المايسترو لبنان بعلبكي لـ «الشرق الأوسط»: أخوض بالموسيقى معركة وجودية

افتتح موسم الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية بعد غياب

قائد الأوركسترا المايسترو لبنان بعلبكي
قائد الأوركسترا المايسترو لبنان بعلبكي
TT

المايسترو لبنان بعلبكي لـ «الشرق الأوسط»: أخوض بالموسيقى معركة وجودية

قائد الأوركسترا المايسترو لبنان بعلبكي
قائد الأوركسترا المايسترو لبنان بعلبكي

افتتحت الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية موسم حفلاتها بعد سنة ونصف السنة من التوقف جراء الظرف الثقيل. يخفق قلب المايسترو لبنان بعلبكي بفرح وهو يعود لقيادة الفرقة بإصرار على مستوى فني عالٍ لا يساوم عليه. يراقب العازفين ويتألم لنقص الأعداد، فكثر هاجروا وآخرون لم تعد الموسيقى تسدّ جوع عائلاتهم فابتعدوا إلى غير اتجاه. بالكمامات الزرقاء على الوجوه، واللباس الأسود الموحّد، قدمت الأوركسترا حفلاً بعد غياب، فصدحت المقطوعات الكلاسيكية في أرجاء كنيسة مار يوسف في مونو البيروتية العائدة إلى الحياة من ركام الانفجار الكبير.
تُقلّص الأوركسترا عدد حفلاتها التي تبدأها في أكتوبر (تشرين الأول) وتستمر حتى يونيو (حزيران) المقبل. تخطر على البال، و«الشرق الأوسط» تحاور المايسترو، أغنية فيروز من كلمات زياد الرحباني: «موسيقيي دقوا وفلوا والعالم صاروا يقلوا». يرفض بعلبكي التلويح بـ«وقت الفراق». بالنسبة إليه، ستظل الأوركسترا تعزف ولو لم يبقَ سوى ثلاثة عازفين. يرى الموسيقى عامل الإنقاذ الوحيد حين تشتد الأزمات، فيتحوّل وجوده كفنان جزءاً من «معركة وجودية» لاستعادة لبنان الثقافي. درس وعاش لنحو 14 سنة في أوروبا، ويملك جواز سفر أوروبياً يسهّل خيار تجنّب الشواء في وطنه، ومع ذلك يقرر البقاء: «واجبي ورسالتي».
سدّد رحيل رئيس الكونسرفتوار بسام سابا متأثراً بالوباء الكوفيدي، ثم الانهيار الاقتصادي المروّع المترافق مع الإقفال العام، صفعتين قاسيتين للأوركسترا الوطنية، فإذا بغلاء البنزين وجنون الدولار، يكملان محاولة إلحاقها بكل ما يتهدّم.
يشاء لبنان بعلبكي أن يقف سداً في وجه أي محاولة تُزهق ما تبقّى من روح بيروت ونبضاتها. لا يخفي التأثر الهائل للفرقة بالأوضاع الاقتصادية، فقد قلّ عدد العروض لصعوبة وصول جميع العازفين إلى التمارين، خصوصاً من يسكنون خارج المدينة. فالمواصلات مكلفة وأسعار المحروقات مبكية. تجد الأوركسترا أنّ الأنسب تخفيض عدد الحفلات، فتكون مرة شهرياً بعدما جمّلت الأمسيات البيروتية مرة في الأسبوع طوال أشهر إحياء فعالياتها، لسنوات طويلة. تنهض دول العالم بعد «الكوفيد» باندفاع، وهذه المدينة الخارجة من وباء وانفجار وارتطامات، تستعير يدي سيزيف لترفع بهما الصخرة نحو الأعلى. قدرها مقارعة الشقاء.
يضع الظرف الفنان أمام احتمالين، يعدّدهما لبنان بعلبكي: «الاستسلام والرحيل، أو البقاء وإحداث تغيير». أكثر ما يعنيه هو «المحافظة على ما يتبقّى من إرث ثقافي - حضاري». يكرّر الجملة مرات خلال المقابلة. كأنه يخشى ألا يظل إرث وألا تظل ثقافة. وككل مبدع يرى فسحات الأحلام تضيق في الأوطان الكئيبة، راحت تراوده فكرة الهجرة. تحوم كذباب ينخر الرأس، فيطردها ويبعدها: «التمسّك بكل ما صنعناه هو قراري الأهم. دوري في نهوض بلدي يضاهي رغبتي في تحقيق أحلامي في بوخارست أو ألمانيا. أعود إلى قيادة الأوركسترا وإيماني عظيم برسالة هذه الأرض. الغيم لا بد أن يزول، ومهما تلبدت السماء، ستعود صافية».
امتلأ المكان بالحضور في افتتاح موسم الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية، والمايسترو يتأمّل وجوه المتشوقين للنغم العذب، ويتساءل: «هل سيكون الموسم الأخير للأوركسترا؟ ماذا تخبّئ الأيام؟». يلمح الحيرة على وجوه العازفين أيضاً. يحزنه أنه في الظرف الصعب، تصبح الموسيقى والفنون في أسفل اهتمامات الدولة (اللبنانية)، عوض أن تكون في المقدمة لكونها دواء للنفس: «الحضور الثقافي في البلدان المأزومة يخفف غليان أحوالها. فالشباب المسلّح هو ليس الشباب المهتم بالمسرح والسينما والكتاب والموسيقى الكلاسيكية. على الدولة إدراك أهمية الثقافة كعامل إنقاذي خارج العنف والنزاعات الطائفية. فهي توحّد وتجمع وترتقي بالإنسان. إن وُجدت كبنية تحتية للمجتمع المتخبّط بالصراعات، فستحدّ من تشرذم ناسه وتهذّب الروح الجماعية. في الأزمة اللبنانية، تُقام النشاطات الثقافية باللحم الحي ومعظمهما يقتصر على مبادرات فردية. أخوض معركة وجودية للإبقاء على الهوية اللبنانية».
يخشى أن تصطبغ الحياة الاجتماعية بالأبيض والأسود وتضيع الألوان في خضم التجاذبات. يتابع حديثه: «لا يحيا المرء بالطعام والشراب فحسب. مما يمنح الأيام جدوى هي الفنون والموسيقى. فأريد، وسط إهمال الدولة والمؤسسات للشأن الثقافي في الأزمة، الإبقاء على صمود الأوركسترا اللبنانية. هي من الصروح القليلة التي لا تزال قادرة على ضخّ الحياة». العروق مهترئة لولا الفن.
يصف حفل الافتتاح بأنه من الأجمل خلال السنوات العشر الأخيرة لقيادته الأوركسترا. ربما لبلوغ الشوق إلى العروض والجمهور ذروته. فلبنان بعلبكي لا يستهوي حفلات «الأونلاين». برأيه: «لا تكتمل الموسيقى من دون تفاعل». ينتقد التركيز الإعلامي على مجموعات تقطع الطرقات وتشعل الإطارات، وعلى فصول العنف في الشوارع، «لكن في لبنان شبان وشابات يحملون أفكاراً مغايرة، يرتادون المسارح والمعارض والحفلات الموسيقية، فمن يحيطهم بالتغطية الإعلامية العادلة؟ فقدان الحالة الثقافية يتيح تضخيم الصورة غير المكتملة، فيما الجانب المشرق لا يحظى دائماً بالاهتمام الكافي».
يرث من والده النحات والرسام الراحل عبد الحميد بعلبكي عشق الفنون، فيرافقه هذا الميراث في كل خطوة: «لا أستطيع التفريط بما تحمّلني إياه عائلتي». هو شقيق الفنانة سميّة بعلبكي والرسام أسامة بعلبكي، وابن عم الرسام أيمن بعلبكي، «ومعاً، نخوض معركة الحفاظ على وجود لبنان الحضاري، فلا أشعر، مع مَن حولي من أصدقاء وفنانين، أنني وحدي».
يدرك أنّ صناعة التغيير كالحفر في الصخر، مضنية ومُعذّبة، لكنها في الضمير والوجدان والأخلاق. لا يعني بالتغيير إعادة تشكيل العالم، بل هو «تغيير بسيط وأساسي في تصويب مجرى الأحداث». تغريه الأحلام وتناديه فرص في الخارج، إلا أنه يفضّل استمرار الحفر.
يتحدث بفخر عن قيادته أوركسترا الراديو الوطني في بوخارست، حيث درس، كأول حفل مباشر مع الجمهور بعد «الكوفيد»، إلا أنّ القيمة الأسمى تبقى فيما يقدّمه لأرض لبنان المحترقة، وإسهاماته كقائد أوركسترا ومؤلف موسيقي في إخماد النار: «هذه مقاومتي».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».