بروفايل: أليكس صعب... الوسيط الغامض وكنز الأسرار المالية لنظام فنزويلا

لبناني الأصل من مواليد كولومبيا يواجه التحقيق الأميركي

بروفايل: أليكس صعب... الوسيط الغامض وكنز الأسرار المالية لنظام فنزويلا
TT

بروفايل: أليكس صعب... الوسيط الغامض وكنز الأسرار المالية لنظام فنزويلا

بروفايل: أليكس صعب... الوسيط الغامض وكنز الأسرار المالية لنظام فنزويلا

يقول الصحافي خيراردو ريّس، الحائز جائزة «بوليتزر» المرموقة في كتابه الموثّق حول الكولومبي أليكس صعب، المتحدر من أصول لبنانية «يعجز أصدقاء علي صعب، الذي غيّر اسمه في الثامنة عشرة من عمره ليصبح أليكس صعب، كيف تمكّن هذا الرجل العادي جداً، والمتواضع في طموحاته، والذي لا يُعرف له أي ولع سوى حبّه لأولاده، من أن يصبح (الثعلب المالي) للثورة البوليفارية في فنزويلا. بل، وكيف يعود يوماً إلى مسقط رأسه في مدينة بارّانكيّا على متن طائرته الخاصة بعدما كان مثقلاً بالديون وهارباً من ملاحقة الدائنين».
ويضيف ريّس في محادثة عبر «واتساب» مع «الشرق الأوسط» قائلاً «إنها لقصة مثيرة سيرة هذا التاجر الذي كان يبيع منتوجات جلديّة في دكان صغير، قبل أن يبدأ إبحاره بين أمواج الفساد الفنزويلي الصاخبة والحصار الذي فرضته الولايات المتحدة على فنزويلا... إلى أن أصبح بقاء الدولة الفنزويلية مرهوناً بمناوراته المالية والتجارية المرتجلة».

في مطلع الصيف الماضي، ألقت شرطة جمهورية الرأس الأخضر (في غرب أفريقيا) القبض على أليكس صعب تنفيذاً لمذكرة جلب صادرة بحقه عن الإنتربول (الشرطة الدولية) بعدما حطّت طائرته للتزوّد بالوقود في طريقها إلى طهران.
يومذاك امتلأت شوارع العاصمة الفنزويلية كراكاس بصوره ورسومه، والشعارات المطالبة بإطلاق سراحه ورفض التجاوب مع طلب الولايات المتحدة تسليمه لمحاكمته، بتهم الفساد وغسل الأموال وانتهاك نظام العقوبات... التي كانت واشنطن فرضته على نظام نيكولاس مادورو.
قبل ذلك التاريخ، كان صعب شخصاً مجهولاً لم يظهر سوى مرة واحدة في الأماكن العامة أواخر العام 2011، عندما كانت لا تزال العلاقات الدبلوماسية قائمة بين فنزويلا وكولومبيا. ذلك لقاء عُقد بين الزعيم الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز والرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس من أجل توقيع اتفاق بناء مساكن شعبية كانت الشركة التي يملكها صعب ستتقاضى مبلغ 530 مليون دولار أميركي للشروع في بنائها. ولقد روى سانتوس بعد ذلك أنه اقترب في تلك اللحظة من وزيرة خارجيته وهمس في اذنها «مَن هو هذا الرجل»؟
كان ذلك «باكورة» العقود التي جعلت من صعب «الذراع المالية للثورة البوليفارية» الفنزويلية التي أغدقت عليه بمئات الملايين من الدولارات بعدما صار خبيراً في الالتفاف على الحصار الاقتصادي الذي فرضته واشنطن على فنزويلا.
لقد كان ينقل سبائك الذهب من المصرف المركزي الفنزويلي لبيعها في تركيا، ويقيم علاقات مباشرة مع قيادات النظام الإيراني، ويخرج في طائرة خاصة من كراكاس بعدما كان دخلها مفلساً ومديوناً.
كان نفوذ صعب في فنزويلا يتجاوز، حقاً، ما يتمتّع به معظم وزراء حكومة مادورو من صلاحيات ومهام... كما جاء في تقرير وزارة المال الأميركية المرفق بالطلب الذي قدمته إلى الإنتربول لإصدار مذكرة جلب في حقّه، والذي يؤكد أنه كان الوكيل الشرعي الخاص للرئيس الفنزويلي وزوجته وبعض أفراد عائلته.

- البداية والنشأة
وُلد علي (أليكس، لاحقاً) صعب لوالد لبناني اسمه نعيم، كان قد هاجر إلى كولومبيا في مطلع خمسينات القرن الماضي. ثم تزوّج من ابنة أحد المهاجرين الفلسطينيين واستقرّ في مدينة بارّانكيّا الساحلية، التي تدور فيها أحداث رواية غارسيّا ماركيز الشهيرة «وقائع موت معلن»... ولقد قال غابرييل غارسيا ماركيز يوماً في مكسيكو سيتي، إن «كل شخصياتها وأحداثها واقعية، باستثناء الشخصية الرئيسية التي هي المهاجر اللبناني سانتياغو نصّار، الذي كان في الواقع مهاجراً إيطالياً». لكن حامل جائزة نوبل للآداب اختار أن يجعله لبنانياً لكثرة اللبنانيين في تلك المنطقة الكولومبية المطلّة على البحر الكاريبي.
عندما ورث أليكس عن والده متجر الجلود ومصنعاً للأقمشة، وحاول توسيع نشاطه إلى ولاية فلوريدا الأميركية، ضبطت جمارك ميامي كمية من المخدّرات في إحدى الشحنات التي كان أرسلها إلى تلك المدينة، ومن ثم، منعته من الدخول إلى الولايات المتحدة... وبدأ يعاني من انتكاسات تجارية إلى أن أعلن إفلاسه.

- الصلة مع فنزويلا
في تلك الفترة تعرّف صعب على الفنزويلية بيداد كوردوبا، التي كانت مقرّبة من الزعيم الفنزويلي اليساري الراحل هوغو تشافيز، وكان الأخير يكلّفها التوسّط في تبادل الأسرى بين الحكومة الكولومبية والثوّار الكولومبيين اليساريين الذين كان يدعمهم. وهكذا تمكّن صعب عن طريقها من الوصول إلى الدائرة الضيّقة المحيطة بتشافيز، الذي كان دخل المرحلة الأخيرة من صراعه مع المرض العضال الذي قضى عليه.
بعد وفاة تشافيز ومجيء خلفه نيكولاس مادورو إلى الحكم في كراكاس، كان أليكس صعب قد نسج شبكة متينة من العلاقات مع مسؤولين كبار ومقرّبين من الرئيس الجديد، وبالأخصّ مع سيليا فلوريس زوجة مادورو. وصار الرئيس الجديد يلجأ إليه كلما وجد نفسه في مأزق بسبب الحصار والعقوبات التي كانت الولايات المتحدة تفرضها على النظام اليساري.
وفي موازاة الأنشطة التي كان يقوم بها صعب لبيع النفط الفنزويلي ومدّ النظام بالعملة الصعبة، بعد تجميد ارصدته في الولايات المتحدة، كانت الشركات الوهميّة التي أسسها تحصل على عقود ضخمة لاستيراد المواد الغذائية والمركبات ومستلزمات البناء واستخراج الفحم، وكذلك مقايضة النفط الخام بالوقود الإيراني المكرّر عن طريق طرف ثالث عندما ألقي القبض عليه في الرأس الأخضر. وللعلم، اعتمد صعب في أنشطته على شبكة من الشركات الوهميّة المسجّلة باسم ابنه شادي وزوجته عارضة الأزياء الإيطالية كاميلّا فابري، اللذين احتجزت ممتلكاتهما وأموالهما في كولومبيا وإيطاليا.
اليوم، يقدّر مكتب مراقبة الأصول المالية في الخارج التابع لوزارة المال الأميركية، أن صعب استخدم شركاته الوهميّة لغسل ما يزيد على 350 مليون دولار. وأنه حقق أرباحاً تتجاوز المليار دولار من العمليات والصفقات التي انتهكت نظام العقوبات المفروض على النظام الفنزويلي لبيع نفطه، وتزويده بالمواد والسلع المحظور عليه شراؤها في السوق الدولية.

- بداية الملاحقات الأميركية
ما يذكر، أن بداية ملاحقة السلطات الأميركية لأليكس صعب تعود إلى العام 2011 عندما أجرى التحويلات المالية الأولى عبر بعض المصارف الأميركية وإليها بهدف شراء مواد للبناء استناداً إلى عقود وشركات وهمية لتنفيذ عقد - وهمي أيضاً - مع الحكومة الفنزويلية من أجل بناء مجمع سكني لا وجود له. وكانت تلك العقود تنصّ على شراء المواد من جمهورية الإكوادور التي بيّنت التحقيقات التي أجرتها نيابتها العامة لاحقاً أن تلك العقود كانت وهمية وسمحت لصعب بغسل ما يزيد على 200 مليون دولار أميركي لصالح النظام الفنزويلي. وقُدّر مجموع الأموال التي مرّت عبر الإكوادور إلى شركات صعب الوهمية بنحو ملياري دولار. وتجدر الإشارة، إلى أن النيابة العامة في الإكوادور كانت، بدورها قد بدأت ملاحقة صعب وعدد من شركائه عام 2013، إلا أن الرئيس الإكوادوري اليساري - آنذاك – الدكتور رافاييل كورّيا، أمر بإسقاط التهم الموجهة وإنهاء الملاحقة.
وهنا، يقول المدّعي العام الفنزويلي السابق زاير مونداراي، الموجود حالياً في كولومبيا، إن حكومة مادورو ساعدت صعب على فتح قنوات لغسل الأموال في كل من قبرص والصين وهونغ كونغ بعدما أسس شركة لاستيراد المواد الغذائية المدعومة من الدولة، تجنّباً لمراقبة السلطات المالية الأميركية. ويضيف مونداراي، أن المعلومات التي يملكها صعب، ويمكن أن يصرّح بها للقضاء الأميركي لمقايضتها بالعقوبة التي تنتظره، ستطال عدداً كبيراً من كبار المسؤولين في النظام الفنزويلي؛ لأن تلك الصفقات ما كانت لتقرّ من غير موافقتهم وضلوعهم فيها.
أيضاً، تجدر الإشارة إلى أنه عندما ألقي القبض على صعب في الرأس الأخضر، انكشف الدور الذي كان يلعبه منذ سنوات في فنزويلا، حيث كان ينشط بعيداً عن الأضواء. وكانت الحكومة الفنزويلية قد بادرت بعد ساعات من اعتقاله إلى تسميته ممثلاً خاصاً لدى روسيا وإيران، ثم سفيراً فوق العادة وعضواً في الوفد المفاوض مع المعارضة. وفي المعلومات المتوافرة، أن الرئيس مادورو وجّه إليه رسالة عبر وزير الخارجية خورخي آرّيازا يشدّد فيها على سرّية المعلومات التي بحوزته وأهميتها، ومن ثم، حذّره من أن أي وشاية يقوم بها تشكّل تهديداً لأمن فنزويلا.

- اهتمام واشنطن
ينصبّ اهتمام المحقّقين الأميركيين راهناً على كشف الشبكات التي كان صعب يستخدمها للالتفاف على العقوبات عن طريق عمليات «مثلّثة» عبر روسيا وإيران وتركيا؛ لمبادلة النفط الخام والذهب بالعملة الصعبة والمواد الغذائية. وكان نظام تشافيز قد لجأ إلى شراء كميات كبيرة من الذهب قبل الانخفاض الحاد في إنتاج النفط الفنزويلي نتيجة الأزمة التي مرّت بها شركة النفط الفنزويلية. ويعتقد المحقّقون الأميركيون، أن لدى صعب معلومات حساسة عن دور الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان ومقرّبين منه في هذه الأنشطة. وكانت «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية»، ومقرّها في واشنطن، قد كشفت في سبتمبر (أيلول) الفائت عن أنه بعد لقاء عقده صعب مع الرئيس التركي في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) 2017، أسست في إسطنبول شركة ساعدت النظام الفنزويلي على نقل كميات من الذهب الفنزويلي بقيمة 900 مليون دولار إلى تركيا. وقيل أن النظام الفنزويلي اعترف حينها بأنه يقوم بتنقية الذهب في تركيا بعد استخراجه من مناجم منطقة الأورينوكو التي تغطّي 12 في المائة من مساحة فنزويلا وتستثمرها شركات صينية وروسية. وتفيد معلومات «المؤسسة» الأميركية، بأن تلك المقايضة، التي يرجّح أنها تكرّرت مرّات عدة، أدت إلى إغراق السوق الفنزويلية بالمنتوجات التركية ومدّت النظام بكميات كبيرة من النقد النادر.

- قلق في كراكاس
على صعيد آخر، لعل أكثر ما يخشاه النظام الفنزويلي حالياً هو أن يتجاوب صعب مع العرض الذي يرجّح أن تقدّمه له النيابة العامة الأميركية لخفض العقوبة التي تنتظره - والتي قد تصل إلى السجن 160 سنة – أو حتى إسقاطها، مقابل الإدلاء باعترافات ومعلومات مفصّلة عن الشبكة التي كان يستخدمها والأشخاص الذين كان يتعاون معهم. وتقدّر المصادر المطلعة، أنهم بالمئات من كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين، وأن الاتهامات يمكن أن تطال الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو وزوجته وبعض أفراد عائلته.
وفي تصريحات لزوجته خلال وقفة احتجاجية أمام مكان اعتقاله في فلوريدا للمطالبة بالإفراج عنه يوم الأحد الماضي، قالت إنها على يقين من أنه لن يتكلّم مهما كانت الإغراءات التي ستعرض عليه، وأنه ليس سوى «معتقل سياسي في قبضة الولايات المتحدة».
وكان صعب، من جهته، قد أرسل بياناً تلته زوجته إبان الاحتجاج، جاء فيه قوله «سأواجه المحاكمة بكل اعتزاز، ولست مضطراً إلى التعاون مع الولايات المتحدة لأني لم أقترف أي ذنب».
أخيراً، عن أهمية صعب بالنسبة للنظام الفنزويلي الذي حشد كل طاقاته للدفاع عنه والضغط لإطلاق سراحه، يقول خيراردو ريّس «أعتقد أن أليكس صعب هو بمثابة ثعلب دخل حديقة الثورة الفنزويلية في أحرج مراحلها، أي عندما كانت بأمسّ الحاجة إلى وسيط ماكر يساعدها لتجاوز العقوبات الأميركية والحصول على المنتوجات والأموال التي كانت تنقصها يوماً بعد يوم. كان صعب مطلق اليد لدى النظام الذي كان يُغدق عليه العقود بلا شروط أو ضوابط... مقابل تزويده بما يحتاج إليه. كان أشبه بلقاء بين غريقين: رجل أعمال مُفلس ونظام يترنّح على حافة الغرق».


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.