هل يمكن أن نتجاوز القبح الخارجي بحثاً عن الجمال الداخلي؟ وهل يمكن أن يصبح دفء المشاعر وعمق الإحساس والحس الإنساني بما يتضمنه من رأفة ونبل ورحمة بدائل حقيقية تغنينا عن الملامح المشوهة الفجة؟ للوهلة الأولى، سيجيب معظمنا مؤكداً أنه بالفعل يمكن ذلك، إنها إجابة جاهزة مجانية، لأننا لم نختبرها وسط تقلبات وتناقضات الواقع بقسوته ومفارقاته، فساعتها فقط يمكن أن نكتشف مدى اتساع الهوة بين الإجابات المثالية التي نطلقها باعتبارها «كيلشيه» وبين ردود أفعالنا ونحن تحت ضغط وهول الصدمة!
هذه هي الرسالة التي يهمس بها، ولو بشكل غير مباشر، صناع مسرحية «أحدب نوتردام» في أذن المتفرجين كل مساء على خشبة مسرح الطليعة بميدان العتبة (وسط القاهرة) حتى التاسع والعشرين من أكتوبر الجاري، في عرض ينتصر لفكرة الجمال الداخلي ونقاء الروح وصفاء النفوس من دون أن يغفل قسوة الشر ومرارة الظلم والاضطهاد.
وتعد «أحدب نوتردام» واحدة من أشهر كلاسيكيات الأدب الفرنسي التي جعلت من مؤلفها فكتور هوغو «1802 - 1885» كاتبا عالميا بامتياز إذ ترجمت إلى كل اللغات الحية كما جرى اقتباسها عشرات المرات في أعمال سينمائية ومسرحية وتلفزيونية وقدمها لأول مرة المخرج والاس ورسلي في فيلم سينمائي عام 1923، وربما كان الفيلم الأشهر هو الذي قدم لاحقاً عام 1956 من بطولة أنطوني كوين وجينا لولو بريجيدا، وحقق المسلسل البريطاني المأخوذ عنها نجاحاً كبيراً عام 1966، إخراج جيمس سيلان جونز، وبلغ من شدة جاذبية العمل أن دخلت شركة ديزني على الخط وقدمت نسخة الرسوم المتحركة عنه 1996.
تحكي الرواية الأصلية مأساة «كوازيمودو»، الطفل الذي ولد أحدب بملامح قبيحة فبات العالم يتنمر عليه وكأن قبحه الذي لا ذنب له فيه هو خطيئته التي يجب أن يعاقب عليها. يصادفه أحد رجال الدين ويدعى «الدوم كلود فلورو» فيواريه بعيداً عن أنظار العالم ويعهد إليه أن يكون قارع جرس الكاتدرائية، يكبر المراهق وتكبر معه مأساته كقبيح تتأسس علاقته مع العالم على الرعب المتبادل. يعيش «الأحدب» داخل جدران المكان لا يعرف شيئا عن العالم الخارجي حتى يحل موعد مهرجان يسمى بـ«مهرجان المهرجين»، وتقود الصدفة الأحدب ليشارك فيه، فيتورط بسلسلة من الأحداث تقوده للمحاكمة، وهو بين الحياة والموت، يطلب شربة ماء فلا يجد سوى السخرية والشماتة، وحدها الفتاة الغجرية الجميلة التي تنتزع آهات الإعجاب بقوامها الرشيق ورقصاتها المدهشة «أزميرالدا» هي من تحنو عليه وترفق به فيقع في حبها، تتطور الأحداث في اتجاهات مختلفة فتجد الفتاة الغجرية نفسها على حافة الموت عقابا على جرائم لم ترتكبها وتخفي التهم مكائد وأحقادا، ينقذها الأحدب مؤقتا من ثم يقعان في النهاية ضحية لمجتمع قاس يحترف الظلم.
على عكس تلك الرؤية المغرقة في الحزن واليأس، جاءت الرؤية التي صاغها مخرج العرض «ناصر عبد المنعم» لتضفي أجواءً مبهجة عبر اختيار نوعية الملابس التي صممتها نعيمة عجمي والتي اتسمت بالألوان الصارخة الفضفاضة، فضلا عن الرقصات المنفذة باحترافية وفق إيقاعات قوية من تصميم كريمة بدير، فيما جاءت الديكورات التي صممها حمدي عطية تتسم بالثراء الفني والتعبير القوي عن البيئات المتعددة التي يدور العرض في أجوائها مثل الكاتدرائية والسجن وحي الغجر والبيوت المشبوهة.
كلمة السر في تلك البهجة ربما تكون الغجر أنفسهم بطقوسهم وحفلاتهم وعشقهم العارم للحياة وتصميمهم على الاستمتاع بكل لحظة فيها. وفيما لعب ماكياج إسلام عباس دوراً بارزاً في تجسيد التشوه الجسدي للأحدب، إذ جسد جورج أشرف هذه الشخصية بشكل يمزج بين البساطة والعمق أما رجوى حامد فنجحت في التعبير عن روح شخصية «أزميرالدا» الممزقة ما بين الرغبة في ممارسة فعل البهجة وما بين التعرض للمؤامرات والظلم.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، ما الذي أراد المخرج ناصر عبد المنعم قوله من خلال هذه المعالجة الجديدة لنص كثر عرضه من قبل؟ يجيب المخرج قائلاً لـ«الشرق الأوسط»: «فكرة الجمال والقبح كانت الهاجس الأساس الذي حركني عند إعادة تناول هذا العمل، وكيف أن المشاعر الإنسانية النقية الصافية يمكن أن تتجاوز القبح والتشوه الخارجيين». وأضاف: «حاولنا هنا أيضاً أن ننتقد بشكل غير مباشر أفكاراً كريهة لا تزال موجودة حتى يومنا هنا بقوة مثل احتقار الفئات المهمشة والتنمر على الآخر والعنصرية تجاه المختلفين في اللون أو الملامح».
«أحدب نوتردام»... أكثر فرحاً في مصر
معالجة جديدة للنص الفرنسي تهزم «القبح الخارجي» بجمال الروح
«أحدب نوتردام»... أكثر فرحاً في مصر
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة