تنضم رواية «خطف الحبيب» للقاص والروائي الكويتي طالب الرفاعي، التي صدرت عن «الدار المصرية اللبنانية»، إلى قائمة الأعمال الروائية العربية التي تعمل في محورها الأول على مواجهة قضية الإرهاب والتطرف الديني؛ إذ ينفتح الخطاب الروائي منذ الصفحات الأولى على حبكة واقع اجتماعي وسياسي مخيف ومحزن يشدّ القارئ إلى متابعة القراءة مأخوذاً بتقنية التشويق، وتعدد الأصوات السردية، ووجود حكاية «حب» موازية تمضي بالتجاور مع القضية الرئيسية، مما يجعلنا منذ البدء أمام وجهات نظر متعددة ليس للحكاية المحورية فحسب، بل للحياة ككل.
لكن يظل صوت البطل الراوي الرئيسي «يعقوب» الذي تبدأ معه الأحداث ويشغل مساحة أوسع في السرد رافداً رئيسياً تنتهي مع تحركاته الرواية كما بدأت. «يعقوب»، هو مليونير كويتي صاحب شركة مقاولات كبرى، مندمج في عمله حد التلاشي به، محب لأسرته وأبنائه الأربعة، ومخلص لزوجته طوال سنوات زواجهما التي قاربت الأربعين عاماً، يجد نفسه فجأة ضمن واقع عبثي، يجبره على المضي في اتجاهات شتى محاولاً إنقاذ ابنه؛ فهل ينجح؟
يمضي طالب الرفاعي في مغامرة روائية جريئة كما سيتكشف من النص، ومنذ الصفحة الأولى لا يتأخر عن تقديم حوار يدور بين الأب «يعقوب» والابن «أحمد»، ليكشف أي بؤرة تدور فيها الوقائع، فالابن «تزيا فجأة باللباس الأفغاني»، ولم يتورع عن التهديد والتوعد لأسرته قائلاً: «عقابكم قادم». تمهّد هذه الكلمات لمأساة غياب «أحمد» الابن الأصغر لأسرة كويتية بالغة الثراء، لكنه ينزلق في دوامة الإرهاب لتخطفه بعيداً، ولعل دلالات العنوان في كلمة «خطف»، تكفي لأن تحيل النص لحالة من الفزع، فالخطف يعني أخذ الشيء أو الشخص عنوة على حين غرة، وتظل عودته في قيد المجهول، لأنها نتاج سلسلة من الأحداث التي سبقت الخطف وخلاله وبعده.
بيد أن قارئ «خطف الحبيب» وهو يتابع شخوص الرواية، يتنبه إلى حالة اختطاف جماعية تسيطر على النص، فشخوص الرواية جميعهم كل منهم مختطف إلى عالمه: يعقوب إلى عمله، و«شيخة» زوجته عاشت طوال سنينها مخطوفة إلى انشغالها مع أبنائها وعملها، ثم تتنبه متأخرة لكل ما غاب عنها، والابن أحمد يستحوذ عليه التطرف، فرناز حبيبة يعقوب تعيش منشطرة في دوامة قلقها من الرجوع لإيران، وتمني حصول أي تغيير يضمن ألا تكون حياتها وحياة أفراد أسرتها مهددة بالفقر والترحيل، أما الخال عثمان فهو منخطف لقناعاته الخاصة المؤيدة للإرهاب، هكذا يعيش كل بطل في الرواية مأساة داخلية تأخذه في متاهتها. يرى الناقد محمد قطب في كتابه «سرد الحياة» أن «كل أدب جميل هو أدب سياسي بالمفهوم العام... كما أن الرؤية السياسية إحدى آليات البناء في الموضوع الأدبي. ولأن الرواية تتسم بالجمال والجلال معاً، فإن تأثيرها ملموس في حركة الحياة وتشكيل الوجدان الإنساني».
انطلاقاً من هذا المعنى، يمكن ملاحظة كيف يدين النص في «خطف الحبيب» الإرهاب، ويمضي متتبعاً نواة تشكله ونتائجه القاتلة، وفي الوقت ذاته، ينبه القارئ: «ما يحدث حولنا أقرب مما نظن، فالمتسبب في ضياع ابنه لم يكن غريباً. إنه فرد من العائلة يموّل جماعة إرهابية، وللمفارقة القدرية فإن هذا الرجل (عثمان)، يعمل في شركة يعقوب، ويكاد يكون مساعده المقرب». يقول: «قبل أكثر من سنة ونصف السنة، دخل عثمان علي، بوجه لم أستطع تفسير نظراته، لينقل الخبر: (الحمد لله، أحمد صار أميراً لجماعة جهادية في سوريا، وأصبحت كنيته أبا الفتح الكويتي)».
- البناء المعماري للرواية
تنقسم الرواية البالغ عدد صفحاتها (335) إلى فصول صغيرة، ويعتمد الكاتب على تقنية الأصوات المتعددة، إذ تحكي الحكاية من أكثر من وجهة نظر، أو بعبارة أدق كل شخصية تقدم رؤيتها للعالم من خلال زاويتها الشخصية في تبرير أفعالها، وإلى جانب تعدد الأصوات اعتمد الكاتب بشكل كبير على تقنية «تيار الوعي»، في ربطه ثلاثة أزمنة ضمن مقطع سردي واحد، يتنقل بين ماض بعيد، وحاضر، وتساؤلات عن الغد، خاصة فيما يتعلق بعودة ابنه، لنقرأ تجلي هذه الصيغة: «بعد مرور أقل من سنة على غيابه، ما عادت شيخة تذكره، نظفت غرفته، رمت كل ما فيها، وأعادت صبغ جدرانها، أحمد اختفى من حياتنا واعتاد الجميع على عدم وجوده... وحدها فرناز شغلت بالي عنه خلال الأيام الفائتة. لا بد أن أراها وأجلس معها».
- الشخصيات والحبكة الدرامية
يرصد صاحب رواية «حابي» بشكل غير مباشر التحولات الاجتماعية التي عصفت بالكويت، منذ ظهور النفط، كيف كانت علاقة أهل الكويت مع البحر أولاً، ثم كيف تغيرت بعد ظهور النفط، هذا الرصد يتمظهر في تقديمه عدة تفاصيل حياتية ترتبط بماضيه وحاضرته، وحياته اليومية مع عائلته وفي عمله، أيضاً في أسلوب الحياة الذي اختارته العائلة، زوجته «شيخة» مثلاً، تحكي عن علاقتها بالملابس الكثيرة التي تملأ دواليبها، وفي الوقت نفسه تعاني من خواء داخلي رهيب نتيجة ابتعاد يعقوب عنها، وانشغال أولادها واختفاء ابنها الأصغر، يمنح الكاتب صوتاً خاصاً لشيخة لتحكي عن مكنوناتها الداخلية وصراعاتها، وإحساسها بالتلاشي رغم كل ما تنعم به من ثراء، وقد بدا صوت «شيخة» من أكثر الأصوات السردية في التلقائية والصدق الإنساني، تمكن الروائي من منحها فصولاً سردية قصيرة، لكنها مفعمة بالبوح الشفيف، كما حملها أيضاً جزءاً من التغيرات الاجتماعية، لنقرأ: «أحياناً أتساءل: لمن أشتري كل هذه الملابس إذا كان زوجي لاهياً عني؟ ما الذي جعل كلاً منا يُهمل الآخر ويصد عنه؟ لماذا اعتلَّت علاقتنا ووهنت. أحياناً حين أستمع لشكوى صديقاتي من خلافاتهن اليومية مع أزواجهن أشعر بالغيرة، فبعض الخلافات الزوجية صحية، تخفي لهفة وحرصاً على الآخر».
ضمن هذه الحبكة الدرامية المتوترة؛ ابن غائب وعلاقة زوجية فاترة، يباغت يعقوب تغير جذري في حياته، لا يبدو مفهوماً، يقول: «ولدي يترأس جماعة إرهابية تقاتل في بلاد الشام، وها هي فتاة شابة لا أعرفها تعترض طريقي فجأة فتشغل بالي».
تظهر الشابة الإيرانية «فرناز» التي تعمل موظفة في شركة يعقوب، لكن لا تبدو العلاقة الوليدة بينهما إلا انعكاساً آخر للمأساة الأساسية في النص، سرعان ما تتطور الأمور بسرعة بين يعقوب وفرناز، ببطء لكن بثبات؛ تبدو الأمور تحدث من جهة واحدة في البداية، أي من جانب يعقوب؛ فهو المحرك الرئيسي للعلاقة، لكن في المقابل لا يمكن تجاهل تمني فرناز أن تصبح جزءاً من حياة المليونير الذي تجاوز الستين، وهذا ما يتضح في أكثر من موضع في النص ضمن مونولوجاتها الداخلية، أيضاً موافقتها على لقائه على انفراد في ذاك «الأوتيل» الفخم. بيد أن علاقة يعقوب مع فرناز ظلت موشومة على مدار النص بحضور طيف الابن الغائب أحمد، وهذا يتضح في اللعبة السردية التي اعتمدها الكاتب بعد كل ظهور لفرناز؛ لا بد من الحديث عن أحمد، ثم طرح سؤال مباشر من يعقوب: «ما علاقة هذه الفتاة بأحمد؟». لعل الإجابة عن هذا السؤال تظل خافية حتى الفصول الأخيرة، حين يكشف الكاتب عن غاية قدرية ما كانت وراء ظهور فرناز في حياته. يكرر البطل جملة أن جده كان «نوخذة»، والمعروف أن النوخذة قائد السفينة ينطلق في البحار ويعتمد على بصيرته في التنبؤ بما سيأتي، هكذا هو يعقوب يعتمد منذ اللحظة الأولى لمشاهدته فرناز عند باب المصعد على إحساسه في أنها ستقوده إلى ابنه بشكل أو بآخر. لنقرأ: «تلاقت نظراتنا، أنا وهي، فلمحت جانباً من وجهها، وبريقاً في نظرة عينيها، ومستني رائحة عطر آسر بقربها. تمنيت لو أقف لأراها بكامل جسدها. كأن نظرتها خاطبتني بشيء لا أعرفه».
لقد نجح الكاتب في إخفاء العلاقة خلف ضباب الأحداث والأصوات الروائية المتعددة، يلاحق القارئ السؤال عن تطور الصلة بين الموظفة الفقيرة، ومدير الشركة الثري، إلا أنها تظل بعيدة تماماً عن الحسية، بل مسورة بالبحث عما يشغل بال يعقوب ويقض مضجعه، وهو غياب ابنه، لكن في الوقت ذاته تُجسد هذه الصلة بكل ما حملته من تفاصيل فكرة العلاقة مع الغرباء وحب الاستطلاع نحوَ من لا يشبهنا والرغبة في الاتصال به، التساؤل بشأنه وبشأن عالمه وحياته، وهذا يتجلى في طرفي العلاقة: «يعقوب وفرناز»، ففي مونولوجاتهما الداخلية، يطرح كل طرف تساؤلاته عن واقع الآخر وعالمه، وهذا يبدو منطقياً جداً في رواية اعتمدت كثيراً في أحداثها وتفاصيلها على بيان التناقضات الكثيفة التي تسربل المجتمع ككل من جهة، وتُفرق بين أفراد الأسرة الواحدة من جهة أخرى.
تمكن الكاتب من تشكيل حالة من التعاطف مع الأبطال جميعاً، من خلال لعبة المرايا المتجاورة التي تكشف الأمر وعكسه مع كل الشخوص.
تظل الإشارة إلى لغة الرواية؛ فقد امتازت لغة السرد بالسلاسة والتشويق والتلقائية وارتباطها بطبيعة الشخصيات، مع يعقوب بدت أكثر تركيباً على المستوى النفسي في الوثبات الزمنية، هذا لا نجده مع باقي الشخصيات، فيما بدت اللغة مع أحمد في الفصول السردية الخاصة به معبرة عن شخصيته وأحواله، ومع شيخة تميزت اللغة بالقدرة على وصف عالمها المرتبك والجاف؛ إذ لديها كل أسباب السعادة قبل غياب الابن، لكنها لم تكن سعيدة يوماً، في المقابل بدا صوت فرناز أكثر بساطة وتلقائية في وصف واقعها ومخاوفها وتطلعاتها. لم يسترسل الكاتب في استخدام اللغة الوصفية إلا في حدود الحاجة للوصف المكاني أو الذاتي للأشخاص، مما جعل لغة السرد تواكب التحولات المتصاعدة في حياة الأبطال.
«خطف الحبيب»، رواية كاشفة للمجتمع العربي ككل في تحولاته وليس الكويتي فقط، تميط اللثام عن كثيرٍ من التفاصيل المسكوت عنها، وتطرح أفكارها بجرأة غرضها التنبه لكل ما يعصف حولنا ويهدد حياتنا الآمنة.