بيوتنا التي سبقتنا إلى الرياض

بيوتنا التي سبقتنا إلى الرياض
TT

بيوتنا التي سبقتنا إلى الرياض

بيوتنا التي سبقتنا إلى الرياض

وسط حالة الشتات التي يعاني منها المثقف العربي، واحتدام الصراعات بين أطراف ليس للمثقف فيها ناقة، ولا جمل، وغالباً ما يأتي ذلك على حساب الثقافة التي أكلت الخلافات من جرفها الكثير، أقول: وسط ذلك، برزت الحاجة لمبادرات مجتمعية تعمل بعيداً عن المؤسسات، والقنوات الرسمية، يتركز دورها في لملمة المشهد الثقافي العربي، عبر جهود ذاتية، يقف الحماس، والصدق، والأهداف الواضحة، في واجهتها، تعمل بإشراف وإدارة مثقفين يؤمنون بدور الثقافة كوسيلة للتقارب ومد جسور الحوار بين الشعوب، والرقي بها، وهدفها السامي هو إخراج الثقافة العربية من الأزمة التي تعيشها، وهي أزمة انعكست على مجمل أنشطة الحياة، وألقت ظلالها الثقيلة عليها.
لذا، فإن الجلسات الحميمة التي جمعتنا في الرياض مع النخب، لم تكن طقوسية وبروتوكولية، بعدما أثبتت عمقها، وتجذرها وتناغمها، وحسبنا أن تلك الظاهرة لن نلتقيها في ثقافات أخرى، حتى لو ادعت وحدتها. كل ذلك يوحي بأفق جديد لوحدة ثقافية بعيدة عن مهاترات السياسة التي سعت خلال قرن إلى التفريق، والتفريط، فنجحت إلى حد بعيد في شق الصفوف، لكن الوعي الصاعد الذي نشهد عليه اليوم، لا سيما بين الشباب، كشف هزالها، فشرع يمضي بخطى واقعية، تبدأ بالثقافة ولا تنتهي بالحدود المصطنعة، بل تجد ضالتها بالاقتصاد والتعليم، والبحوث، والنشر، والإعلام، وغيرها، فهي نتاج توافق الروح الثقافية العربية وانسجامها مع بعضها البعض.
وحري بي الإشارة إلى التجارب التي لفتت نظري، منها: تجربة الموسوعة العالمية (أدب) التي يديرها د. عبد الله السفياني، ويقود فريق عمل جله من شباب ينهمكون في قضايا الكتابة الإبداعية، والترجمة، والبحث العلمي، يساهمون في بناء المجتمع، وتوعيته، من خلال أنشطته المتعددة منها: إنشاء دار نشر قامت بترجمة العديد من عناوين أبرز الكتب الأجنبية، ردماً للمسافات، إلى جانب أنشطة موقع «أدب» ذي الحساب المليوني الناشط في مواقع التواصل الاجتماعي، وهو موقع نظم عدة جلسات شعرية، وثقافية تابعها الآلاف، وخلال تجوالنا بين أجنحة المعرض، وجدنا في جناح الدار مظلة اجتمعنا تحتها، ليس فقط في المعرض، بل خارجه، عندما دعتنا الموسوعة العالمية أدب لجلسة شعرية وثقافية في «القرية النجدية»، أدارها، وشارك فيها د. عارف الساعدي، طالب عبد العزيز، أحمد بخيت، جاسم الصحيح، محمد إبراهيم يعقوب، د. حمد دوخي، د. وليد الصراف، والعبد الفقير لله، إلى جانب نقاد، وأكاديميين، من بينهم الشاعر سعيد الصقلاوي رئيس الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، ود. أحمد الزبيدي، ود. علي ثويني، الذي تحدث عن المشتركات التي تجمع الثقافتين العراقية والسعودية، حتى في الطراز المعماري، ورأى تطابقاً عجيباً مع الطرز العراقية في المنطقة الرسوبية، ورمزية العناصر مثل مثلثات نجد وعرائش السطوح التي تشي وكأنها مستلة من جدر بابل، بل والأبواب الخشبية... إلخ. ناهيك عن اعتماد طراز الهياكل بالحيطان الحاملة والتسقيف بجذوع النخل، والأثل، والجريد ولياسة الطين، وبياض الجص، بما يطابق تماماً ما كان متواتراً في العمارة الشعبية العراقية حتى أزمنة الحداثة التي غيرت تلك المفردات النابعة من سطوة البيئات الثلاث الاجتماعية والطبيعية الأرضية والطبيعية السماوية التي تصنع العمارة وطرزها، كما رأى.
لذا أضفى المكان في «القرية النجدية» حينما جالسنا النخب الشعرية والأدبية علينا هاجساً عميقاً بالألفة، لا سيما عندما مارست خامة الطين المعمارية سطوتها على وجداننا، وذاكرتنا، فكأنه بسط راحتيه ومد عنقه إلى بيوت الأجداد التي أمضينا فيها ردحاً من طفولتنا في قرى ومدن العمارة والناصرية والسماوة والبصرة، بل ويتطابق مع الزبير وأبي الخصيب بحذافيره، كما أشار إلى ذلك د. لؤي حمزة عباس، الذي قال كلمة صفق لها الحضور طويلاً، جاء فيها: «لقد خدعنا وزير الثقافة العراقي ود. عارف الساعدي عندما حملنا حقائبنا، وصعدنا الطائرة، ومضينا لنسافر، وما هي إلا لمحة، فحطت الطائرة، ونزلنا، فوجدنا أنفسنا في بيوتنا»، وبالفعل، كان هذا هو إحساسنا عندما وجدنا البيوت مفتوحة لنا. وكان الشعر حاضراً، في جلسة ضمت شعراء من العراق، والمملكة، ومصر، وسلطنة عمان، نقلت نقلاً مباشراً عبر حساب «أدب» المليوني في «تويتر».
وخلال جلسة أخرى دعانا لها د. ممدوح بن محمد الشمري، مؤلف كتاب «درب زبيدة»، وهي الطريق التي تربط المملكة العربية السعودية بالعراق، جمعتنا بخالد الشمري، عبد العزيز التويجري، ود. عارف الساعدي، وياسين النصير، ود. سعيد الزبيدي، ود. وليد العاني، وآخرين، وتجاذبنا خلالها أطراف الأحاديث، وأحسسنا أننا بالفعل في بيوتنا التي وجدنا قد انتقلت معنا إلى «رياض» المحبة، والثقافة، والجمال.
- شاعر عراقي مقيم في عُمان



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!