد، فجلب منها مطرقتين، مثبتاً المطرقة الأكبر في الأعلى للرجال والمطرقة الأصغر أسفل منها للنساء، ليختصر بذلك السؤال عن هُوية الطارق، فكنا نُميّز الطارق رجلاً أم امرأة من صوت المطرقة)... بِتُ أنصت للطَرق، كنت أعرف طرقات أمي الثلاث، وتعرف أمي طرقاتي المتسارعة، كان هناك طَرقٌ مُبشر، وطرقٌ يخلع القلب، طرق هامس مُدلل، وطرق يُشبه كركرة الأطفال».