حينما أطلق المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن مقولته الشهيرة «الحزم أبو اللزم أبو الظفرات.. والترك أبو الفرك أبو الحسرات».. كان يدرك جيدا معنى اتخاذ القرار السياسي والعسكري بحزم وسرعة، إلى أن أتم خريطة الدولة السعودية الثالثة عام 1933 خاض خلالها 18 معركة حربية بتوازن عجيب بين المكون الداخلي والخارجي، مرتكزا خلالها على الحزم في القرار وسرعة تنفيذه.
اليوم الملك سلمان بن عبد العزيز يرتكز على ذات الأسس المنطلقة من الحزم في القرار السياسي والعسكري ليوجد اثنين للعمل السياسي هما الحفاظ على تراب الوطن ووحدته، وخلق توازنات سياسية وتحالفات إقليمية ودولية موزونة. وقبل بدء عمليات «عاصفة الحزم» منتصف ليل 25 مارس (آذار) 2015. مهد الملك سلمان للعملية بتماه فائق الدقة، مع جيرانه وحلفائه في المنطقة، وشهد قصر «العوجاء» في مدينة الدرعية التاريخية التي شكلت منطلق الحكم السعودي، قبل بدء العملية مراحل سرية وواضحة الاتجاه معلنة انطلاق مرحلة سياسية جديدة في منطقة الشرق الأوسط.
شكلت عاصفة الحزم حلفا بدأ يتشكل في المنطقة العربية وهو الذي تكون في الأصل لملء الفراغ الذي أحدثته الصراعات التي تعيشها المنطقة العربية وخاصة ما يحدث من تدهور في العراق وسوريا، بجانب التمدد الإيراني والإسرائيلي، وقد وجدت الدعوة الاستجابة من الحكومات وشعوب المنطقة، بعد أن بدأت 10 دول تقودها السعودية تحالفا ليلقى فيما بعد ترحيبا دوليا واسع التأييد من دول دائمة العضوية في مجلس الأمن كأميركا وفرنسا وبريطانيا، ودول إسلامية وأخرى لها تأثير دولي وأعضاء في الناتو كتركيا وألمانيا.
الحلف جاء لتعديل الميزان الجيوسياسي في المنطقة المهتز كثيرا بسبب حالة الاستقطاب الحاد في منطقة شمال الجزيرة العربية وتحديدا بعد ما يسمى بالربيع العربي، وجاءت هذه العملية لتثبيت أركان الشرعية للحكم السياسي ومنع استقواء طرف على آخر تحت تأثير التدخلات الخارجية لتقطع الطريق لتحويل اليمن إلى دولة تحت الوصاية الإيرانية.
وأوجدت العملية جدارا منيعا لتمدد إيران في منطقة الشرق الأوسط، ليكون التحالف عامل ردع للمواقف الإيرانية المبنية على نشر القلاقل في المحيط العربي، وأظهرت السعودية ومن معها وجها شديد البأس سيعطي للشعوب العربية مستقبلا أكثر أمنا واستقرار.
ويقول مراقبون وعسكريون إن ما جعل «عاصفة الحزم» ذات تأثير مختلف ونفوذ واضح هو تجاوزها لكل المواقف السياسية المترددة لبعض الدول سواء على الصعيد الخليجي الخليجي أو العربي الخليجي أو العربي الإقليمي ووقوفها إلى جانب بعضها البعض بعيدا عن تفاعلات المواقف السياسية ذات النفس الحزبي كما بين مصر وتركيا، لتأخذ الرياض كل غير المتفاهمين إلى مرحلة الصف الواحد ورمي كل الاختلافات خلف الظهور، كون المرحلة السياسية تتطلب موقفا يتجاوز كل المشاغبات السياسية ويسكت حطب اللمز والغمز.
وحظيت عاصفة الحزم بتأييد أغلب الدول العربية، في الوقت الذي دفعت فيه مصر والأردن والمغرب والسودان ودول الخليج العربي ما عدا عمان للمشاركة الفعلية لخوض غمار الحرب لإعادة الشرعية اليمنية التي سلبت من قبل ميليشيات تتبع لإيران، إضافة إلى ما أشار إليه السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير «من أن دولا أخرى عبرت عن رغبتها في المشاركة في التحالف وتجري الآن محادثات بهذا الخصوص معهم ومن أهمها السودان وتركيا، إضافة للدعم الذي قدمته الولايات المتحدة الأميركية».
وأدركت دول التحالف الجديد خطورة «الثيوقراطية» التي تقودها إيران عبر ميليشيات الحوثيين في اليمن، حيث كانت إيران ولا تزال تقدم الدعم المالي والسياسي والإعلامي للحوثيين، وأن مجرد حضورها في اليمن يعتبر تطويقا للعدو التقليدي وهو السعودية، في محاولة للتمدد الإيراني بالتأثير في العمق الاستراتيجي لدول الخليج وذلك من خلال العمل على السيطرة على مضيق باب المندب، ومن ثم تهديد الملاحة البحرية التي تعتمد عليها دول الخليج لصادرتها من النفط.
عاصفة الحزم تجاوزت كل الخلافات العربية - العربية وأيضا الخلافات الإقليمية والتي كان من أهمها الخلافات التي نشبت بين دول الخليج وخاصة فيما يتعلق في الملف القطري، إذ اشتعل الخلاف بين دول الخليج والذي نتج عنه سحب السعودية والإمارات والبحرين سحب السفراء من قطر في بيان ثلاثي والذي يعد الأول من نوعه في إطار العلاقات الخليجية، إلا أنه ما لبث أن تمت المصالحة قبل نهاية العام الماضي، لتكون قطر اليوم ضمن التحالف في عملية «عاصفة الحزم»، التي تشرف عليها السعودية.
دخول السودان لهذا التحالف الجديد يعتبر أمرا مهما وإيجابيا خاصة أن العلاقات بين الرياض والخرطوم لم تكن في أفضل أحوالها خلال السنوات الماضية، بل كانت العلاقات بين السودان وإيران تفوقها بمراحل، حتى حدث تحول نوعي مفاجئ عندما طردت السودان الملحق الثقافي الإيراني، وزار الرئيس عمر البشير الرياض الأسبوع الماضي وقال في تصرح له إن المباحثات التي أجراها مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز تركزت على تعزيز التعاون الثنائي، والعمل على تبادل زيارات الوفود على المستوى الرسمي والشعبي، وقال في حوار مع صحيفة «الشرق الأوسط» إن زيارته عمقت العلاقات بين البلدين إلى مستوى متقدم جدا جدا، إلى درجة أنه قال: «أقول إن العلاقات السودانية السعودية في أفضل حالاتها على مر التاريخ والحقب».
الرئيس السوداني أنهى العلاقات الإيرانية حينما صرح بقوله «ليست لدينا أي علاقات استراتيجية مع طهران، بل علاقات عادية للغاية»، بعد أن أصدر تعليماته بإغلاق المراكز الثقافية الإيرانية على أرضها التي تأسست منذ عام 1984. ليأتي قرار البشير بالمشاركة في العملية العسكرية التي أطلقتها السعودية، متماشيا مع الرؤية الاستراتيجية التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط والوضع العربي الحالي، بعد أن أصبح الخطر الإيراني يعمل على خنق كافة الدول العربية عبر الاستيلاء على مضيقي هرمز وباب المندب باستخدام الحوثيين كمخلب قِط.
ويقول المراقبون إن التحالف الجديد ضم بين أجنحته دولا لديها تباين سياسي مثل مصر وتركيا، بعد أن أعلنت القاهرة مشاركتها في عاصفة الحزم، ساندت أنقرة الضربات العسكرية التي تقودها السعودية ومعها مصر ضد الحوثيين في اليمن، وفقا للبيان الذي صدر عن وزارة الخارجية التركية، معلنة استعدادها عن تقديم الدعم اللوجستي للعمليات على الأرض، إذ صدر بعد انطلاق العملية العسكرية بساعات بيان وزارة الخارجية التركية الذي أعرب عن الدعم للعملية العسكرية التي أطلقتها قوات التحالف في مواجهة الحوثيين، والتي تمت بناء على طلب الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي الرئيس المنتخب شرعيا، حيث قامت السعودية بإبلاغ تركيا مسبقا عن العملية العسكرية.
وأضاف البيان «نعرب عن ثـقتنا بأن هذه العملية ستساهم في الحد من مخاطر الاقتتال الداخلي والفوضى في البلاد، وفي إعادة سيطرة السلطات الشرعية على زمام الأمور فيها، كما ندعو الحركة الحوثية وداعميها من الخارج إلى الابتعاد عن التصرفات التي تهدد الأمن والسلام في اليمن والمنطقة»، وكانت رسالة واضحة من أنقرة لدعم التحالف الجديد والحفاظ على الشرعية، ولم تكتف الخارجية التركية بهذا البيان بل أعلن الرئيس التركي إردوغان في تصريحات صحافية أن بلاده مستعدة لتقديم الدعم اللوجستي في عملية عاصفة الحزم، وموجها رسالة إلى طهران بقوله «ينبغي على إيران والمجموعات الإرهابية الانسحاب من اليمن».
وشكلت مواقف التحالف العربي والإسلامي الجديد رؤية جديدة للعالم الغربي في ملف تفاوضها مع إيران حول الملف النووي الإيراني، وأعطت عاصفة الحزم أرضية قوية للولايات المتحدة في نفسها التفاوضي الطويل وتقضي أيضا على حالة التعنت المرتبطة بالشخصية الإيرانية. وبتمحيص الردود الغربية ومن أوروبا تحديدا، فإننا نجد اصطفافا بريطانيا ألمانيا فرنسيا خلف روح التحالف العربي الإسلامي الجديد ولم تفكر مطلقا في أي مواقف أخرى كونها تعلم مكانة وحجم السعودية وتأثيرها العربي والإسلامي، ولأن المصلحة الأوروبية تقتضي الاتساق مع القوة العربية الجديدة.
ونجحت السعودية ودول التحالف في إعادة العقيدة الإسلامية الصافية البعيدة عن الطائفية المقيتة ووجهت العالم الإسلامي نحو طريق السلام الروحي المخالف للتشنج والتقسيم، وسارعت المؤسسات الإسلامية والعلماء المعتبرون إلى مباركة عاصفة الحزم وأنها الطريق القويم للأمة الإسلامية وإعادة روحها المختطفة، لتصدر رابطة العالم الإسلامي بيانا تعلن فيه تأييد المسلمين في مختلف ديارهم لعمليات عاصفة الحزم، وجاء في البيان «تُعلن رابطة العالم الإسلامي سرورها وسرور المسلمين كافة بالتحالف العربي والإسلامي، الذي يفرضه الإسلام في نصرة المظلوم ورد البغي والعدوان، وإن الرابطة لتشكر الله ثم تشكر قادة الخليج والبلاد العربية والإسلامية المتعاونة في عملية عاصفة الحزم وفي مقدمتهم خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله -، الذي يحرص كل الحرص على ما يحقق الأمن والاستقرار في الوطن العربي والإسلامي والعالم أجمع»، مشيرا إلى أن المسلمين يأملون أن تحقق «عاصفة الحزم» أهدافها بما يُبعد اليمن عن كل فتن والتدخلات.
وأوجد التحالف الإقليمي إجماعا بين علماء المسلمين في أوروبا والقارة الأسترالية، إذ أعلن عدد من القيادات الإسلامية في أوروبا منهم الدكتور محمد البشاري أمين عام منظمة التعاون الإسلامي الأوروبي، الذي قال في تصريحات صحافية «إن إعلان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز للقتال ضد الحوثيين، بمثابة جهاد دفع الاعتداء والبلاء لهذه المظلومية الواقعة على الشعب اليمني على وجه التحديد».
وفي القمة العربية في شرم الشيخ الأسبوع الماضي، كان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز واضحا عبر كلمته «الواقع المؤلم الذي تعيشه عدد من بلداننا العربية، من إرهاب وصراعات داخلية وسفك للدماء، هو نتيجة حتمية للتحالف بين الإرهاب والطائفية، الذي تقوده قوى إقليمية أدت تدخلاتها السافرة في منطقتنا العربية إلى زعزعة الأمن والاستقرار في بعض دولنا»، وكان الملك سلمان واضحا في نهجه بتقوية الدور العربي الإسلامي في المنطقة حينما قال: «لا بد لنا من متابعة ما أسفرت عنه الجهود القائمة لإحداث نقلة نوعية في منهج وأسلوب العمل العربي المشترك، بما في ذلك إعادة هيكلة جامعة الدول العربية وتطويرها، وذلك على النحو الذي يمكنها من مواكبة المستجدات والمتغيرات وإزالة المعوقات ومواطن الخلل التي تعترض مسيرة عملنا المشترك».
ولا بد من العودة إلى شخصية الملك سلمان لدوره الرئيسي والأساسي في ميلاد عهد عربي مختلف أخذ في حسبانه التحديات المشتركة لدول الإقليم، فالملك سلمان رجل عميق الجذور في تربة قضايا أمته الإسلامية والعربية، ودؤوب في العمل وكتوم ويعرف حجم بلاده جيدا عبر فهمه الدقيق لإرثه السياسي ولا يتخذ موقفا بناء على محركات أو دوافع شخصية بل يوسع في عقله دائرة التفكير ويتخذ القرار حين تحين لحظته المناسبة.