بروفايل: أليكس صعب... الوسيط الغامض وكنز الأسرار المالية لنظام فنزويلا

لبناني الأصل من مواليد كولومبيا يواجه التحقيق الأميركي

بروفايل: أليكس صعب... الوسيط الغامض وكنز الأسرار المالية لنظام فنزويلا
TT

بروفايل: أليكس صعب... الوسيط الغامض وكنز الأسرار المالية لنظام فنزويلا

بروفايل: أليكس صعب... الوسيط الغامض وكنز الأسرار المالية لنظام فنزويلا

يقول الصحافي خيراردو ريّس، الحائز جائزة «بوليتزر» المرموقة في كتابه الموثّق حول الكولومبي أليكس صعب، المتحدر من أصول لبنانية «يعجز أصدقاء علي صعب، الذي غيّر اسمه في الثامنة عشرة من عمره ليصبح أليكس صعب، كيف تمكّن هذا الرجل العادي جداً، والمتواضع في طموحاته، والذي لا يُعرف له أي ولع سوى حبّه لأولاده، من أن يصبح (الثعلب المالي) للثورة البوليفارية في فنزويلا. بل، وكيف يعود يوماً إلى مسقط رأسه في مدينة بارّانكيّا على متن طائرته الخاصة بعدما كان مثقلاً بالديون وهارباً من ملاحقة الدائنين».
ويضيف ريّس في محادثة عبر «واتساب» مع «الشرق الأوسط» قائلاً «إنها لقصة مثيرة سيرة هذا التاجر الذي كان يبيع منتوجات جلديّة في دكان صغير، قبل أن يبدأ إبحاره بين أمواج الفساد الفنزويلي الصاخبة والحصار الذي فرضته الولايات المتحدة على فنزويلا... إلى أن أصبح بقاء الدولة الفنزويلية مرهوناً بمناوراته المالية والتجارية المرتجلة».

في مطلع الصيف الماضي، ألقت شرطة جمهورية الرأس الأخضر (في غرب أفريقيا) القبض على أليكس صعب تنفيذاً لمذكرة جلب صادرة بحقه عن الإنتربول (الشرطة الدولية) بعدما حطّت طائرته للتزوّد بالوقود في طريقها إلى طهران.
يومذاك امتلأت شوارع العاصمة الفنزويلية كراكاس بصوره ورسومه، والشعارات المطالبة بإطلاق سراحه ورفض التجاوب مع طلب الولايات المتحدة تسليمه لمحاكمته، بتهم الفساد وغسل الأموال وانتهاك نظام العقوبات... التي كانت واشنطن فرضته على نظام نيكولاس مادورو.
قبل ذلك التاريخ، كان صعب شخصاً مجهولاً لم يظهر سوى مرة واحدة في الأماكن العامة أواخر العام 2011، عندما كانت لا تزال العلاقات الدبلوماسية قائمة بين فنزويلا وكولومبيا. ذلك لقاء عُقد بين الزعيم الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز والرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس من أجل توقيع اتفاق بناء مساكن شعبية كانت الشركة التي يملكها صعب ستتقاضى مبلغ 530 مليون دولار أميركي للشروع في بنائها. ولقد روى سانتوس بعد ذلك أنه اقترب في تلك اللحظة من وزيرة خارجيته وهمس في اذنها «مَن هو هذا الرجل»؟
كان ذلك «باكورة» العقود التي جعلت من صعب «الذراع المالية للثورة البوليفارية» الفنزويلية التي أغدقت عليه بمئات الملايين من الدولارات بعدما صار خبيراً في الالتفاف على الحصار الاقتصادي الذي فرضته واشنطن على فنزويلا.
لقد كان ينقل سبائك الذهب من المصرف المركزي الفنزويلي لبيعها في تركيا، ويقيم علاقات مباشرة مع قيادات النظام الإيراني، ويخرج في طائرة خاصة من كراكاس بعدما كان دخلها مفلساً ومديوناً.
كان نفوذ صعب في فنزويلا يتجاوز، حقاً، ما يتمتّع به معظم وزراء حكومة مادورو من صلاحيات ومهام... كما جاء في تقرير وزارة المال الأميركية المرفق بالطلب الذي قدمته إلى الإنتربول لإصدار مذكرة جلب في حقّه، والذي يؤكد أنه كان الوكيل الشرعي الخاص للرئيس الفنزويلي وزوجته وبعض أفراد عائلته.

- البداية والنشأة
وُلد علي (أليكس، لاحقاً) صعب لوالد لبناني اسمه نعيم، كان قد هاجر إلى كولومبيا في مطلع خمسينات القرن الماضي. ثم تزوّج من ابنة أحد المهاجرين الفلسطينيين واستقرّ في مدينة بارّانكيّا الساحلية، التي تدور فيها أحداث رواية غارسيّا ماركيز الشهيرة «وقائع موت معلن»... ولقد قال غابرييل غارسيا ماركيز يوماً في مكسيكو سيتي، إن «كل شخصياتها وأحداثها واقعية، باستثناء الشخصية الرئيسية التي هي المهاجر اللبناني سانتياغو نصّار، الذي كان في الواقع مهاجراً إيطالياً». لكن حامل جائزة نوبل للآداب اختار أن يجعله لبنانياً لكثرة اللبنانيين في تلك المنطقة الكولومبية المطلّة على البحر الكاريبي.
عندما ورث أليكس عن والده متجر الجلود ومصنعاً للأقمشة، وحاول توسيع نشاطه إلى ولاية فلوريدا الأميركية، ضبطت جمارك ميامي كمية من المخدّرات في إحدى الشحنات التي كان أرسلها إلى تلك المدينة، ومن ثم، منعته من الدخول إلى الولايات المتحدة... وبدأ يعاني من انتكاسات تجارية إلى أن أعلن إفلاسه.

- الصلة مع فنزويلا
في تلك الفترة تعرّف صعب على الفنزويلية بيداد كوردوبا، التي كانت مقرّبة من الزعيم الفنزويلي اليساري الراحل هوغو تشافيز، وكان الأخير يكلّفها التوسّط في تبادل الأسرى بين الحكومة الكولومبية والثوّار الكولومبيين اليساريين الذين كان يدعمهم. وهكذا تمكّن صعب عن طريقها من الوصول إلى الدائرة الضيّقة المحيطة بتشافيز، الذي كان دخل المرحلة الأخيرة من صراعه مع المرض العضال الذي قضى عليه.
بعد وفاة تشافيز ومجيء خلفه نيكولاس مادورو إلى الحكم في كراكاس، كان أليكس صعب قد نسج شبكة متينة من العلاقات مع مسؤولين كبار ومقرّبين من الرئيس الجديد، وبالأخصّ مع سيليا فلوريس زوجة مادورو. وصار الرئيس الجديد يلجأ إليه كلما وجد نفسه في مأزق بسبب الحصار والعقوبات التي كانت الولايات المتحدة تفرضها على النظام اليساري.
وفي موازاة الأنشطة التي كان يقوم بها صعب لبيع النفط الفنزويلي ومدّ النظام بالعملة الصعبة، بعد تجميد ارصدته في الولايات المتحدة، كانت الشركات الوهميّة التي أسسها تحصل على عقود ضخمة لاستيراد المواد الغذائية والمركبات ومستلزمات البناء واستخراج الفحم، وكذلك مقايضة النفط الخام بالوقود الإيراني المكرّر عن طريق طرف ثالث عندما ألقي القبض عليه في الرأس الأخضر. وللعلم، اعتمد صعب في أنشطته على شبكة من الشركات الوهميّة المسجّلة باسم ابنه شادي وزوجته عارضة الأزياء الإيطالية كاميلّا فابري، اللذين احتجزت ممتلكاتهما وأموالهما في كولومبيا وإيطاليا.
اليوم، يقدّر مكتب مراقبة الأصول المالية في الخارج التابع لوزارة المال الأميركية، أن صعب استخدم شركاته الوهميّة لغسل ما يزيد على 350 مليون دولار. وأنه حقق أرباحاً تتجاوز المليار دولار من العمليات والصفقات التي انتهكت نظام العقوبات المفروض على النظام الفنزويلي لبيع نفطه، وتزويده بالمواد والسلع المحظور عليه شراؤها في السوق الدولية.

- بداية الملاحقات الأميركية
ما يذكر، أن بداية ملاحقة السلطات الأميركية لأليكس صعب تعود إلى العام 2011 عندما أجرى التحويلات المالية الأولى عبر بعض المصارف الأميركية وإليها بهدف شراء مواد للبناء استناداً إلى عقود وشركات وهمية لتنفيذ عقد - وهمي أيضاً - مع الحكومة الفنزويلية من أجل بناء مجمع سكني لا وجود له. وكانت تلك العقود تنصّ على شراء المواد من جمهورية الإكوادور التي بيّنت التحقيقات التي أجرتها نيابتها العامة لاحقاً أن تلك العقود كانت وهمية وسمحت لصعب بغسل ما يزيد على 200 مليون دولار أميركي لصالح النظام الفنزويلي. وقُدّر مجموع الأموال التي مرّت عبر الإكوادور إلى شركات صعب الوهمية بنحو ملياري دولار. وتجدر الإشارة، إلى أن النيابة العامة في الإكوادور كانت، بدورها قد بدأت ملاحقة صعب وعدد من شركائه عام 2013، إلا أن الرئيس الإكوادوري اليساري - آنذاك – الدكتور رافاييل كورّيا، أمر بإسقاط التهم الموجهة وإنهاء الملاحقة.
وهنا، يقول المدّعي العام الفنزويلي السابق زاير مونداراي، الموجود حالياً في كولومبيا، إن حكومة مادورو ساعدت صعب على فتح قنوات لغسل الأموال في كل من قبرص والصين وهونغ كونغ بعدما أسس شركة لاستيراد المواد الغذائية المدعومة من الدولة، تجنّباً لمراقبة السلطات المالية الأميركية. ويضيف مونداراي، أن المعلومات التي يملكها صعب، ويمكن أن يصرّح بها للقضاء الأميركي لمقايضتها بالعقوبة التي تنتظره، ستطال عدداً كبيراً من كبار المسؤولين في النظام الفنزويلي؛ لأن تلك الصفقات ما كانت لتقرّ من غير موافقتهم وضلوعهم فيها.
أيضاً، تجدر الإشارة إلى أنه عندما ألقي القبض على صعب في الرأس الأخضر، انكشف الدور الذي كان يلعبه منذ سنوات في فنزويلا، حيث كان ينشط بعيداً عن الأضواء. وكانت الحكومة الفنزويلية قد بادرت بعد ساعات من اعتقاله إلى تسميته ممثلاً خاصاً لدى روسيا وإيران، ثم سفيراً فوق العادة وعضواً في الوفد المفاوض مع المعارضة. وفي المعلومات المتوافرة، أن الرئيس مادورو وجّه إليه رسالة عبر وزير الخارجية خورخي آرّيازا يشدّد فيها على سرّية المعلومات التي بحوزته وأهميتها، ومن ثم، حذّره من أن أي وشاية يقوم بها تشكّل تهديداً لأمن فنزويلا.

- اهتمام واشنطن
ينصبّ اهتمام المحقّقين الأميركيين راهناً على كشف الشبكات التي كان صعب يستخدمها للالتفاف على العقوبات عن طريق عمليات «مثلّثة» عبر روسيا وإيران وتركيا؛ لمبادلة النفط الخام والذهب بالعملة الصعبة والمواد الغذائية. وكان نظام تشافيز قد لجأ إلى شراء كميات كبيرة من الذهب قبل الانخفاض الحاد في إنتاج النفط الفنزويلي نتيجة الأزمة التي مرّت بها شركة النفط الفنزويلية. ويعتقد المحقّقون الأميركيون، أن لدى صعب معلومات حساسة عن دور الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان ومقرّبين منه في هذه الأنشطة. وكانت «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية»، ومقرّها في واشنطن، قد كشفت في سبتمبر (أيلول) الفائت عن أنه بعد لقاء عقده صعب مع الرئيس التركي في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) 2017، أسست في إسطنبول شركة ساعدت النظام الفنزويلي على نقل كميات من الذهب الفنزويلي بقيمة 900 مليون دولار إلى تركيا. وقيل أن النظام الفنزويلي اعترف حينها بأنه يقوم بتنقية الذهب في تركيا بعد استخراجه من مناجم منطقة الأورينوكو التي تغطّي 12 في المائة من مساحة فنزويلا وتستثمرها شركات صينية وروسية. وتفيد معلومات «المؤسسة» الأميركية، بأن تلك المقايضة، التي يرجّح أنها تكرّرت مرّات عدة، أدت إلى إغراق السوق الفنزويلية بالمنتوجات التركية ومدّت النظام بكميات كبيرة من النقد النادر.

- قلق في كراكاس
على صعيد آخر، لعل أكثر ما يخشاه النظام الفنزويلي حالياً هو أن يتجاوب صعب مع العرض الذي يرجّح أن تقدّمه له النيابة العامة الأميركية لخفض العقوبة التي تنتظره - والتي قد تصل إلى السجن 160 سنة – أو حتى إسقاطها، مقابل الإدلاء باعترافات ومعلومات مفصّلة عن الشبكة التي كان يستخدمها والأشخاص الذين كان يتعاون معهم. وتقدّر المصادر المطلعة، أنهم بالمئات من كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين، وأن الاتهامات يمكن أن تطال الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو وزوجته وبعض أفراد عائلته.
وفي تصريحات لزوجته خلال وقفة احتجاجية أمام مكان اعتقاله في فلوريدا للمطالبة بالإفراج عنه يوم الأحد الماضي، قالت إنها على يقين من أنه لن يتكلّم مهما كانت الإغراءات التي ستعرض عليه، وأنه ليس سوى «معتقل سياسي في قبضة الولايات المتحدة».
وكان صعب، من جهته، قد أرسل بياناً تلته زوجته إبان الاحتجاج، جاء فيه قوله «سأواجه المحاكمة بكل اعتزاز، ولست مضطراً إلى التعاون مع الولايات المتحدة لأني لم أقترف أي ذنب».
أخيراً، عن أهمية صعب بالنسبة للنظام الفنزويلي الذي حشد كل طاقاته للدفاع عنه والضغط لإطلاق سراحه، يقول خيراردو ريّس «أعتقد أن أليكس صعب هو بمثابة ثعلب دخل حديقة الثورة الفنزويلية في أحرج مراحلها، أي عندما كانت بأمسّ الحاجة إلى وسيط ماكر يساعدها لتجاوز العقوبات الأميركية والحصول على المنتوجات والأموال التي كانت تنقصها يوماً بعد يوم. كان صعب مطلق اليد لدى النظام الذي كان يُغدق عليه العقود بلا شروط أو ضوابط... مقابل تزويده بما يحتاج إليه. كان أشبه بلقاء بين غريقين: رجل أعمال مُفلس ونظام يترنّح على حافة الغرق».


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.