السودان بين خطوات «تصحيح المسار» ومخاوف «الانقلاب»

الصراع بين المكونين المدني والعسكري يُدخل البلاد نفقاً مظلماً

السودان بين خطوات «تصحيح المسار» ومخاوف «الانقلاب»
TT

السودان بين خطوات «تصحيح المسار» ومخاوف «الانقلاب»

السودان بين خطوات «تصحيح المسار» ومخاوف «الانقلاب»

التصاعد في أحداث السودان الأخيرة ليس وليد الصدفة، أو محض مفاجأة سواء للداخل أو الخارج. إذ سبق أن أكد المراقبون والمتابعون لسير عملية الانتقال السياسي هناك عقب إطاحة نظام عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019 هشاشة العملية في ظل استمرار الصراع بين المكونين المدني والعسكري المسؤولين عن تنفيذ عملية الانتقال الديمقراطي. وهو صراع تزايد في الآونة الأخيرة مع تمسك كل طرف بمواقفه.
بين مؤيدين يصفون التطورات الأخيرة في السودان بأنها «خطوة لتصحيح المسار»، ومعارضين يرونها «انقلابا على الثورة»، تتأزم الأوضاع وسط تهديدات بالعزلة الدولية، واحتجاجات داخلية تنذر بحالة «عصيان مدني»، وضغوط اقتصادية في ظل نفاد المخزون الاستراتيجي لعدد من السلع الرئيسة... وكل هذا ينتج مشهدا مربكاً للداخل والخارج، وسط مخاوف من أن تنزلق البلاد إلى نفق الحرب الأهلية.
وتيرة الأحداث تسارعت بعد البيان المتلفز الذي ألقاه عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة في السودان، يوم الاثنين الماضي، معلنا «حل مجلسي السيادة والوزراء، وتولي الجيش السلطة، لإكمال الفترة الانتقالية وتجميد بعض بنود الوثيقة الدستورية، وتجميد لجنة تفكيك تمكين الرئيس السابق عمر البشير». وتزامن البيان مع أنباء عن حملة اعتقالات لعدد من المسؤولين المدنيين، بينهم رئيس الوزراء السوداني الدكتور عبد الله حمدوك، لتبدأ موجة من الانتقادات الدولية التي وصفت ما حدث بـ«الانقلاب»، رغم تأكيد البرهان «التزامه بالوثيقة الدستورية، وأن القوات المسلحة ستواصل مسيرتها لاستكمال عملية التحول الديمقراطي، وتسليم القيادة لحكومة مدنية منتخبة بحلول يوليو (تموز) 2023 لتشتعل الساحة السودانية، مهددة الأمن القومي في الإقليم.

- انسداد سياسي
الدكتورة أماني الطويل، مديرة البرنامج الأفريقي في مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية ورئيسة تحرير سلسلة «أفريقيات»، رأت في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن تحرك البرهان في أعقاب «انسداد أفق الحل السياسي، وشخصنة الأزمة بين المكونين المدني والعسكري على خلفية التراشق اللفظي بين الجانبين في الفترة الأخيرة، وإصرار المكون العسكري على حل الحكومة، في الوقت الذي يشعر المكون المدني بالتفوق في ظل الدعم الأميركي المطلق له». وأردفت أنه «فشلت كل المحاولات للتوصل إلى حل سياسي، بما في ذلك مبادرات حمدوك نفسه».
وحقاً، كان السودان قد شهد محاولة انقلاب فاشلة في 21 سبتمبر (أيلول) الماضي، حين أعلن مجلس السيادة السوداني إحباطه محاولة للاستيلاء على السلطة، مؤكداً «انتصار الثورة التي أطاحت بنظام البشير». وهذه المحاولة وصفها مراقبون في حينه بأنها «قد تكون بالون اختبار لمحاولة انقلاب عسكري». إلا أن ما فاقم الأزمة توتر الأوضاع في إقليم شرق السودان مع احتجاجات قبائل البِجا على تهميشهم في «اتفاق جوبا للسلام» الموقع عام 2020، وإغلاقهم الموانئ الرئيسية للبلاد، متسببين في تفاقم الأزمة الاقتصادية، ونفاد السلع الاستراتيجية، وبخاصة القمح والوقود.
وهنا يقول الدكتور هاني رسلان، مستشار مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، لـ«الشرق الأوسط» إن التراشق اللفظي بين المكونين العسكري والمدني وصل لاحقاً، إلى حدود «تجاوزت كل الأعراف العسكرية، مع تزايد الاستقطاب بين الجانبين، وفشل كل الحلول الوسط للخروج من الأزمة، ما دفع البرهان للإطاحة بالحكومة حفاظاً على استقرار البلاد، فيما يشبه الانقلاب على الوثيقة الدستورية». ويضيف رسلان أن الوضع في السودان «معقد ومركب، بوجود الخلافات داخل المكون المدني نفسه، وخروج جماعة الميثاق من تحالف الحرية والتغيير... واعتصامها أمام القصر الرئاسي».
جدير بالذكر أنه بموجب الوثيقة الدستورية السودانية الموقعة في أغسطس (آب) 2019، يجري تقاسم الحكم بين مكون عسكري يمثله مجلس السيادة، ومكون مدني ممثل بمجلس الوزراء. ومن ثم يقود الجانبان البلاد خلال مرحلة انتقالية تمهد لعقد انتخابات ديمقراطية.
وبالفعل، شُكلت حكومة حمدوك في فبراير (شباط) الماضي، وهي الثانية منذ الإطاحة بالبشير، وكان المراقبون يعلقون عليها الآمال في قيادة عملية التحول الديمقراطي «الصعبة»، لكن يبدو أن هذه الآمال تبددت مع حملة اتهامات متبادلة بين المكونين المدني والعسكري وصلت إلى حد مطالبة الجيش بإقالة البرهان، وأدت في النهاية إلى الإطاحة بحمدوك، بعد عدة محاولات فاشلة.

- بيانات وإدانات دولية
فور إعلان البرهان حالة الطوارئ توالت البيانات والقرارات الدولية التي تهدد بعزل السودان دولياً. إذ أصدر الاتحاد الأوروبي و10 دول غربية بياناً مشتركاً بعد الإفراج عن حمدوك، شددوا فيه على ضرورة الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين دون تأخير، مؤكدين «اعترافهم بحمدوك رئيسا لمجلس الوزراء». أما الولايات المتحدة، التي كانت داعمة للمكون المدني منذ البداية، فباشرت ضغوطاً على البرهان لإعادة السلطة إلى الدكتور حمدوك، وعلقت المساعدات الأميركية للسودان وقيمتها 700 مليون دولار، وأجرى وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن اتصالات دوليا وعربيا للضغط على البرهان، بينما علق البنك الدولي مساعداته للسودان في أعقاب ما وصفه بـ«الانقلاب العسكري».
كذلك أصدرت دول «الترويكا» المعنية بملف السودان، وهي الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج، بيانا تنديدياً مطالبة بعودة الحكم للمدنيين، كما أعلن الاتحاد الأفريقي، تعليق عضوية السودان في الاتحاد لحين الاستعادة الفعلية للسلطة الانتقالية بقيادة المدنيين».
ورغم ردود الفعل الدولية المنددة بتحركات البرهان، فإن مجلس الأمن الدولي فشل في اتخاذ قرار يندد بـ«استيلاء العسكريين على السلطة» في السودان. وبرر مراقبون ذلك بصراع القوى الخارجية على النفوذ، بين واشنطن المطالبة بإدانة الانقلاب، وموسكو وبكين الباحثتين عن دور في المنطقة. وهنا يقول رسلان إن «الصين وروسيا طامحتان إلى أن تحلا مكان الولايات المتحدة في السودان... والغرب يتصرف تجاه ما حدث بقدر كبير من الحدة، كما يتضح في بيانات دوله الرافضة لإجراءات البرهان».
القوى الدولية تصر على عودة السلطة للمدنيين، على أساس الوثيقة الدستورية. وفي السياق نفسه أكد رئيس البعثة الأممية فولكر بيترس، عقب لقائه والبرهان أن «الأمم المتحدة قدمت بعض الاقتراحات للعودة إلى حوار شامل وعاجل لاستعادة الشراكة على أساس الوثيقة الدستورية واتفاقية جوبا للسلام».
أما عربياً، فقد أعربت جامعة الدول العربية عن قلقها من تطورات الوضع، مطالبة بالالتزام بالخطوات الانتقالية المتضمنة في الوثيقة الدستورية واتفاق جوبا. وتضمنت بيانات الدول العربية إبداء القلق ومتابعة التطورات، فدعت مصر جميع الأطراف لضبط النفس وتغليب مصلحة الوطن، وأكدت المملكة العربية السعودية دعمها شعب السودان، داعية إلى الحفاظ على ما تحقق من مكتسبات سياسية واقتصادية.
وبينما يؤكد مراقبون معارضة المجتمع الدولي ما حدث في السودان، يرى آخرون أن «المجتمع الدولي منقسم بين مؤيد وداعم لخطوات البرهان، ورافض لها»، من بينهم السفير صلاح حليمة، نائب رئيس المجلس المصري للشؤون الأفريقية، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إن «المجتمع الدولي، مثله مثل الشارعين العربي والسوداني، منقسم إزاء ما يحدث، فحتى الآن لم يصدر بيان من مجلس الأمن يصف ما حدث بالانقلاب».

- تصحيح المسار
البرهان، في مؤتمره الصحافي، قال عن تحركات الجيش إنها «ليست انقلابا بل محاولة لتصحيح المسار، وإن حمدوك ليس معتقلا، وسيعود إلى منزله». وهو ما حدث، إذ عاد حمدوك إلى منزله - رغم وضعه تحت الحراسة - وأجرى عدة مقابلات مع ممثلين للأمم المتحدة ودول العالم، وأدلى بتصريحات صحافية أكد فيها أن «أي تراجع عن المسار الديمقراطي يشكل تهديداً لاستقرار السودان وأمنه».
ويعتبر مؤيدو خطوات البرهان أن «ما حدث كان ضرورياً، وأن البرهان لم ينقلب على السلطة لأنه كان في السلطة». ويقول حليمة إن «ما فعله البرهان خطوة لتصحيح المسار، ولحماية أمن واستقرار السودان»، فمفهوم الانقلاب أن تتولى سلطة الحكم مكان سلطة أخرى وهذا لم يحدث، إذ إن البرهان كان ولا يزال رئيس المجلس السيادي، إضافة إلى أن اللجوء لحالة الطوارئ منصوص عليه في الوثيقة الدستورية ولا يعد خرقا لها، مشيرا إلى أن «البرهان تعهد بالتمسك بالوثيقة، واتفاق جوبا، ووعد ببرنامجين لانتقال السلطة طويل وقصير المدى، مع إعادة تشكيل المكون المدني على أسس تشمل كافة مناطق السودان، والتخلص من احتكار جماعة الحرية والتغيير للسلطة».
ولكن، على الأرض انتشرت دعوات للعصيان المدني، وأعلن عمال نفط وأطباء عزمهم الانضمام للاضطرابات، وتواصلت الاحتجاجات في الشارع ما أسفر عن قتلى في صفوف المدنيين، بحسب تقارير إعلامية. ومن الشارع إلى الحكومة انتقلت حالة العصيان والتمرد، فأصدر عدد من سفراء السودان في الخارج بيانات يرفضون فيها إجراءات البرهان، ما دفع الأخير إلى إقالة 6 سفراء هم سفراء الاتحاد الأوروبي وقطر والصين وفرنسا، والولايات المتحدة، ورئيس البعثة السودانية بجنيف.
اليوم العصيان المدني هو «الخطر الأكبر» الذي يهدد السودان. وترى أماني الطويل أن «حسم الصراع في السودان الآن في يد الشارع. وهو الذي يستطيع توجيه دفة الأحداث، لو استطاع تعطيل الدولة، بالتزامن مع تمرد بعض الوزارات على البرهان، وبعض السفراء أيضا، وهو ما سيدفع البرهان في النهاية لتسليم السلطة»، وذلك بالتزامن مع الأوضاع الاقتصادية التي يفاقمها التضييق الخارجي على المساعدات والتمويل.

- سيناريوهات الحل
مراقبون يضعون الآن «سيناريوهات» متعددة للحل. منها المتفائل بقدرة البرهان على عبور الأزمة، ومنها المتشائم المتخوف من انهيار الدولة أو سقوطها في براثن الحرب الأهلية. وهنا تقول «مجموعة الأزمات الدولية» في تقريرها عن الأوضاع في السودان إن «الوضع خطير على السودان وجيرانه، وإذا استمر سيهدد بكارثة في المنطقة. والأولوية الآن حقن الدماء في الشارع، يليها عودة الأمور إلى نصابها باعتبارها السبيل الوحيد لقيادة البلاد نحو عملية تحول ديمقراطي وانتخابات حرة».
وراهناً تلعب الضغوط الخارجية دورا في تحريك الصراع على الأرض، والدفع باتجاه حل الأزمة، وخاصة من واشنطن والقاهرة والعواصم الخليجية. وتقول الطويل إن «ثقة العالم في جدارة المكون المدني ضعيفة، نتيجة لانقساماته المبكرة بانسحاب الحزب الشيوعي وما تلاها، حيث لم يظهر المكون المدني كقوة توازن وتوازي المكون العسكري... وهو ما يوحي بأن المجتمع الدولي سيضغط من أجل استمرار الشراكة بين الجانبين العسكري والمدني، مع تغيير بعض الوجوه التي كانت سبباً في الأزمة ومن بينها حمدوك نفسه».
ثم إن التطورات على الأرض تؤكد وفق مراقبين «صعوبة تراجع البرهان عن قراراته» في أعقاب الضغوط من داخل القوات المسلحة نفسها للإطاحة بالحكومة المدنية. وهنا يقول رسلان إن «البرهان سيتحمل منفردا عبء معالجة الملفات الصعبة التي تواجه البلاد، من خلل أمني واقتصاد منهار، واحتجاجات شرق السودان، وسيكون عليه حماية البلاد من الانزلاق نحو دائرة العنف». بينما يرى حليمة أن «البرهان قادر على احتواء الموقف وقيادة البلاد إلى بر الأمان».
ومعلومٌ أن البرهان يواجه حالياً تحديات كبرى ناجمة عن الانهيار الاقتصادي، الذي ازداد سوءاً بعد الاحتجاجات التي قادتها قبائل البِجا في شرق السودان، وإغلاقها للموانئ الرئيسية ما أدى إلى استفحال الأزمة. ورغم تأييد هذه القبائل لخطوات البرهان، يبدو أن على القيادة السودانية الآن حل عدد من المشاكل العالقة من بينها اتفاق جوبا - الذي ترفضه قبائل البِجا - إضافة إلى العمل على إرضاء المجتمع الدولي وإقناعه بأن إجراءاته كانت فعلا لتصحيح المسار... وأنه عازم على تسليم السلطة للمدنيين.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.