نيتشه... فن تحويل اللغة اليومية إلى مستويات فنية غير مسبوقة

بنى علاقة مع القراء تتجاوز برودة مطالعة النص المكتوب

الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه
الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه
TT

نيتشه... فن تحويل اللغة اليومية إلى مستويات فنية غير مسبوقة

الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه
الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه

ذهب الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844 – 1900) إلى رفض المفاضلة بين العقل والغريزة، وتحدث عن تشابكهما. فالكلام عنده قد يكون طوعياً متعقلناً، أو تلقائياً غريزياً. فنحن ننطلق من وجهة نظر محددة لما نريد قوله، ثم يأخذ نظام اللغة وإجراءات الكلام الأمر من يدنا ويدير الحديث كسائق آلي، فيما يترك ذلك عقلنا متحرراً من ضغط الصياغة اللحظية ويدعه لإدارة أمور أخرى، وهي بالتأكيد ميزة عظيمة للعقل البشري.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن المعرفة الفلسفية التي يتم التعبير عنها من خلال الكلام قد تنتهي إلى ذلك المكان تماماً، أقرب للفعل الغريزي منه للتعقل. ولعل ضمانتنا الوحيدة لمنع انزلاقها نحو اللاطوعية هي في بناء مجال لغوي خاص يمكن من استفزاز العقل دون خلق لغة خاصة بديلة، وإلا انتهت الفلسفة إلى الانفصال نهائياً عن العالم الحي، وانعزلت في كوكبها الخاص تماماً كما يحدث الآن في أبراج الأكاديميات العاجية.
نيتشه رفض دائماً التعاطي بتلك المصطلحات المجردة التي يخترعها الفلاسفة ليقرأها أقرانهم وسعى بدلاً من ذاك إلى رفع سوية اللغة اليومية وصقلها وأوصلها في الممارسة الفلسفية إلى مستويات فنية غير مسبوقة. ولقد بقيت لغته في متناول الأغلبية رغم إمكان فهمها على عدة مستويات مختلفة بحسب ثقافة المتلقي. ونيتشه في ذلك قد جعل خياره الأسلوبي في الكتابة شكلاً من أشكال التفلسف بحد ذاته.
التشابك العضوي بين العقل والغريزة الذي يتحدث عنه نيتشه يسمح له وقتما يكتب بالتخلي عن الجدال والتظاهر والألعاب اللغوية ويفاجئنا بعميق الرؤى التي توسع إمكانيات المعرفة الفلسفية، وبالتالي زعزعة الأسس التقليدية للجدال والتظاهر. وبهذه الطريقة «تُخلق» الفلسفة بالمعنى الذي يستشعر نيتشه: فهي تفتح إمكانيات جديدة لفهم وتشكيل العالم وأيضاً معرفة ذاته، ولكنها مع ذلك لا تُخلق إلا من مادة الإمكانيات المتاحة في لحظة معينة بما فيها اللغة والمعارف التي قد يتم توسيعها في البحث الفلسفي، ولكن دائما ضمن ممرات محددة.
يميل نيتشه إلى ربط عضوي بين نشوء الوعي الإنساني وتطور اللغة، إذ إن كل وعي جديد بحاجة إلى لغة أكثر تعقيداً للتعبير عنه، كما أن استيعاب التعقيد المتزايد في بنية التكوينات اللغوية يتطلب بالضرورة مزيداً من الوعي. وهو لذلك يرى أن الوعي الفردي في واقعه مشتق أساساً من وعي جمعي وفق منظور القطيع، وبالتالي فإن كل وعي فردي إنما يتطور بدقة في إطار مدى خدمة ذلك الوعي للحياة المشتركة. وعليه فإن أي جهد مخلص يبذله أحدنا لفهم ذاته عبر وعيه الفردي سيأخذه حتماً إلى فضاء الوعي الجمعي - اللافردي - الأقرب إلى حالة وسطية لمجموع وعي (القطيع)، وهو فضاء مهما اتسع فإنه يفرض سقفاً لكل فكرة فردية، ويعيدها دائماً إلى حظيرة القطيع.
وإذا ترتب على هذا التصور من شيء، فإنه من الأولى أن ينطبق على المعرفة الفلسفية ذاتها التي وفق ما ذهب إليه نيتشه ستكون حكماً داخل فضاء (القطيع) المجتمعي. فكيف يتسق ذلك مع دور الفلسفة في استكشاف سماوات غير مطروقة في الفكر والعمل، وأين تقع «الثورات العلمية» – وفق تعبير توماس كوهين – التي تطيح بكل قيود على العقل في هذا السياق؟
يصف نيتشه الفلسفة بأنها وعكس المعارف البشرية الأخرى لا تسعى لاستعادة غير المألوف إلى مساحة المعلوم المعرف بحكم الخوف من المجهول الذي يوجه حاجتنا للبحث والمعرفة، بل تحديداً مساءلة ذلك المعلوم، وإظهار غرائبيته، وتباعده عنا، ووقوعه خارج نطاقنا. وهي لذلك – ودائماً وفق نيتشه – تجربة فردية شجاعة يعرض فيها الإنسان ذاته للخوف، ويتحدى شعوره الغريزي بالحاجة إلى الألفة والأمان، ويخاطر بفقدان الاتجاه جاعلاً من نفسه سيرة استكشاف لأجل بشرية جديدة ستجد دائماً بأنها تطوف على سطح بحر مفتوح غاضب، وأنها ينبغي أن تستمد القوة والإلهام من داخلها إن هي أرادت النجاة. الفلسفة هكذا تصبح قهر الخوف من مواجهة غير المألوف، الأمر الذي يستدعي اللغة والوعي والمعرفة معاً لأن يشرع كل منها بكسر سقوفه الزجاجية.
وفق هذه المجادلة، يبدو نيتشه وكأنه يُخاطر – كفيلسوف - بألا يفهمه غالب (القطيع)، أو على أفضل الأحوال، أن يُساء فهمه. وفي الواقع، فإنه ذكر في غير موضع من نصوصه أنه لاحظ ذلك كثيراً معتبراً إياه ثمناً لا بد من دفعه عند محاولة التحليق خارج سقف (القطيع)، وأن ذلك نوع من الميزة لا العيب في وسط يمارس العنف لتدجين اللغة وحصرها ضمن الأطر المتعارف عليها، وهو عنف يصفه نيتشه بأنه مقبول ومرحب به من قبل الأغلبية لأنه يمكنها من الشعور بالأمان والسيطرة على المصير، واضعاً في الوقت نفسه تلك القلة من الرواد الاستثنائيين في مربع صعوبة عبور نصوصهم ومحدودية جمهورهم.
نيتشه، في مختلف أعماله كان واعياً بالكلية لتلك المسألة، وهو يريد عندما يكتب أن يختار، من خلال أسلوبه عند استخدام اللغة، جمهوره الذي يرغب بالتواصل معه، وفي ذات الوقت أن يبني جدراناً عازلة تمنع كل الآخرين من النفاذ إلى أفكاره. يبدو نيتشه بذلك وكأنه يمارس عنفاً مضاداً في وجه عنف اللغة، لكنه عنف معقلن، يخدم كأداة لامتلاك ثبات الجأش قبالة هاوية المجهول وغير المألوف.
يتحدث نيتشه عما يسميه منطقاً متوارياً يسكن أسلوب الكتابة ويعتمده عند تدوين نصوصه، ويمنحه الوسع لبناء علاقة مع القراء تتجاوز برودة عملية مطالعة النص المكتوب إلى ما يشبه الخطاب المباشر، فكأنهم يستمعون إليه أكثر مما هم يقرأونه. هؤلاء المستمعون وبحكم قدرتهم على ترك انحيازاتهم الشخصية جانبا يلحظون لدى ممارسة طقوس التعامل مع النصوص نوعاً من موسيقى داخلية ذات إيقاع ونبرة مميزين، يمكن من خلالها التقاط معالم فردانية الكاتب وديدنه في صوغ أفكاره.
هذا المنطق المتواري داخل أسلوب الكتابة يتطلب التقاطه، وفق نيتشه، أذناً مرهفة وخبيرة في آن، قادرة على مواجهة حقائق مفاجئة وصادمة لا يحتاج طرحها إلى طويل تقديم، ويكون تأثيرها على المتلقين صريحاً في برودته، وربما يكون متسبباً بالهلع لهم لدرجة أنهم قد لا يتحملون وقعها إلا لفترة وجيزة. هذه الحقائق، تتسبب لغير أصحاب الآذان المرهفة بفقدان للأمان، فلا يطيقون سماعها، «إذ لم تمنحهم الحياة من عطاياها سوى السذاجة».
نصوص نيتشه بهذا المعنى لا تسعى إلى تخريب شعور الأفراد بالأمان، بقدر ما تهدف إلى تنبيهم إلى حقائق العالم القاسية، وإلهامهم لفعل ما يمكنهم فعله تجاهها. وهي لذلك محاطة بجدر فاصلة عن الضعفاء والأبرياء والسذج وتخاطب جمهوراً محدداً لديه مزاج للاستقلال الفكري، والمرونة لتغيير المواقف، وعنده رغبة في التجوال عبر آفاق الحياة.
بالطبع، فإنه من المستحيل عملياً الوصول إلى فهم متطابق بين ما قصد إليه الكاتب وما التقطه القارئ، وخصوصا أحداً مثل نيتشه بكل تعقيد أفكاره وفجاجتها، وكل ما يتأمله المرء هنا هو التقاط ذبذبات الموسيقى الداخلية للنص و(الرقص) على أنغامها. وبعكس اللغة المحملة بتعدد المعاني والتأويلات الممكنة، فإن الرقص، عندما تعجز اللغة، أصدق تعبيراً وأبلغ، وأقدر على نقل التدرجات والتلوينات الدقيقة للفكر المجرد. نيتشه نفسه كان يقول عن نفسه إنه «مقيم في تلك التنويعات على الأفكار».



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي