«عاصفة الحزم».. تعيد التوازن الإقليمي

شكلت حلفًا بدأ يتشكل لملء الفراغ الذي أحدثته الصراعات في المنطقة

«عاصفة الحزم».. تعيد التوازن الإقليمي
TT

«عاصفة الحزم».. تعيد التوازن الإقليمي

«عاصفة الحزم».. تعيد التوازن الإقليمي

حينما أطلق المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن مقولته الشهيرة «الحزم أبو اللزم أبو الظفرات.. والترك أبو الفرك أبو الحسرات».. كان يدرك جيدا معنى اتخاذ القرار السياسي والعسكري بحزم وسرعة، إلى أن أتم خريطة الدولة السعودية الثالثة عام 1933 خاض خلالها 18 معركة حربية بتوازن عجيب بين المكون الداخلي والخارجي، مرتكزا خلالها على الحزم في القرار وسرعة تنفيذه.
اليوم الملك سلمان بن عبد العزيز يرتكز على ذات الأسس المنطلقة من الحزم في القرار السياسي والعسكري ليوجد اثنين للعمل السياسي هما الحفاظ على تراب الوطن ووحدته، وخلق توازنات سياسية وتحالفات إقليمية ودولية موزونة. وقبل بدء عمليات «عاصفة الحزم» منتصف ليل 25 مارس (آذار) 2015. مهد الملك سلمان للعملية بتماه فائق الدقة، مع جيرانه وحلفائه في المنطقة، وشهد قصر «العوجاء» في مدينة الدرعية التاريخية التي شكلت منطلق الحكم السعودي، قبل بدء العملية مراحل سرية وواضحة الاتجاه معلنة انطلاق مرحلة سياسية جديدة في منطقة الشرق الأوسط.

شكلت عاصفة الحزم حلفا بدأ يتشكل في المنطقة العربية وهو الذي تكون في الأصل لملء الفراغ الذي أحدثته الصراعات التي تعيشها المنطقة العربية وخاصة ما يحدث من تدهور في العراق وسوريا، بجانب التمدد الإيراني والإسرائيلي، وقد وجدت الدعوة الاستجابة من الحكومات وشعوب المنطقة، بعد أن بدأت 10 دول تقودها السعودية تحالفا ليلقى فيما بعد ترحيبا دوليا واسع التأييد من دول دائمة العضوية في مجلس الأمن كأميركا وفرنسا وبريطانيا، ودول إسلامية وأخرى لها تأثير دولي وأعضاء في الناتو كتركيا وألمانيا.
الحلف جاء لتعديل الميزان الجيوسياسي في المنطقة المهتز كثيرا بسبب حالة الاستقطاب الحاد في منطقة شمال الجزيرة العربية وتحديدا بعد ما يسمى بالربيع العربي، وجاءت هذه العملية لتثبيت أركان الشرعية للحكم السياسي ومنع استقواء طرف على آخر تحت تأثير التدخلات الخارجية لتقطع الطريق لتحويل اليمن إلى دولة تحت الوصاية الإيرانية.
وأوجدت العملية جدارا منيعا لتمدد إيران في منطقة الشرق الأوسط، ليكون التحالف عامل ردع للمواقف الإيرانية المبنية على نشر القلاقل في المحيط العربي، وأظهرت السعودية ومن معها وجها شديد البأس سيعطي للشعوب العربية مستقبلا أكثر أمنا واستقرار.
ويقول مراقبون وعسكريون إن ما جعل «عاصفة الحزم» ذات تأثير مختلف ونفوذ واضح هو تجاوزها لكل المواقف السياسية المترددة لبعض الدول سواء على الصعيد الخليجي الخليجي أو العربي الخليجي أو العربي الإقليمي ووقوفها إلى جانب بعضها البعض بعيدا عن تفاعلات المواقف السياسية ذات النفس الحزبي كما بين مصر وتركيا، لتأخذ الرياض كل غير المتفاهمين إلى مرحلة الصف الواحد ورمي كل الاختلافات خلف الظهور، كون المرحلة السياسية تتطلب موقفا يتجاوز كل المشاغبات السياسية ويسكت حطب اللمز والغمز.
وحظيت عاصفة الحزم بتأييد أغلب الدول العربية، في الوقت الذي دفعت فيه مصر والأردن والمغرب والسودان ودول الخليج العربي ما عدا عمان للمشاركة الفعلية لخوض غمار الحرب لإعادة الشرعية اليمنية التي سلبت من قبل ميليشيات تتبع لإيران، إضافة إلى ما أشار إليه السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير «من أن دولا أخرى عبرت عن رغبتها في المشاركة في التحالف وتجري الآن محادثات بهذا الخصوص معهم ومن أهمها السودان وتركيا، إضافة للدعم الذي قدمته الولايات المتحدة الأميركية».
وأدركت دول التحالف الجديد خطورة «الثيوقراطية» التي تقودها إيران عبر ميليشيات الحوثيين في اليمن، حيث كانت إيران ولا تزال تقدم الدعم المالي والسياسي والإعلامي للحوثيين، وأن مجرد حضورها في اليمن يعتبر تطويقا للعدو التقليدي وهو السعودية، في محاولة للتمدد الإيراني بالتأثير في العمق الاستراتيجي لدول الخليج وذلك من خلال العمل على السيطرة على مضيق باب المندب، ومن ثم تهديد الملاحة البحرية التي تعتمد عليها دول الخليج لصادرتها من النفط.
عاصفة الحزم تجاوزت كل الخلافات العربية - العربية وأيضا الخلافات الإقليمية والتي كان من أهمها الخلافات التي نشبت بين دول الخليج وخاصة فيما يتعلق في الملف القطري، إذ اشتعل الخلاف بين دول الخليج والذي نتج عنه سحب السعودية والإمارات والبحرين سحب السفراء من قطر في بيان ثلاثي والذي يعد الأول من نوعه في إطار العلاقات الخليجية، إلا أنه ما لبث أن تمت المصالحة قبل نهاية العام الماضي، لتكون قطر اليوم ضمن التحالف في عملية «عاصفة الحزم»، التي تشرف عليها السعودية.
دخول السودان لهذا التحالف الجديد يعتبر أمرا مهما وإيجابيا خاصة أن العلاقات بين الرياض والخرطوم لم تكن في أفضل أحوالها خلال السنوات الماضية، بل كانت العلاقات بين السودان وإيران تفوقها بمراحل، حتى حدث تحول نوعي مفاجئ عندما طردت السودان الملحق الثقافي الإيراني، وزار الرئيس عمر البشير الرياض الأسبوع الماضي وقال في تصرح له إن المباحثات التي أجراها مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز تركزت على تعزيز التعاون الثنائي، والعمل على تبادل زيارات الوفود على المستوى الرسمي والشعبي، وقال في حوار مع صحيفة «الشرق الأوسط» إن زيارته عمقت العلاقات بين البلدين إلى مستوى متقدم جدا جدا، إلى درجة أنه قال: «أقول إن العلاقات السودانية السعودية في أفضل حالاتها على مر التاريخ والحقب».
الرئيس السوداني أنهى العلاقات الإيرانية حينما صرح بقوله «ليست لدينا أي علاقات استراتيجية مع طهران، بل علاقات عادية للغاية»، بعد أن أصدر تعليماته بإغلاق المراكز الثقافية الإيرانية على أرضها التي تأسست منذ عام 1984. ليأتي قرار البشير بالمشاركة في العملية العسكرية التي أطلقتها السعودية، متماشيا مع الرؤية الاستراتيجية التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط والوضع العربي الحالي، بعد أن أصبح الخطر الإيراني يعمل على خنق كافة الدول العربية عبر الاستيلاء على مضيقي هرمز وباب المندب باستخدام الحوثيين كمخلب قِط.
ويقول المراقبون إن التحالف الجديد ضم بين أجنحته دولا لديها تباين سياسي مثل مصر وتركيا، بعد أن أعلنت القاهرة مشاركتها في عاصفة الحزم، ساندت أنقرة الضربات العسكرية التي تقودها السعودية ومعها مصر ضد الحوثيين في اليمن، وفقا للبيان الذي صدر عن وزارة الخارجية التركية، معلنة استعدادها عن تقديم الدعم اللوجستي للعمليات على الأرض، إذ صدر بعد انطلاق العملية العسكرية بساعات بيان وزارة الخارجية التركية الذي أعرب عن الدعم للعملية العسكرية التي أطلقتها قوات التحالف في مواجهة الحوثيين، والتي تمت بناء على طلب الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي الرئيس المنتخب شرعيا، حيث قامت السعودية بإبلاغ تركيا مسبقا عن العملية العسكرية.
وأضاف البيان «نعرب عن ثـقتنا بأن هذه العملية ستساهم في الحد من مخاطر الاقتتال الداخلي والفوضى في البلاد، وفي إعادة سيطرة السلطات الشرعية على زمام الأمور فيها، كما ندعو الحركة الحوثية وداعميها من الخارج إلى الابتعاد عن التصرفات التي تهدد الأمن والسلام في اليمن والمنطقة»، وكانت رسالة واضحة من أنقرة لدعم التحالف الجديد والحفاظ على الشرعية، ولم تكتف الخارجية التركية بهذا البيان بل أعلن الرئيس التركي إردوغان في تصريحات صحافية أن بلاده مستعدة لتقديم الدعم اللوجستي في عملية عاصفة الحزم، وموجها رسالة إلى طهران بقوله «ينبغي على إيران والمجموعات الإرهابية الانسحاب من اليمن».
وشكلت مواقف التحالف العربي والإسلامي الجديد رؤية جديدة للعالم الغربي في ملف تفاوضها مع إيران حول الملف النووي الإيراني، وأعطت عاصفة الحزم أرضية قوية للولايات المتحدة في نفسها التفاوضي الطويل وتقضي أيضا على حالة التعنت المرتبطة بالشخصية الإيرانية. وبتمحيص الردود الغربية ومن أوروبا تحديدا، فإننا نجد اصطفافا بريطانيا ألمانيا فرنسيا خلف روح التحالف العربي الإسلامي الجديد ولم تفكر مطلقا في أي مواقف أخرى كونها تعلم مكانة وحجم السعودية وتأثيرها العربي والإسلامي، ولأن المصلحة الأوروبية تقتضي الاتساق مع القوة العربية الجديدة.
ونجحت السعودية ودول التحالف في إعادة العقيدة الإسلامية الصافية البعيدة عن الطائفية المقيتة ووجهت العالم الإسلامي نحو طريق السلام الروحي المخالف للتشنج والتقسيم، وسارعت المؤسسات الإسلامية والعلماء المعتبرون إلى مباركة عاصفة الحزم وأنها الطريق القويم للأمة الإسلامية وإعادة روحها المختطفة، لتصدر رابطة العالم الإسلامي بيانا تعلن فيه تأييد المسلمين في مختلف ديارهم لعمليات عاصفة الحزم، وجاء في البيان «تُعلن رابطة العالم الإسلامي سرورها وسرور المسلمين كافة بالتحالف العربي والإسلامي، الذي يفرضه الإسلام في نصرة المظلوم ورد البغي والعدوان، وإن الرابطة لتشكر الله ثم تشكر قادة الخليج والبلاد العربية والإسلامية المتعاونة في عملية عاصفة الحزم وفي مقدمتهم خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله -، الذي يحرص كل الحرص على ما يحقق الأمن والاستقرار في الوطن العربي والإسلامي والعالم أجمع»، مشيرا إلى أن المسلمين يأملون أن تحقق «عاصفة الحزم» أهدافها بما يُبعد اليمن عن كل فتن والتدخلات.
وأوجد التحالف الإقليمي إجماعا بين علماء المسلمين في أوروبا والقارة الأسترالية، إذ أعلن عدد من القيادات الإسلامية في أوروبا منهم الدكتور محمد البشاري أمين عام منظمة التعاون الإسلامي الأوروبي، الذي قال في تصريحات صحافية «إن إعلان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز للقتال ضد الحوثيين، بمثابة جهاد دفع الاعتداء والبلاء لهذه المظلومية الواقعة على الشعب اليمني على وجه التحديد».
وفي القمة العربية في شرم الشيخ الأسبوع الماضي، كان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز واضحا عبر كلمته «الواقع المؤلم الذي تعيشه عدد من بلداننا العربية، من إرهاب وصراعات داخلية وسفك للدماء، هو نتيجة حتمية للتحالف بين الإرهاب والطائفية، الذي تقوده قوى إقليمية أدت تدخلاتها السافرة في منطقتنا العربية إلى زعزعة الأمن والاستقرار في بعض دولنا»، وكان الملك سلمان واضحا في نهجه بتقوية الدور العربي الإسلامي في المنطقة حينما قال: «لا بد لنا من متابعة ما أسفرت عنه الجهود القائمة لإحداث نقلة نوعية في منهج وأسلوب العمل العربي المشترك، بما في ذلك إعادة هيكلة جامعة الدول العربية وتطويرها، وذلك على النحو الذي يمكنها من مواكبة المستجدات والمتغيرات وإزالة المعوقات ومواطن الخلل التي تعترض مسيرة عملنا المشترك».
ولا بد من العودة إلى شخصية الملك سلمان لدوره الرئيسي والأساسي في ميلاد عهد عربي مختلف أخذ في حسبانه التحديات المشتركة لدول الإقليم، فالملك سلمان رجل عميق الجذور في تربة قضايا أمته الإسلامية والعربية، ودؤوب في العمل وكتوم ويعرف حجم بلاده جيدا عبر فهمه الدقيق لإرثه السياسي ولا يتخذ موقفا بناء على محركات أو دوافع شخصية بل يوسع في عقله دائرة التفكير ويتخذ القرار حين تحين لحظته المناسبة.



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.