«المجاز السياسي»... التضليل عبر توظيف اللغة

عمار علي حسن يكتب عن أنماطه في الإعلام والسياسة

«المجاز السياسي»... التضليل عبر توظيف اللغة
TT

«المجاز السياسي»... التضليل عبر توظيف اللغة

«المجاز السياسي»... التضليل عبر توظيف اللغة

صدر حديثاً ضمن سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية كتاب «المجاز السياسي» تأليف الباحث المصري الدكتور عمار علي حسن، الذي يحلل فيه طبيعة المجاز السياسي وأنماطه ومدى تغلغله في خطاب السياسيين بشكل خاص، وكذلك أجهزة الإعلام، وما تبثه من أخبار وتقارير مختلفة متعلقة بحياة الناس وأحاديثهم، حيث توجد الاستعارات والتشبيهات والكنايات في الحوارات اليومية التي تجري على الألسنة في الشوارع والأسواق والمكاتب والمصانع والورش والحقول والبيوت والملاعب، لافتاً إلى أن بعض الاستعارات المتداولة تعيبها المبالغة، ويمكن التعبير عنها بإشارة أو صمت، لكنها أياً كانت الهيئة التي تتخذها لا يمكن الاستغناء عنها.
يتضمن الكتاب ستة فصول وخاتمة ومقدمة ضافية، يقول المؤلف فيها أنه «لا يسعى لتوجيه دعوة إلى (ترصيع الخطاب السياسي بألوان من المجازات)، إنما يهدف إلى مشاكسة ومساءلة الذين يعتقدون أن السياسة تدور حول حقائق، ليروا من خلال دراسته وجهها الآخر، والذي تشير ملامحه إلى أنها تحل بقوة في رحاب المجاز». ويحاول الباحث من خلال ذلك استجلاء بعض الغموض، وهز المسلمات الزائفة، والتصورات الجامدة، وإماطة اللثام عن كثير من المكر والخداع الذي يحيط بالسياسة عبر توظيف اللغة، وحتى يكون الفرد الذي يذهب لساحاتها على وعي بمواضع خطواته، ويتجنب مصائد البلاغة وفخاخها.
ويأتي «المجاز السياسي» بفصوله ودراساته مكملاً لكتاب «الخيال السياسي» الذي صدر للمؤلف منذ 4 سنوات في السلسلة نفسها، وحاول فيه أن يقرب الخيال إلى الواقع، وإخضاع التفكير العميق والحر في المستقبل، لضبط علمي، كي لا ينزلق إلى أوهام أو أمنيات، أما في «المجاز السياسي» فكان عمار علي حسن معنياً بسبر «أغوار الرؤية التي تذهب إلى أن العالم غارق في أكاذيب سوداء وبيضاء، ومشاكسة الذين يعتقدون أن السياسة تدور حول (حقائق)، ليروا وجهها الآخر حيث تحل بقوة هائلة في المجاز».
ويلفت الباحث إلى أن هناك همزات وصل بين «الخيال السياسي» و«المجاز السياسي»، فالأخير بوسعه أن يفتح أمام التفكير أفقاً بعيداً وجديداً، ويمكن المشتغل بالسياسة، ومن يقوم بالتنظير في مجراها، «ويقف على الضفاف التي تتسع وتضيق، أن يرى ما في الواقع من تعقيد وتركيب ببصيرة نافذة، فبوسع مجاز واحد سائد ومتكرر عبر القرون، مثل (شعرة معاوية) مثلاً أن يساعد السياسي على أن يفتح ذهنه على احتمالات وخيارات متعددة، تترتب عليها تصرفات مرنة في دنيا الناس، كما أن تعبيراً مجازياً مثل: (بينهما ما صنع الحداد) يلهب الخيال حين يحاول في مبناه ومعناه أن يجيب عن سؤال حول الدرجة التي وصلتها العداوة بين طرفين».
بدأ الكتاب بتحليل ما بين الكلام والسياسة من دروب، ثم عرَّج على اللغة كسلطة وقوة ناعمة، ليعرض بعدها معنى المجاز السياسي، ماراً بتعريفه في العموم، وعلاقته بالحقيقة، ليصل إلى تحليل الاستعارات التي يعوم عليها الخطاب السياسي، ضارباً أمثلة، باستعارات الحرب، والنظر إلى الإنسان كآلة، وتأليه الدولة، وتجسيد المجتمع، والتعامل مع كرة القدم كراية قومية، وتصور العلاقات الدولية رقعة شطرنج، والمجتمع الرأسمالي «مول»، والاشتراكي ساحة للقطط السمان، والريبة في التمويل الدولي على أنه «غزو».
وتناول الكتاب مسألة المبالغة السياسية، مفرقاً بينها وبين الفصاحة والبلاغة ثم بين المقبول منها والمرفوض، وشرح جوانبها المتمثلة في الخطب الرنانة، واستدعاء الشعر السياسي، وتوظيف أفعل التفضيل، والتحريض على التطرف والتعصب، والنفاق والبذاءة والكذب السياسي. كما تناول بلاغة الصورة وتعامل معها كنص سياسي، لا سيما في مجالات الصور الجمالية، وصور الأفكار، والصور الذهنية بمساراتها المتشابهة والمتصارعة والمتعددة. ولم يغفل عمار علي حسن الحديث عن الصمت السياسي ورآه بليغاً، انطلاقاً من فضائه الأوسع المتمثل في الدين والحكمة، ثم تجلياته في التمنع والمقاومة والتفاوض والدعاية وبناء العقل الجمعي والعنصرية والسيطرة والثورة والصوم السياسي وتمدد الإمبراطوريات.
وأشار المؤلف إلى أن من يمعن النظر فيما يجري في الحياة يدرك أن للمجاز حظاً فيها أكبر بكثير مما للحقائق، وأنه مع الكذب تتعدد المجازات في إطار عمليات التدجين والمخاتلة والمراوغة والتحايل والمواربة والإيهام والدعاية والحشد والتعبئة.
ولم يلزم الباحث نفسه بالإسهاب في شرح ألوان المجاز وتجلياته المتعارف عليها عند اللغويين، منطلقاً مما انتهوا إليه ليبني تصوره عن «المجاز السياسي» بمسارات منهجية مختلفة، وإن كانت العناوين الرئيسية لفصوله تتكئ على بعض التقسيمات التي أنجزها اللغويون لأشكال المجاز، وتضيف إليها مجالات أخرى، نابتة من رحم المجتمع، ومشتقة من قلب السياسة التي تجنح إلى الصراع، وما يقتضيه من بناء الحجة والإقناع، بصرف النظر عن مدى تماسكها ومشروعيتها.
وفي الفصل الأول من الكتاب الذي جاء بعنوان «السياسة والكلام» ذكر عمار علي حسن أن الكلام هو الأكثر تفاعلاً مع السياق العام، ويجري في شكل حوار بين القوى والتكتلات والأحزاب والجماعات والدول ليعبر عن التنافس والصراع بينها، ولا يمكن فهمه إلا من خلال السياق الاجتماعي، وهو ما يبرهن على عدم صواب رأي من يتعاملون مع السياسة على أنها حقيقة مادية واضحة، ولا يبذلون أي جهد في سبيل معرفة ما فيها من كلمات محملة بالمجاز، حيث الأوهام والخيالات والصور غير الحقيقية والخدع والتلاعب بالألفاظ والمعاني والمشاعر والقلوب والعقول، فالسياسة ليست سوى خطاب، يشكل الكلام جزءاً رئيسياً منه، وإذا كان الناس في الدول الحديثة ينتظرون من السياسيين، بذل أقصى ما لديهم من جهد في سبيل توفير العيش الكريم للشعب كله عبر تقديم الخدمات كافة، فإن كل ما فيها يبدأ بالكلام، الذي يتم به كتابة وتسجيل وطرح معالم السياسات والخطط والاستراتيجيات.
وهذه البرامج أو الخطط، حسب قول المؤلف، تتسم بالتقريرية والعملية والإجرائية، التي تصبح بمنزلة العهود أو الوعود التي تقطعها الحكومات على نفسها، حيث ينقل هؤلاء كل ما يدور، أو يشاركون في صنعه من خلال الكلمات. ويشاركهم في هذا الإعلام الذي يعرض ما يتلقاه من المسؤولين والممثلين النيابيين، ويعمل على كشف ما يتعمدون إخفاءه، ويصيغونه في كلمات في الصحف وينطقون به في برامجهم، وقد يرسمونه في صور ملتقطة من الواقع، بعضها يغني عن آلاف الكلمات، أو في رسوم كاريكاتيرية تختزل الكثير مما يقال.
ويذكر المؤلف أن هناك حكومات تتهم معارضيها بأنهم لا يملكون إلا «الكلام»، مع أنه طريقة التعبير عن البرامج الحزبية، والخطط، والسياسات البديلة لدى المعارضين، والمحكومين، الذين بوسعهم هم أيضاً أن يعبروا بطرق أخرى غير الكلام تشمل الإشارة والإيماءة ولغة الجسد. لكن المشكلة الحقيقية، من وجهة نظر حسن، التي تكشف عنها الملاسنة بين السلطة والمعارضة، لا تقف عند حد اتهامات الأولى للثانية، بأنها لا تجيد سوى الثرثرة، وتوظيف الكلام في التلاعب بعواطف الجمهور، إنما هي أعمق من ذلك، وتمس الطرفين، ولا مزية لأحدهما على الآخر في هذا. وإمعان النظر في الجاري والسائد، يبين أن كلام السياسة لا يقتصر على المساجلات المباشرة بين السلطة والمعارضة، إنما يتجلى أيضاً في الخطب والشعارات والبيانات والمنشورات التي تنتجها أطراف عديدة منشغلة بالعمل السياسي. لكن الطرفين قد يتبادلان في بعض المواقف والحالات اللجوء إلى البيان أو البلاغة، من منطلق إدراكهما أن السياسة خطاب في الأساس، موجه بالدرجة الأولى إلى جماهير تنتظره وتستهلكه، وقد يروق لها فيقنعها، أو يزيد غضبها، ولا يقف التوظيف السياسي للكلام الشفاهي عند حد العلاقة بين السلطة والشعب فحسب، بل يحتاج الناس إلى الكلام ذي المجازات الظاهرة المتدفقة، من أجل ترتيب معاشهم، وإقامة العلاقات فيما بينهم. وفي مجال الحديث عن السياسة ككلام، رأى المؤلف أنه لا بد من تبيان علاقة اللغة بالسياسة، وكيف تصير اللغة سلطة معتبرة في حد ذاتها، حيث تشكل رافداً قوياً من روافد القوة الناعمة لأي دولة، ولفت إلى أن باب اللغة ينفتح على السياسة واسعاً، حيث ترتبط النصوص بسياقات إنتاجها وتلقيها، وتصنع الأشكال الكتابية والشفاهية في ميلها أحياناً إلى التكرار والتراكم مجازات تعمل في إدارة الصراع الثقافي السياسي، وتؤثر على أغلب النقاش السياسي الدائر حول العام والخاص، والحقيقي والمجازي. وهنا ينشط دور الاستعارات، لتتعدى ما تنبئ به قواعد البلاغة إلى ألوان من الأوهام والتهويمات والتصورات التي يصنعها الغياب الدائم للحقيقة، وما يقف خلف القرارات السياسية.
ويشير الكاتب إلى أن ما يجعلنا ننحرف عن الحقيقة السياسية، في تكوينها وهيئتها المجردة، ليس غموض المعلومات حولها، ولا ما تفعله بنا الآيديولوجيات والميول، إنما أيضاً أشكال الاستعارات والمجازات التي ننخرط فيها، حيث تلعب اللغة دوراً بارزاً، وتحتل موقعاً مركزياً، بالنسبة للتفكير في السياسة، وإنتاجها في خطابات تبدو ممارستها أمراً مستحيلاً من دون اللغة، سواء تم توظيفها في التواصل بين السلطة والشعب، أو في تأسيس الجماعات والتجمعات.


مقالات ذات صلة

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يسعى «معرض جازان للكتاب» خلال الفترة بين 11 و17 فبراير 2025 إلى إبراز الإرث الثقافي الغني للمنطقة.

«الشرق الأوسط» (جيزان)
يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»
TT

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»

مرت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الأصعدة، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة وطالت لبنان، ولا تزال مشاهدها الدامية تراكم الخراب والدمار على أرض الواقع. في غبار هذا الكابوس تستطلع «الشرق الأوسط» أهم قراءات المثقفين والمبدعين العرب خلال 2024.

في دول الخليج تنوّعت قراءات المثقفين والكتاب ما بين القراءات الشعرية والروائية، مع انفتاح على التجارب الأدبية في العالم العربي، ومقاربات للأعمال التي رصدت التجربة الحداثية وتأثيراتها، وكذلك التجارب النسوية في الرواية والسيرة الذاتية، وبينها كتب في الفكر والفلسفة والتاريخ الاجتماعي.

 

باسمة العنزي: ثوب أزرق وقبيلة تضحك ليلاً!

 

من الكويت، تقول الكاتبة والروائية الكويتية باسمة العنزي: سنة عاصفة مليئة بالأحداث المحبطة والأخبار البائسة! القراءة بدت فيها كاستراحة من لهاث متابعة أخبار الحروب وتردي الأوضاع وانحدار البشرية السريع. المفرح وسط كل هذا أن يقع بين يديك أعمال مبهرة هي الأولى لأصحابها!

قرأت للكاتبة السورية الكردية هيفا نبي «ثوب أزرق بمقاس واحد» الصادر عن دار «جدل» عام 2022، وهي رواية كتبت على شكل مذكرات، تناقش موضوع اكتئاب ما بعد الولادة بسرد جميل ونبرة أنثوية تغلغلت لتفاصيل عالم الأمومة الجديد لدى شابة مهجّرة من مدينتها بسبب الحرب. سرد شفاف يحلّق نحو ذات وحيدة تجتاز أزمتها عبر البوح. وهو عمل - للأسف - لم يحظَ بما يستحقه من اهتمام وانتشار رغم تجلي موهبة الكاتبة وتمكنها اللغوي وقدرتها على اقتناص الحالات النفسية ووصفها بكل تدرجاتها.

أما العمل الثاني فهو للكاتب السعودي سالم الصقور «القبيلة التي تضحك ليلاً» الصادر عن دار «مسكيلياني» عام 2024، وهو أيضاً يتناول موضوعاً جديداً في الرواية العربية عن عدم القدرة على الإنجاب في مجتمع قبلي معاصر، العمل مكتوب بلغة شعرية فذة وبنظرة فلسفية عميقة تضع تحت المجهر مفاهيم مثل الأمل والحرمان وخسارات الحياة القسرية. نوفيلا مكتنزة تدور أحداثها في نجران ليوم واحد يتحدد فيه مصير أبوة البطل المنتظرة!

هيفا نبي وسالم الصقور جاء عملاهما كإضاءة مبشّرة بالكثير في عالم يفقد دهشته ويخفت فيه صوت الحكمة، وقرأتهما في عام شحّت فيه الأشياء المدهشة!

 

د. عبد الرزّاق الربيعي: عودة لعبد الوهاب البياتي

ومن سلطنة عُمان، يقول الشاعر الدكتور عبد الرزاق الربيعي: كتب كثيرة قرأتها هذا العام، والبعض أعدت قراءته، وفق نظرة جديدة أكثر نضجاً، وتمحيصاً، وتذوّقاً، كالأعمال الشعرية لعبد الوهاب البياتي، والذي حفّزني للعودة إليها كتاب صدر عن دار «أبجد» هذا العام ضمن فعاليات مهرجان بابل العالمي للثقافات والفنون والإعلام (دورة 2024)، حمل عنوان «عبد الوهّاب البيّاتي... دراسات وشهادات وحوارات»، حرّره وقدّم له د. سعد التميمي. في بادرة ولمسة وفاء تُحسَب لرئيس المهرجان د. علي الشلاه.

وتأتي أهمية الكتاب كون محرّره د. التميمي، أستاذ النقد والبلاغة بالجامعة المستنصرية، وجّه دعوة ضمنيّة لقراءة البياتي، والكشف عن دوره الريادي، وفحص نتاجه من قبل النقاد الذين صرفت غزارة إنتاجه الشعري أنظارهم عنه، فهذه الغزارة بنظر د. حاتم الصكر «لم تدع فسحةً لقراءة نصيّة مناسِبة، فكثير من منتقدي سيرته السياسية اتبعوا ما أشيع عنه دون تمحيص؛ إذ لم يضعه الشيوعيون العراقيون - كما يشاع - محل السياب حين ارتدّ عنهم، لأنهم ليسوا بحاجة لشاعر، ومعهم مثقفوهم وأدباؤهم، كما أن البياتي ينتهج فكراً يسارياً قبل اصطفافه نصيراً للفكر اليساري التقليدي، وقد عزا ذلك - حين كتب (تجربتي الشعرية) - إلى ما كان يرى وهو صبي، من مظالم ومآسٍ تحيق بالمشردين والفقراء والنازحين للمدينة، وهو يراهم حول مزار الصوفي عبد القادر الجيلاني بوسط بغداد، حيث ولد البياتي ونشأ». وقد شارك في الكتاب كل من: د. حاتم الصكر، ود. بشرى موسى صالح، ود. خالد سالم، ود. محمد عبد الرضا شياع، ود. أناهيد الركابي، والشعراء: علي الشلاه، وهادي الحسيني، ومحمد مظلوم، ومحمد تركي النصار، ود. عبد الرزاق الربيعي، واشتمل على دراسات وشهادات وحوارات مسلطاً الضوء «على الإرث الشعري الذي خلّفه البياتي، وإسهاماته في تحديث القصيدة العربية، ورؤية البياتي للشعر، والحداثة وموقف الشاعر من السلطة والحرية، فضلاً عن تقنية كتابة القصيدة، وفاعليته في الوسط الثقافي».

قسّم التميمي الكتاب إلى ثلاثة فصول: تضمن الأول دراسات وقراءات، والثاني شهادات وذكريات، والثالث حوارات. وقد احتل الفصل الأول مساحة واسعة؛ إذ ضم سبع دراسات هي: القصيدة... المنفى... الموت... مفردات في تجربة البياتي الشعرية، للدكتور حاتم الصكر، وهالة الأسطورة في شعر عبد الوهاب البياتي، للدكتورة بشرى موسى صالح، والمتعاليات النّصّيّة في شعر البياتي، للدكتور محمد عبد الرضا شياع، والتجربة الإسبانية لدى البياتي، للدكتور خالد سالم، والبياتي من فلسفة الرفض إلى استشراف الرؤية، للدكتور سعد التميمي، ومركزية الهامش في شعر البياتي، للدكتورة أناهيد الركابي، ومجد الشعلة الخالدة الآخر في مرآة البياتي الشعرية، لمحمد تركي النصار.

أمّا الفصل الثاني، فقد ضمّ ثلاث شهادات حملت العناوين: «رجاءً عدم الجلوس... عبد الوهّاب البيّاتي قادمٌ بعد قليل» لعبد الرزاق الربيعي، و«في ذكرى البياتي» لهادي الحسيني، و«البياتي وسنواتنا في عمّان» للدكتور علي الشلاه.

وخُصّص الفصل الثالث لحوارات أجريت مع البياتي، وقد تناولت الدراسات الأثر الذي تركه البياتي ليس فقط لدى الشعراء العرب، بل تجاوز ذلك إلى الإسبان، خلال إقامته بمدريد في الفترة (1980-1990).

لقد أعاد هذا الكتاب لنفسي شغفي بقصيدة البياتي، التي تأثّرت بها في بداياتي مطلع الثمانينيات، فوفّر لي فرصة العودة للمنابع الشعرية الأولى.

 

عبد العزيز الصقعبي: أيام الغزو وسير النساء الذاتية

ومن السعودية، يقول الروائي والمسرحي السعودي عبد العزيز الصقعبي: أنا متفرغ حالياً للقراءة والكتابة، فالكتاب وجبة يومية، من الصعوبة تركها، والجميل في زمننا هذا هو سهولة الوصول للكتاب، ورقياً أو إلكترونياً، الحصة الأكبر من قراءاتي دائماً الرواية والقصة ثم الشعر والمسرح، إضافة إلى الكتب الفكرية والدراسات المهمة.

ربما - وأنا أتحدث عن نفسي كروائي - يرد في ذهني أمر ما - ربما وليس أكيداً – أتناوله في مشروع روائي؛ لذا أكثف قراءاتي حول ذلك الموضوع، أطرح لكم بعض الأمثلة «أيام الغزو... يوميات إسماعيل شموط أثناء احتلال الكويت»، وهي يوميات للفنان التشكيلي إسماعيل شموط؛ حيث كان لدي اهتمام بتلك الفترة التي لم تؤثر على الكويت فقط، بل على كامل المنطقة وبالأخص المملكة، بالطبع قرأت عدداً من الروايات والكتب حول ذلك ومن أهمها السباعية الروائية «إحداثيات زمن العزلة» للروائي الراحل إسماعيل فهد إسماعيل، على الرغم من كل الكتابات فتلك الفترة تحتاج إلى مزيد من الكتابة.

وحقيقة من الصعوبة سرد بقية أسماء الكتب التي قرأتها، فهنالك مثلاً روايات، تكون مقبولة وأنتهي منها عند آخر صفحة، ولكن لا تبقى في الذاكرة ولا تشجّع على قراءتها مرة أخرى ناهيكم عن كثير من الكتب وبالذات النصوص السردية التي لا أستطيع إكمالها، اللافت في 2024 دخول عدد من السير الذاتية النسائية في دائرة قراءاتي، بدأتها بسيرة «السنوات» الحائزة جائزة نوبل (أني إرنو)، وبعد ذلك أجد نفسي أمام سيرتين متشابهتين وفي الوقت ذاته مختلفتين؛ «حد الذاكرة» لعائشة محمد المانع، و«حياتي كما عشتها... ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا» لثريا التركي، وبكل تأكيد هنالك قائمة طويلة أحتفظ بها لنفسي، من الكتب التي قرأتها أو سأقرأها، أو أتصفحها ربما تشدني للقراءة.

 

كاظم الخليفة: الأدب السعودي والعلاقة بين الأدب والفلسفة

ويقول الكاتب والناقد السعودي كاظم الخليفة: كان مشروعي القرائي لعام 2024 هو استكشاف الأفق الإبداعي للكتاب السعوديين، الذي أتاحه المرور على عناوين وتصفح بعض إصدارات مشروع «1000 كتاب» الذي تقوم عليه دار «أدب للنشر والتوزيع» بدعم من الصندوق الثقافي السعودي، وكذلك قراءة «كتاب أنطولوجيا القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية» - الجزء الثاني - ذلك المشروع الرائد الذي قام بجهد شخصي من الأديب والقاص خالد اليوسف؛ لإبراز المشهد السردي السعودي المعاصر ومدى تقدمه من خلال ممارسة التجريب وتنوع الأدوات السردية. والثالث، كان المشروع الآخر للشاعر عبد الله السفر «رمال تركض بالوقت» الذي كان برعاية من مركز الملك عبد العزيز الثقافي «إثراء»، وهو عبارة عن مختارات لنصوص شعرية تختص بقصيدة النثر السعودية بغية ترجمتها للقارئ الفرنسي.

تعرض تلك الكتب جانباً مهماً من حراك الأدب السعودي المعاصر الذي يتطلب الكثير من الدراسة والتأمل، لكن الانطباع العابر يمكن استخلاصه في أن القصيدة الكلاسيكية السعودية تحاول تجديد ثوبها من خلال جعل «ذات» الشاعر بهواجسه وأحلامه أحد مواضيعها المهمة. أي أن الدافع الذاتي للكتابة، واتخاذ القصيدة وسيلة فضلى للتفكير، قد عمل على تقليص المساحة الكبيرة التي كان يحتلها شعر «المناسبات» في دواوين الشعراء.

والانطباع الثاني عن مستوى التقدم في كتابة قصيدة التفعيلة، التي لم تتقدم وتكتسب نسبة وازنة في دواوين الشعراء المعاصرين بشكل ملحوظ. أما ملمح قصيدة النثر الحديثة فنجد بروزاً لموضوع «الميتاشعرية»؛ حيث سؤال القصيدة ومحرضات كتابتها وجدواها. وفي كلا الجنسين الشعريين: الكلاسيكي والنثري، نلحظ فيهما تجاوز الشواعر النساء أزمة «النِّسوية» وبالتالي الكتابة بروح الأنثى المدركة لكينونتها.

في السرد، نلحظ نمواً لجنس القصة القصيرة جداً واقترابها - في بعض التجارب - من شذرات قصيدة النثر. وما يخص جنس القصة القصيرة، فيمكن ملاحظة أنها اتجهت نحو التنوع - بشكل واضح - في مواضيعها، مع تناول أكبر بالتركيز على الجوانب الوجودية والأزمات النفسية لشخوص حكاياتها. أما الرواية، فيمكننا رؤية اجتذابها للكتاب الشباب بإنتاج متلاحق لبعضهم؛ حيث يفصل بين كل عمل روائي وآخر أقل من عام.

مجال القراءة الحرة كان من نصيب كتب مميزة في بابها، وإن لم تبتعد كثيراً عن الأدب. ولعل أبرزها كتاب حديث للناقد الفرنسي كاميل ديموليي «الأدب والفلسفة... بهجة المعرفة في الأدب» الذي يُعتبر من أواخر من دخلوا في حلبة الصراع والجدل - منذ أفلاطون – عمّن هو الأجدر بتمثيل «الحقيقة»؛ الأدب أم الفلسفة، وكذلك عن طبيعة العلاقة الملتبسة بينهما. ففي هذا الكتاب يستعرض ديموليي الجدل القديم/الجديد عن علاقة الفلسفة بالأدب، ويحاور فيه جميع آراء الأدباء والفلاسفة البارزين، ابتداء بأفلاطون وسقراط، وانتهاء بنيتشه وهايدغر، ثم في خاتمة الكتاب يميل إلى الرأي الذي يقول إن «فكرة الفلسفة هي الأدب»، وذلك بمعنيين: أولاً أن الأدب هو فكرة الفلسفة، أي أنها إبداعه أو ابتداعه؛ ثم إنها مدار دراسته. وهكذا صار الأدب في نتيجته هو منبع الأفكار الفلسفية، وأنها تعود فيه وكأنها تعود إلى أصلها المنسي، كما يقول. بل إن نيتشه والتيار الرومانسي حاولا إعادة الفلسفة والأدب إلى أصلهما الشعري، بصفته نشاطاً خلاقاً؛ حيث الفلسفة - من وجهة النظر هذه - يمكن أن تكون ضرباً من الشعر المتحجر؛ أي خطاباً بواسطة الصور والمجازات.

 

حمد الرشيدي: بين البردوني والأفلاج والزلفي

من الرياض، يقول الشاعر والروائي السعودي حمد حميد الرشيدي: كثيرة هي الكتب التي قرأتها هذا العام وأعجبت بها، وكتبت بعض انطباعاتي الشخصية لما قرأته منها، وهي كتب تُعنى بالأدب والشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرح والدراسات النقدية، وقرأت بعض الكتب التي أثارت اهتماماً من قبل القراء أو النقاد... ومن الكتب التي قرأتها هذا العام وأعجبت بها، كتاب «المكان في شعر البردوني» للدكتور خالد اللعبون، وهو دراسة موضوعية تحدث فيها الكاتب عن ظاهرة اكتناز شعر الشاعر العربي اليمني الكبير عبد الله البردوني (رحمه الله) بالمكان وجغرافيته وارتباطه الحسي والمعنوي بالإنسان.

وفي مجال أدب الرحلات، قرأت كتاب «الأفلاج كما رآها فيلبي» وهو من تأليف عبد العزيز المفلح الجذالين. ويتحدث فيه مؤلفه عن أهمية مدينة الأفلاج عبر التاريخ وما ذكره الرحالة الإنجليزي المعروف عبد الله فيلبي عن هذه المدينة عندما زارها زيارة ميدانية سنة 1918م.

وفي مجال علوم التاريخ والاجتماع، قرأت كتاب «الكويت والزلفي» لمؤلفه حمد الحمد، وهو يتحدث عن الصلات التاريخية والاجتماعية بين بعض العوائل والأسر العربية ذات العوامل المشتركة في الاسم والنسب والأرومة في كل من الكويت ومدينة الزلفي.

وفي الفكر والفلسفة، قرأت كتاب «الحضارة العربية الإسلامية وعوامل تأخرها» للدكتور أمين أحمد زين العابدين، وهو كتاب تطرّق فيه المؤلف للحضارة العربية والإسلامية عبر التاريخ وما مرت به من مراحل وتغيرات عبر الزمن وأثرها وتأثيرها في الحضارات الأخرى.

وفي العلوم، قرأت كتاب «في تاريخ العلوم» للدكتور عبد الله محمد العمري، وهو كتاب يبحث في تاريخ العلوم عند العرب القدامى حتى العصر الحديث، وأهم الاكتشافات والاختراعات التي قام بها العرب والمسلمون منذ القدم، ثم تم نقلها عنهم للشعوب الأخرى التي قامت بالاستفادة منها وتطويرها في الوقت الحاضر.

جمانة الطراونة

 

جمانة الطراونة: من «أشجار الكلمات» إلى «غيم على سرير»

الشاعرة الأردنية المقيمة في مسقط (سلطنة عُمان) جمانة الطراونة، تقول: أميل إلى قراءة كتب المختارات الشعرية، كونها تعطي فكرة عن التجارب الشعرية المتحقّقة، وضمن هذا السياق، قرأت كتاب «أشجار الكلمات»؛ وهو مختارات شعرية للشاعر عدنان الصائغ. اختارها وقدم لها: حاتم الصكر، وحسن ناظم، وناظم عودة. وصدر عن دار «صوفيا» للنشر والتوزيع في الكويت، ومما علق في ذهني قوله:

«في الليلِ

أرى شخصاً آخرَ

لا أَعْرِفُـهُ

يَتَعَقَّبُني

فأغذُّ خطايَ،

وأسرعُ

أسمَعُهُ يتوسّلُ خلفي:

– اصحبْني ظلاً

فأنا أخشى أنْ أمشي منفرداً في الطُرُقاتْ».

أما أحدث كتاب قرأته هذا العام من كتب المختارات فهو كتاب «غيم على سرير» وقد ضمّ بين دفتيه مختارات من شعر عبد الرزاق الربيعي، وقد صدر عن دار «شمس» للنشر والإعلام، بالتعاون مع بيت الشعر ببغداد، والنصوص من اختيار الشاعر عماد جبّار، وقدّم لها د. سعد التميمي، الذي قال: «ينفرد الشاعر عبد الرزاق الربيعي من بين شعراء جيل الثمانينات باتّساع تجربته الشعرية وعُمقها وتنوعها، وهو الحاضر باستمرار في الساحة الشعرية والقادر على الانتقال من منطقة إلى أخرى مجدِّداً في القصيدة على مستوى اللغة والأسلوب والمعالجة والمفارقة، كاشفاً ما يحمله من عمق معرفي يتجلى في تناصّاته المتنوعة، (...) فهو القادم من صومعة الشعر حاملاً الوطن المثخن بالجراح والألم وصور الخراب والموت التي يختلط فيها الدم بالدموع»، وعلى الغلاف الأخير للمختارات كتب د. حاتم الصكر شهادة حول تجربة الربيعي، وقد قرأت ديوان الصكر «الهبوط إلى برج القوس» الصادر عن دار «أرومة للدراسات والترجمة والنشر»، وأبحرت مع عوالم الفقد، وأحزان غربته، التي يسرّبها عن طريق الشعر الذي يعتبره ملاذه الأخير ويستثمر الموروث الرافديني حين يرسم «بورتريهات» لعدد من أصدقائه كما في «خُطى جلجامش» التي يهديها إلى الشاعر عبد الرزاق الربيعي.