السلاح في لبنان... منعة الأهل و{زينة الرجال}

استخدامه في الحروب الداخلية قصة قديمة لتأكيد مكانة الجماعات الطائفية

مقاتلون من «الثنائي الشيعي» خلال الاشتباكات الأخيرة في منطقة الطيونة (أ.ف.ب)
مقاتلون من «الثنائي الشيعي» خلال الاشتباكات الأخيرة في منطقة الطيونة (أ.ف.ب)
TT

السلاح في لبنان... منعة الأهل و{زينة الرجال}

مقاتلون من «الثنائي الشيعي» خلال الاشتباكات الأخيرة في منطقة الطيونة (أ.ف.ب)
مقاتلون من «الثنائي الشيعي» خلال الاشتباكات الأخيرة في منطقة الطيونة (أ.ف.ب)

سار المئات من أنصار حركة «أمل» و«حزب الله» يوم الخميس 14 أكتوبر (تشرين الأول) حاملين أسلحتهم في شوارع الضاحية الجنوبية المتاخمة لأحياء عين الرمانة المسيحية مستعيدين أحد مشاهد الحرب الأهلية وسلوكيات أصحابها. بل إن السلاح الذي حملوه يعود في معظمه إلى حقبة الحرب تلك. وكأن العتاد بقي حيث بقي الكثير: روح الاقتتال الطائفي وشعاراته التي لم تفارق جماعات متحاربة لا تحبذ تغيير أنواع البنادق والقذائف الصاروخية والرشاشات المتوسطة.
لم تُظهر الصور ومقاطع الفيديو التي نشرتها منصات التواصل الاجتماعي أصنافاً جديدة من السلاح. الكلاشنيكوف وقاذفات صواريخ «آر بي جي» والرشاشات المتوسطة «بي كيه إم» وبعض بنادق «إم 16» و«إم 18» التي تطلق قنابل عيار 40 مليمتراً، هي الترسانة التي أنزلها «الثنائي الشيعي» في استعراض رفضه «تسييس» التحقيق في تفجير مرفأ بيروت. باختصار، يبلغ عمر تصاميم السلاح التي أغرقت شوارع الضاحية الجنوبية عقوداً طويلة وإن كانت النماذج المستخدمة لم يمر على صناعتها أعوام عدة. الأصالة والحداثة اجتمعتا في سلاح المسيرة «السلمية».

يعطي المشهد انطباعاً بالرؤية السابقة (Déjà vu) خصوصاً لمن عاش فصول الحروب اللبنانية، حتى تكاد أنواع السلاح الذي عمّ الأزقة في ذلك النهار الخريفي تُطابق ما كان يخرج من مراكز ومعسكرات الفصائل الفلسطينية أوائل السبعينات ومن معاقل الميليشيات العلمانية والطائفية في أثناء تجهيز نفسها للحرب. عاديّة الحشد المسلح كانت أقوى من أصوات مدنية مستنكرة. فاللبنانيون يعلمون أن في اجتماعهم وسياستهم حيزاً مكفولاً للبنادق.
والحال أن «مقاومة» أهلية استبُدلت مقاومة غير لبنانية، فيما بقي الحفاظ على السلاح وتقديسه والاحتفال بكل حمولته الرمزية، الواعي منها وغير الواعي، حاضراً منذ أكثر من خمسة عقود.
المقاومة التي تنطوي على معنى متخيَّل للوطن والقضية وتدافع عن «العرض والأرض» وتجدد، في غضون ذلك، صوغ وعي الجماعة وتحدد الأخطار المحيقة بها، هي المؤهلة لدفع مسلحيها وعتادهم الحربي للاعتراض في الشارع على كل ما يشاءون ومتى شاءوا. ولا تناقض في روع أصحاب الدعوة إلى التظاهر بين حشود المسلحين وبين صفة «السلمية» التي أطلقوها على تحركهم. فالجماعة لا تأتي بما يضر السلام. الأعداء وحدهم يفعلون ذلك.
غياب الجدة عن أنواع السلاح في شوارع المشرفية والطيونة وعين الرمانة، يعكس انعدام أي جديد في ذعر الطوائف وبَرَمها من كل تدخل في تنظيمها شؤونها وإدارتها يومياتها حتى لو كان المُتدخل قاضياً عدلياً كلّفه القضاء التحقيق في ثالث أضخم انفجار غير نووي عرفه العالم. الإشارة إلى التضارب بين فداحة الخسائر البشرية والمادية التي أصابت بيروت وبين إصرار الطبقة السياسية الحاكمة التي يحميها ويستفيد منها «حزب الله»، على إجهاض كل محاولة للوصول إلى الحقيقة وبالتالي صدور حكم عادل على المتورطين باستيراد مادة نيترات الأمونيوم والمتسترين عليهم ومن يقف وراءهم، لا تعني شيئاً. ليست الحقيقة والعدالة من اهتمامات الطوائف المسلحة الغاضبة والثائرة بلا قضية ولا قيم. فما يهم، على ما بات معروفاً، هو إبقاء النظام الحالي قائماً بصيغته وإدامة مصالح التحالف الحاكم وحمايتها. السلاح يحضر لهذه الغاية. المقاومة هي الاسم المتداول لهاتيك الصيغة والسلاح والمصالح، المتضافرة والمتناغمة.
السلاح كعنصر توكيد على هوية الأهل ومكانتهم بل على إنشاء الجماعة قصة قديمة في لبنان.
نجد شذرات عنها في مراسلات الباب العالي إلى والي الشام العثماني في القرن السادس عشر (راجع عبد الرحيم أبو حسين – «لبنان والإمارة الدرزية في العهد العثماني - وثائق دفتر المهمة 1546 - 1711» - دار النهار 2005) حيث كان الصدر الأعظم يركّز في الكثير من رسائله على أهمية مصادرة الوالي السلاح الذي تُنزله السفن الأوروبية وتبيعه إلى الدروز وغيرهم. كان المسؤول العثماني يخشى استخدام تلك البنادق فيما يسميه أبو حسين «التمرد المديد» على السلطنة. لكن الصدر الأعظم غلّب الجانب الأمني المباشر على الجوانب الأخرى من تلك التي يعنيها السلاح لأهل جبل لبنان.
غنيٌّ عن البيان أن تصدير السلاح كان في القرن السادس عشر، كما هو اليوم، تكثيفاً لغايات وأهداف عدة: الربح المالي وإقامة التحالفات وزرع الخوف عند العدو من بين أمور أخرى. أما المستورد اللبناني فالسلاح يعني قدرته على التملص من سلطة غاشمة ومتجبرة وتعزيز قوته في مواجهة الخصوم المحليين، سيان أكانوا من أتباع السلطة الخارجية أو من أعدائها. وشهيرة تلك الاستعارة اللبنانية القديمة التي تعدّ العائلات في الجبال بعدد بنادقها. فالعائلة الفلانية هي «500 بارودة» ما يفترض أن يُحسب حسابها في كل نزاع على الأرض وحقوق الرعي والري وتوزيع الأراضي وتقسيمها وعندما يدعو النفير الحربي.
بعد أحداث الطيونة الأخيرة، استُعيدت عبارة شهيرة أيضاً في الرطانة اللبنانية: «هناك قطعة سلاح في كل بيت». صحة هذه الجملة التي تُرمى في سياق التخفيف من شُبهة التخطيط المسبق لأي عراك بين الطوائف وإعادة «الإشكالات المسلحة» التي هي علّة انتشار السلاح بين الأهل انتشاراً «طبيعياً» لا يختلف عن ظواهر أخرى من الطبيعة اللبنانية، كالثلوج في الجبال وجمال الشواطئ، على سبيل المثال، تخبّئ الصحة هذه سقماً عميقاً هو الاعتقاد السائد بغياب المرجع القانوني الأعلى من الأهل والطائفة والحي. المرجع الذي يستند في فعله إلى القانون والدستور والعقد الاجتماعي. الدولة، بكلمة ثانية.

- سلاح الحرب الدائمة
يضم متحف «قصر موسى» في بلدة دير القمر في جبال الشوف، مئات البنادق والسيوف والمسدسات. أكوام من الأسلحة المكدسة. بعضها ربما شهد حروب القرن التاسع عشر ومذابحه في القرى القريبة من دير القمر. يعود الكثير من البنادق إلى أزمان مختلفة يترك تكدسها وتنوعها انطباعاً بأنها لم تحُزْ عناية كافية من خبراء الآثار والعاديّات.
وتحضر في المشهد كذلك سيوف تقول القصاصات الصغيرة الموضوعة قربها بتعدد تواريخ صنعها وأصحابها السابقين. سيوف مملوكية وتركية وأخرى مصنوعة في الغرب أو حتى في جورجيا. لا يمكن الجزم، من دون الشرح الضروري الذي يفترض أن يقدمه الاختصاصيون، من أين جاءت كل قطعة من قطع السلاح تلك ولا في أي معارك استُخدمت ولا مَن كان صاحبها وإن كان بعضها يحمل أسماء أمراء وشيوخ أفل ذكرهم. ولعل بعض هذه البنادق والأسلحة مما كان الصدر الأعظم العثماني يشكو من نزوله إلى السواحل اللبنانية.
مع قليل من التسرع، يجوز القول إن سلاح الدروز المتحدر من شبه الاستقلال الذي نعمت به إماراتهم في الشوف والغرب (الذي يضم بيروت الحالية) خلال العصور المملوكية وجد مهمات جديدة في الاحتجاج على السلطنة العثمانية ثم في قمع النهوض المسيحي في الشوف في القرن التاسع عشر وصولاً إلى التصدي لاقتحام «حزب الله» الجبل في مايو (أيار) 2008. الطوائف الأخرى لم تتوانَ عن استيراد السلاح وإدراجه ضمن منظومة العلاقات الداخلية. بل صار «السلاح زينة الرجال» على ما رأى مؤسس الموقع الشيعي في الجمهورية اللبنانية، الإمام موسى الصدر، حتى لو كان السلاح الذي قصده في كلمته موجهاً ضد إسرائيل واستباحتها للجنوب اللبناني أوائل السبعينات وامتناع الدولة اللبنانية عن الدفاع عن مواطنيها هناك. فالسلاح مادة سياسية سائلة قابلة للتسرب من القضايا الكبرى إلى حوض الاقتتال الداخلي.
وفي باحة وزارة الدفاع اللبنانية، يرتفع نصبٌ من الإسمنت الذي حُشي مدافع قديمة كانت تصلي المدن والقرى القذائف في أثناء الحرب الأهلية. المصمم الأجنبي للنصب رأى أن عمله المذكور رمز لنهاية الحرب في لبنان وعودة السلام. والحال أن مدافع الحرب الأهلية حققت شهرة واسعة بين اللبنانيين، إذ انقلبت وسيلة تخاطب صاخب في الفترات التي استعصى فيها الحوار السياسي وحال التوازن دون تغيير الخرائط الميدانية. كانت رمزاً لغياب الحلول ودوام احتراب الأدوات المحلية للمتناحرين ومشغليهم من خارج الحدود. بعض تلك المدافع اشترته الحكومة اللبنانية بأموال مواطنيها لتسليح الجيش. أما أكثرها فجاء دعماً لفرقاء الحرب الذين رأى فيهم حلفاء إقليميون وأجانب فوائد تُرتجى في صراعات على مناطق النفوذ ضمن الحرب الباردة أو تصفية حسابات جلّها أخويٌّ بين العرب. وقبل أسابيع، نبّه أحد سادة الحرب المقبلة –وهذه قد لا تقع لكنها قيد الإعداد الدائم- أن المدافع والصواريخ ليست هي الأسلحة الرئيسية في النزاعات الأهلية. البنادق والرشاشات الخفيفة تقوم بالواجب ولا ضرر من اللجوء إلى بعض قذائف «الآر بي جي» والقنابل اليدوية. ولعل في هذا الكلام تفسيراً لتلكؤ الأطراف المعنية عن تحديث الترسانة الحربية. ذاك أن العدو المحلي يكفيه من العدة أبسطها وأرخصها.
أما إسرائيل التي سفحت تحت لواء الصراع معها وتحرير ما تحتله من أرض، دماءً وأحلاماً وأعماراً، فسلاح قتالها محجوب لا تدركه الأبصار ولا يشمله إحصاء.
والسلاح هذا قادر بزعم من يحوزه، على إصابة أهدافه في كل أنحاء فلسطين وتدمير محطات تكرير النفط ومخازن مواد كيمياوية (كتلك التي انفجرت عندنا) ومسح مستوطنات ومدن وفوقها مفاعل نووي. لكننا لن نستخدمها إلا عندما ترى قيادة المقاومة أن الوقت قد أزف لنزول صواريخها وراجماتها وطائراتها المسيّرة وكل ما يخطر وما لا يخطر على بال إنس أو جن، ساح الوغى في معركة آتية لا ريب فيها. في غضون ذلك، تبقى بنادق الكلاشنيكوف سيدة الموقف.

- رفيق أجيال متعاقبة
أجيال عدة من اللبنانيين تعرّفت على الكلاشنيكوف عن قرب. دخل إلى لبنان مع المقاومة الفلسطينية أواخر ستينات القرن الماضي وسرعان ما اكتُشِفت فضائله كتدني الثمن وسهولة الاستخدام والصيانة وتوفر الذخيرة. اقتناه المتحاربون من كل الأطراف والجبهات. من لا يصل إليه الكلاشنيكوف من حليف عربي أو «أممي»، يشتريه من السوق المفتوحة. بلدان أوروبا الشرقية التي يصنع كل منها نسخته من البندقية الشهيرة، ما بخلت بتصديرها، للحلفاء كما للأعداء. والأكداس التي صادرتها إسرائيل في أثناء «النكسات» العربية، وجدت طريقها إلى لبنان أيضاً.
«طبعات» مختلفة جاءت إلى لبنان، من الروسي (السوفياتي) الأصلي «إيه كيه 47» ثم نسخته المعدلة «إيه كيه إم» (المشظوف)، ومن المزود بأخمص خشبي، إلى المفضل في معارك الشوارع صاحب الأخمص الحديد «الأخمص طي».
والحق أن الكلاشنيكوف لم يغب عن الساحة المحلية حتى بعد عودة «السلم الأهلي». فهو سلاح الجيش السوري الذي أُوكلت إليه مهمة تطبيق اتفاق الطائف والمقاومة في الجنوب التي واصلت قتال الاحتلال.
وفي أثناء اقتحام «حزب الله» لبيروت في السابع من مايو كان الكلاشنيكوف هو السلاح الرئيسي. وبدا أن الحزب أخرج من مخازنه نسخة صينية من البندقية التي حملها أكثر المشاركين في الهجوم على المدينة. ومن عادة القوى المسلحة أن تأتي قبيل العمليات الكبيرة بكميات من السلاح الفردي الجديد لسد النواقص.
وللسلاح هذا صوت يعرفه كل من اقترب من ساحة معركة أو قتال. يُصدر تعاقب رصاصات الكلاشنيكوف إيقاعاً رتيباً عالياً يمكن تمييزه بسهولة عن أصوات بقية البنادق الآلية. إنه «صوت التوحش» حسب شهادة أحد الناجين من مجزرة مسرح باتاكلان في باريس في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 في وثائقي عرضته منصة «نتفليكس»، حيث عمد إرهابيو «داعش» إلى إطلاق النار من دون تمييز على حضور حفل موسيقي كان يقام هناك. في واقع الأمر إن ما استخدمه الإرهابيون في ذلك اليوم كان النسخة اليوغوسلافية من الكلاشنيكوف والتي تُعرف بـ«زاستافا» على اسم المصنع الذي ينتجها. وهذا تفصيل لم يغيّر في انطباع الضحايا شيئاً.
والشيء بالشيء يُذكر، فقد يكون لكل حرب صوتها. وثمة اتفاق واسع على أن صوت مروحية «هيوي» (أو «بيل يو إتش 1») هو صوت الحرب الفيتنامية، من وجهة نظر الجنود الأميركيين على الأقل.
وعلى أن صوت انقضاض طائرات «الشتوكا» الألمانية («يونكرز 87») لإلقاء قنابلها مستخدمةً مكبر صوت أطلق النازيون عليه اسم «بوق أريحا»، هو صوت الحرب العالمية الثانية، في مراحلها الأولى على الأقل قبل أن يحل مكانها صوت قاذفات «بي 29» الأميركية أو هدير دبابات «تي 34» السوفياتية.
تعكس الأسلحة المستخدمة في النزاعات والحروب الأهلية معطيات اجتماعية وسياسية متنوعة. كُتب الكثير عن المِدَى الكبيرة (Machette) التي اعتمد الهوتو عليها في أثناء مذابحهم ضد التوتسي في رواندا سنة 1994، وعن معنى استخدام هذا السلاح ومصدره ومَن استورده واختصاره للكراهية الإثنية وحلوله بديلاً زهيد الثمن عن الأسلحة النارية في بلد فقير. بهذا المعنى، يصح الحديث عن أسلحة الحروب الأهلية في الكثير من الأماكن من بينها لبنان الذي يبقى الكلاشنيكوف أمير الصدامات الأهلية. فهو يدل من جهة على مصدر السلاح ووصوله إلى البلد في إطار صراعات متداخل بعضها ببعض، الطائفي المحلي والإقليمي. كما يعلن أن اللبنانيين يستطيعون الإنفاق على سلاحهم الفردي، حتى اندلاع الأزمة الأخيرة على الأقل.
الاعتراض على انتشار السلاح وضرورة حصره بيد السلطة، يتجاهل أمرين: الأول طبيعة هذه السلطة المشكَّلة من ائتلاف طائفي لا تني العلاقات بين مكوناته تتبدل وتتغير وتستدعي، بالتالي، عناصر لتعزيز المواقع و«الخطاب» الأهلي ما يترك مجالاً ضرورياً لحضور السلاح.
والآخر أن استثناء السلطة ذاتها، مرغمة من الوصاية السورية بعد الحرب، لـ«حزب الله» من جمع السلاح، وانخراط الحزب العميق في التناحر الأهلي وأدائه دور العصا الغليظة للنظام الطائفي في الأعوام الأخيرة، وفّر ما يكفي ويزيد من ذرائع لكل الطوائف باستئناف سباق التسلح ما دامت محاولات الخروج من لغة العنف الأهلي قد أخفقت.



طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».