مستقبل واعد في الفضاء لذوي الاحتياجات الخاصة

هايلي أرسينو أول شخص يسافر إلى المدار الشهر الماضي باستخدام طرف صناعي (رويترز)
هايلي أرسينو أول شخص يسافر إلى المدار الشهر الماضي باستخدام طرف صناعي (رويترز)
TT

مستقبل واعد في الفضاء لذوي الاحتياجات الخاصة

هايلي أرسينو أول شخص يسافر إلى المدار الشهر الماضي باستخدام طرف صناعي (رويترز)
هايلي أرسينو أول شخص يسافر إلى المدار الشهر الماضي باستخدام طرف صناعي (رويترز)

يتحرك إريك إنغرام (31 سنة)، على مقعد متحرك. ويتولى إنغرام منصب الرئيس التنفيذي لشركة «سكاوت إنك»، المتخصصة في صناعة المكونات الذكية التي تدخل في تصنيع الأقمار الصناعية.
ولد إنغرام مصاباً بمتلازمة فريمان - شيلدون، حالة طبية نادرة تؤثر على المفاصل أعاقته عن تحقيق حلمه بأن يصبح رائد فضاء. وبالفعل، تقدم مرتين للعمل رائد فضاء، ورُفض طلبه.
مع ذلك، على متن رحلة طائرة خاصة هذا الأسبوع، دار إنغرام في الهواء من دون عناء يذكر. ووجد إنغرام أنّ التحرك كان أسهل في بيئة محاكاة انعدام الجاذبية، حيث احتاج إلى عدد قليل للغاية من الأدوات المساعدة.
وأثناء محاكاة الجاذبية القمرية على متن الرحلة، التي تعادل قرابة سدس جاذبية الأرض، اكتشف أمراً أكثر إثارة للدهشة: للمرة الأولى في حياته، أصبح بإمكانه الوقوف.
وعلق إنغرام على هذه التجربة بقوله: «لقد كان أمراً غريباً للغاية. إن مجرد الوقوف في حد ذاته كان بالنسبة لي على نفس الدرجة من الغرابة مثل الطفو في انعدام الجاذبية».
كان إنغرام واحداً من 12 راكباً من ذوي الاحتياجات الخاصة سبحوا في الهواء على متن رحلة طيران خاصة تحاكي بيئة خالية من الجاذبية في كاليفورنيا الجنوبية، الأحد الماضي، وذلك في إطار تجربة تختبر كيف يمكن لذوي الاحتياجات الخاصة التعامل داخل بيئة منعدمة الجاذبية. وتسمح هذه النوعية الخاصة من الرحلات الجوية التي تحاكي بيئة منعدمة الجاذبية، والتي تحلق داخل الغلاف الجوي للأرض في رحلات تتخذ مسارات تشبه أقواساً قصيرة متناوبة للركاب بتجربة انعدام الجاذبية، وتعد جزءاً أساسياً من تدريب رواد الفضاء.
من ناحية أخرى، تولت «أستروأكسيس» تنظيم الرحلة، وهي مبادرة غير هادفة للربح ترمي لإتاحة الرحلات الفضائية للجميع. وتكشف الأرقام أنّه رغم ارتياد نحو 600 شخص الفضاء منذ بدء انطلاق الرحلات الفضائية التي تحمل بشراً على متنها في ستينات القرن الماضي، حصرت وكالة «ناسا» وغيرها من وكالات الفضاء وظيفة رائد الفضاء على شريحة ضئيلة جداً من البشر.
في البداية، حصرت الوكالة الأميركية اختيارها بين الرجال البيض أصحاب اللياقة البدنية المرتفعة ليكونوا رواد الفضاء، وحتى عندما وسعت الوكالة أخيراً نطاق معاييرها، فإنها استمرت في اختيار أفراد يتوافقون مع مجموعة محددة من المتطلبات البدنية.
وكان من شأن ذلك سد الطريق إلى الفضاء أمام الكثيرين ممن يعانون إعاقات، وتجاهل الحجج القائلة بأنّ أصحاب الاحتياجات الخاصة بإمكانهم أن يكونوا رواد فضاء ممتازين في بعض الحالات.
إلا أنّ ظهور رحلات الفضاء الخاصة، بتمويل من مليارديرات ودعم من وكالات الفضاء الحكومية، يخلق إمكانية السماح لمجموعة أوسع بكثير من الأفراد بالمشاركة في رحلات للفضاء الخارجي. ويسعى أصحاب الاحتياجات الخاصة للانضمام إلى هذه المجموعة.
من جانبهم، أعرب المشاركون في رحلة «أستروأكسيس» التي انطلقت الأحد، عن اعتقادهم بأنه ينبغي التعامل مع مشكلات القدرة على الوصول إلى هذه الرحلات الآن، مع بداية ظهور رحلات الفضاء الخاصة، وليس لاحقاً، نظراً لأنّ إعادة تجهيز المعدات بما يواءم مع احتياجات الفئات المختلفة سيستغرق وقتاً ومالاً.
جدير بالذكر في هذا الصدد أنّه يحظر على رحلات الفضاء الخاصة إقرار تنظيمات السلامة لرحلات الفضاء الخاصة حتى أكتوبر (تشرين الأول) 2023. وترمي مبادرات مثل «أستروأكسيس» إلى توجيه الأسلوب الذي تدرس به الحكومة مسألة الوصول إلى مثل هذه الرحلات.
ويأمل القائمون على المبادرة في أن تسهم مسألة إتاحة الوصول للجميع إلى ظهور ابتكارات جديدة في مجال الفضاء تعود بالفائدة على الجميع، بغض النظر عن نمط الإعاقة التي يعانونها.
على سبيل المثال، سارع سوير روزنشتاين، راكب آخر كان على متن رحلة «أستروأكسيس»، إلى توضيح أنّ السبائك المعدنية خفيفة الوزن المستخدمة في صناعة مقعده المتحرك تعد نتيجة ثانوية لابتكارات وكالة «ناسا». يذكر أنّ روزنشتاين أصيب بالشلل من منطقة الخصر حتى أسفل الجسد جراء إصابة تعرض لها خلال دراسته بالمرحلة الإعدادية.
وبعد أن وجد نفسه محروماً من ارتياد الفضاء، توجه روزنشتاين للعمل صحافياً وغالباً ما يقدم تقارير تتعلق بالفضاء، بجانب «وبدكاست» بعنوان «الحديث عن الفضاء».
وخلال رحلة الأحد، ارتدى روزنشتاين بدلة فضاء معدلة خصيصاً لتناسب احتياجاته ومزودة بحزام يمكنه الإمساك به لثني ركبتيه والمناورة بساقيه.
وعن ذلك، قال روزنشتاين: «كنت قادراً على التحكم في نفسي وجسدي كله. ويكاد يكون من المستحيل وصف تلك الحرية التي تشعر بها بعدما سلبت منك على امتداد فترة طويلة للغاية».
أيضاً، وجد رزونشتاين نفسه أكثر مرونة في بيئة منعدمة الجاذبية، حيث أصبح باستطاعته أخيراً اختبار كامل نطاق الحركة الخاص به. وأثناء الرحلة، اختفى الألم المزمن الذي عادة ما يعايشه بمختلف أنحاء جسمه أثناء الطيران، حسبما أوضح. ومثل إنغرام، تمكن روزنشتاين كذلك من الوقوف بمفرده. ولمح الاثنان إلى أنّ تجربتهما توحي بإمكانية أن يكون لانعدام الجاذبية أو الجاذبية المنخفضة تطبيقات علاجية محتملة.
من ناحيتها، أوضحت آنا كابوستا، مديرة مهمة «أستروأكسيس» ومسؤولة الاتصال في المبادرة، أنّه مع إدخال تعديلات طفيفة، حقق المشاركون الـ12 نجاحاً بنسبة 90 في المائة تقريباً بالعودة إلى مقاعدهم بعد إجراء 15 اختباراً، منها 12 من دون جاذبية على الإطلاق، واثنان في ظل محاكاة جاذبية القمر وواحد حاكى جاذبية المريخ.
وأجرت «أستروأكسيس» هذه الاختبارات، التي استمر كل منها ما بين 20 و30 ثانية، للتأكد من أنّ ذوي الاحتياجات الخاصة باستطاعتهم المشاركة في رحلة شبه مدارية، على غرار تلك التي قام بها جيف بيزوس في يوليو (تموز)، والعودة بسلامة إلى مقاعدهم في غضون فترة محدودة قبل معاودة الدخول. ويعتبر هذا تدريباً نموذجياً على الرحلات شبه المدارية، لكن ليس للرحلات المدارية.
الملاحظ أنّ السهولة النسبية للرحلة فاجأت البعض من أعضاء الفريق، بما في ذلك تيم بيلي، المدير التنفيذي لـ«يوري نايت»، منظمة غير هادفة للربح تهتم بالتثقيف الفضائي وتتولى رعاية «أستروأكسيس». في البداية، أقر بيلي أنّه كان يشعر بالقلق من أن ذوي الاحتياجات الخاصة أكثر هشاشة وربما يتطلبون احتياطات طبية إضافية.
ومع ذلك، اعترفت سنترا مازيك (45 عاماً)، التي أصيبت بشلل جزئي أثناء خدمتها في الفرقة 82 بالجيش الأميركي المحمولة جواً، بأن التنقل داخل الطائرة لم يخل من التحديات. وأضافت: أنّ «الأمر صعب للغاية لأنك تشعر وكأنك تطفو وتشعر أنك بخفة الريشة. وحينها، لا تدري نقاط قوتك ولا نقاط ضعفك».
من ناحية أخرى، وبجانب بدلات الفضاء المعدلة لتوائم حركة الركاب ذوي الاحتياجات الخاصة، اختبر باحثون أنظمة إضاءة خاصة من أجل الركاب الذين يعانون الصمم وأجهزة ملاحة تعتمد على طريقة كتابة «برايل» من أجل الركاب المكفوفين.
ومن أجل التنقل بالطائرة كشخص كفيف، اختبرت مونا مينكارا (33 سنة)، جهازاً يعمل بالموجات فوق الصوتية وجهازاً آخر يعمل باللمس أو الاهتزاز، وكلاهما يسهم في تنبيهها حال اقترابها من جدران الطائرة أو أشياء أخرى. إلا أنّ مينكارا أكدت أنّ الأداة الأكثر فائدة هي الأبسط: عصا قابلة للتمدد. وقالت: إنّ «المفاجأة بالنسبة لي في بعض الأوقات، أنني كنت أعرف بالضبط أين كنت وكيف أواجه».
جدير بالذكر أنّ البعض ممن كانوا على متن الطائرة كانوا يحلمون ذات يوم بأن يكونوا رواد فضاء محترفين، ويأملون في أن يُفتح هذا الباب أمام ذوي الاحتياجات الخاصة.
من بين هؤلاء أبورفا فاريا (48 سنة)، يعاني من الصمم وأحد الأشخاص الذين تصر وكالات الفضاء على استبعادهم بسبب القواعد المعمول بها حالياً. وعن ذلك، قال: «تخبرنا وكالات الفضاء أنّه ليس باستطاعتنا الذهاب إلى الفضاء ـ لكن لماذا؟ أرني دليلاً».
ويتذكر فاريا أنّه عندما كان في الصف التاسع، كان يشاهد إطلاق مكوك فضائي عبر شاشة التلفزيون. ولم تظهر القناة تعليقات توضيحية، لذا لم يفهم ما يعنيه مكوك، أو لماذا كان الناس يجلسون بداخله مرتدين بدلات برتقالية. وعندما وصل العد التنازلي للصفر، قال إنّه اندهش لرؤية المكوك ينفجر منطلقاً نحو السماء ويختفي.
بعد ذلك بفترة قصيرة، كتب فاريا خطاباً إلى وكالة «ناسا» يستفسر من خلاله عما إذا كان باستطاعته التقدم لوظيفة رائد فضاء، وتلقى رداً يفيد بأنّ «ناسا» لا يمكنها قبول انضمام رواد فضاء من الصم في ذلك الوقت.
ونال فاريا درجات علمية رفيعة في مجال الهندسة، وعمل بالفعل في «ناسا» طوال عقدين في مجال توجيه المهام الفضائية والمساعدة بتصميم أنظمة الدفع للأقمار الصناعية.
وأثناء الرحلة التي شارك بها الأحد، اقترب قليلاً من حلمه. ووجد نفسه يصطدم بالجدران والسقف أثناء محاولته استخدام لغة الإشارة الأميركية أو الشرب من فقاعة مياه ضخمة تطفو بالهواء انفجرت بوجهه.
* خدمة: «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

علماء: الكواكب قد لا تكون ضرورية للحياة

يوميات الشرق العلماء يرون أن هناك إمكانية لوجود حياة في الفضاء حتى من دون كواكب (أرشيفية - رويترز)

علماء: الكواكب قد لا تكون ضرورية للحياة

يرى علماء من جامعتَي هارفارد وأدنبره أن الكواكب قد لا تكون ضرورية للحياة، مشيرين إلى إمكانية وجود حياة في الفضاء، حتى من دون كواكب.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق ألوانُها كأنه العيد في الفضاء (ناسا)

التلسكوب «جيمس ويب» يلتقط «زِينة شجرة ميلاد مُعلَّقة في الكون»

التقط التلسكوب الفضائي «جيمس ويب» التابع لـ«ناسا»، للمرّة الأولى، صورة لِما بدت عليه مجرّتنا في الوقت الذي كانت تتشكَّل فيه؛ جعلت علماء الفضاء يشعرون بسعادة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق الكويكبات الجديدة رُصدت بواسطة تلسكوب جيمس ويب الفضائي (معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا)

رصد 138 كويكباً صغيراً جديداً

تمكن فريق من علماء الفلك في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة من رصد 138 كويكباً صغيراً جديداً.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
الولايات المتحدة​ باميلا ميلروي نائبة مدير «ناسا» وبيل نيلسون مدير «ناسا» خلال مؤتمر صحافي في واشنطن (أ.ف.ب)

«ناسا» تعلن تأجيلات جديدة في برنامج «أرتميس» للعودة إلى القمر

أعلن مدير إدارة الطيران والفضاء (ناسا)، بيل نيلسون، تأجيلات جديدة في برنامج «أرتميس» الذي يهدف إلى إعادة رواد الفضاء إلى القمر لأول مرة منذ 1972.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
علوم رائدا الفضاء سونيتا ويليامز وباري ويلمور (أ.ب)

مرور 6 أشهر على رائدَي فضاء «ناسا» العالقين في الفضاء

مرّ ستة أشهر على رائدَي فضاء تابعين لوكالة الفضاء والطيران الأميركية (ناسا) عالقين في الفضاء، مع تبقي شهرين فقط قبل العودة إلى الأرض.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)