«عاصفة الحزم».. تعيد التوازن الإقليمي

شكلت حلفًا بدأ يتشكل لملء الفراغ الذي أحدثته الصراعات في المنطقة

«عاصفة الحزم».. تعيد التوازن الإقليمي
TT

«عاصفة الحزم».. تعيد التوازن الإقليمي

«عاصفة الحزم».. تعيد التوازن الإقليمي

حينما أطلق المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن مقولته الشهيرة «الحزم أبو اللزم أبو الظفرات.. والترك أبو الفرك أبو الحسرات».. كان يدرك جيدا معنى اتخاذ القرار السياسي والعسكري بحزم وسرعة، إلى أن أتم خريطة الدولة السعودية الثالثة عام 1933 خاض خلالها 18 معركة حربية بتوازن عجيب بين المكون الداخلي والخارجي، مرتكزا خلالها على الحزم في القرار وسرعة تنفيذه.
اليوم الملك سلمان بن عبد العزيز يرتكز على ذات الأسس المنطلقة من الحزم في القرار السياسي والعسكري ليوجد اثنين للعمل السياسي هما الحفاظ على تراب الوطن ووحدته، وخلق توازنات سياسية وتحالفات إقليمية ودولية موزونة. وقبل بدء عمليات «عاصفة الحزم» منتصف ليل 25 مارس (آذار) 2015. مهد الملك سلمان للعملية بتماه فائق الدقة، مع جيرانه وحلفائه في المنطقة، وشهد قصر «العوجاء» في مدينة الدرعية التاريخية التي شكلت منطلق الحكم السعودي، قبل بدء العملية مراحل سرية وواضحة الاتجاه معلنة انطلاق مرحلة سياسية جديدة في منطقة الشرق الأوسط.

شكلت عاصفة الحزم حلفا بدأ يتشكل في المنطقة العربية وهو الذي تكون في الأصل لملء الفراغ الذي أحدثته الصراعات التي تعيشها المنطقة العربية وخاصة ما يحدث من تدهور في العراق وسوريا، بجانب التمدد الإيراني والإسرائيلي، وقد وجدت الدعوة الاستجابة من الحكومات وشعوب المنطقة، بعد أن بدأت 10 دول تقودها السعودية تحالفا ليلقى فيما بعد ترحيبا دوليا واسع التأييد من دول دائمة العضوية في مجلس الأمن كأميركا وفرنسا وبريطانيا، ودول إسلامية وأخرى لها تأثير دولي وأعضاء في الناتو كتركيا وألمانيا.
الحلف جاء لتعديل الميزان الجيوسياسي في المنطقة المهتز كثيرا بسبب حالة الاستقطاب الحاد في منطقة شمال الجزيرة العربية وتحديدا بعد ما يسمى بالربيع العربي، وجاءت هذه العملية لتثبيت أركان الشرعية للحكم السياسي ومنع استقواء طرف على آخر تحت تأثير التدخلات الخارجية لتقطع الطريق لتحويل اليمن إلى دولة تحت الوصاية الإيرانية.
وأوجدت العملية جدارا منيعا لتمدد إيران في منطقة الشرق الأوسط، ليكون التحالف عامل ردع للمواقف الإيرانية المبنية على نشر القلاقل في المحيط العربي، وأظهرت السعودية ومن معها وجها شديد البأس سيعطي للشعوب العربية مستقبلا أكثر أمنا واستقرار.
ويقول مراقبون وعسكريون إن ما جعل «عاصفة الحزم» ذات تأثير مختلف ونفوذ واضح هو تجاوزها لكل المواقف السياسية المترددة لبعض الدول سواء على الصعيد الخليجي الخليجي أو العربي الخليجي أو العربي الإقليمي ووقوفها إلى جانب بعضها البعض بعيدا عن تفاعلات المواقف السياسية ذات النفس الحزبي كما بين مصر وتركيا، لتأخذ الرياض كل غير المتفاهمين إلى مرحلة الصف الواحد ورمي كل الاختلافات خلف الظهور، كون المرحلة السياسية تتطلب موقفا يتجاوز كل المشاغبات السياسية ويسكت حطب اللمز والغمز.
وحظيت عاصفة الحزم بتأييد أغلب الدول العربية، في الوقت الذي دفعت فيه مصر والأردن والمغرب والسودان ودول الخليج العربي ما عدا عمان للمشاركة الفعلية لخوض غمار الحرب لإعادة الشرعية اليمنية التي سلبت من قبل ميليشيات تتبع لإيران، إضافة إلى ما أشار إليه السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير «من أن دولا أخرى عبرت عن رغبتها في المشاركة في التحالف وتجري الآن محادثات بهذا الخصوص معهم ومن أهمها السودان وتركيا، إضافة للدعم الذي قدمته الولايات المتحدة الأميركية».
وأدركت دول التحالف الجديد خطورة «الثيوقراطية» التي تقودها إيران عبر ميليشيات الحوثيين في اليمن، حيث كانت إيران ولا تزال تقدم الدعم المالي والسياسي والإعلامي للحوثيين، وأن مجرد حضورها في اليمن يعتبر تطويقا للعدو التقليدي وهو السعودية، في محاولة للتمدد الإيراني بالتأثير في العمق الاستراتيجي لدول الخليج وذلك من خلال العمل على السيطرة على مضيق باب المندب، ومن ثم تهديد الملاحة البحرية التي تعتمد عليها دول الخليج لصادرتها من النفط.
عاصفة الحزم تجاوزت كل الخلافات العربية - العربية وأيضا الخلافات الإقليمية والتي كان من أهمها الخلافات التي نشبت بين دول الخليج وخاصة فيما يتعلق في الملف القطري، إذ اشتعل الخلاف بين دول الخليج والذي نتج عنه سحب السعودية والإمارات والبحرين سحب السفراء من قطر في بيان ثلاثي والذي يعد الأول من نوعه في إطار العلاقات الخليجية، إلا أنه ما لبث أن تمت المصالحة قبل نهاية العام الماضي، لتكون قطر اليوم ضمن التحالف في عملية «عاصفة الحزم»، التي تشرف عليها السعودية.
دخول السودان لهذا التحالف الجديد يعتبر أمرا مهما وإيجابيا خاصة أن العلاقات بين الرياض والخرطوم لم تكن في أفضل أحوالها خلال السنوات الماضية، بل كانت العلاقات بين السودان وإيران تفوقها بمراحل، حتى حدث تحول نوعي مفاجئ عندما طردت السودان الملحق الثقافي الإيراني، وزار الرئيس عمر البشير الرياض الأسبوع الماضي وقال في تصرح له إن المباحثات التي أجراها مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز تركزت على تعزيز التعاون الثنائي، والعمل على تبادل زيارات الوفود على المستوى الرسمي والشعبي، وقال في حوار مع صحيفة «الشرق الأوسط» إن زيارته عمقت العلاقات بين البلدين إلى مستوى متقدم جدا جدا، إلى درجة أنه قال: «أقول إن العلاقات السودانية السعودية في أفضل حالاتها على مر التاريخ والحقب».
الرئيس السوداني أنهى العلاقات الإيرانية حينما صرح بقوله «ليست لدينا أي علاقات استراتيجية مع طهران، بل علاقات عادية للغاية»، بعد أن أصدر تعليماته بإغلاق المراكز الثقافية الإيرانية على أرضها التي تأسست منذ عام 1984. ليأتي قرار البشير بالمشاركة في العملية العسكرية التي أطلقتها السعودية، متماشيا مع الرؤية الاستراتيجية التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط والوضع العربي الحالي، بعد أن أصبح الخطر الإيراني يعمل على خنق كافة الدول العربية عبر الاستيلاء على مضيقي هرمز وباب المندب باستخدام الحوثيين كمخلب قِط.
ويقول المراقبون إن التحالف الجديد ضم بين أجنحته دولا لديها تباين سياسي مثل مصر وتركيا، بعد أن أعلنت القاهرة مشاركتها في عاصفة الحزم، ساندت أنقرة الضربات العسكرية التي تقودها السعودية ومعها مصر ضد الحوثيين في اليمن، وفقا للبيان الذي صدر عن وزارة الخارجية التركية، معلنة استعدادها عن تقديم الدعم اللوجستي للعمليات على الأرض، إذ صدر بعد انطلاق العملية العسكرية بساعات بيان وزارة الخارجية التركية الذي أعرب عن الدعم للعملية العسكرية التي أطلقتها قوات التحالف في مواجهة الحوثيين، والتي تمت بناء على طلب الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي الرئيس المنتخب شرعيا، حيث قامت السعودية بإبلاغ تركيا مسبقا عن العملية العسكرية.
وأضاف البيان «نعرب عن ثـقتنا بأن هذه العملية ستساهم في الحد من مخاطر الاقتتال الداخلي والفوضى في البلاد، وفي إعادة سيطرة السلطات الشرعية على زمام الأمور فيها، كما ندعو الحركة الحوثية وداعميها من الخارج إلى الابتعاد عن التصرفات التي تهدد الأمن والسلام في اليمن والمنطقة»، وكانت رسالة واضحة من أنقرة لدعم التحالف الجديد والحفاظ على الشرعية، ولم تكتف الخارجية التركية بهذا البيان بل أعلن الرئيس التركي إردوغان في تصريحات صحافية أن بلاده مستعدة لتقديم الدعم اللوجستي في عملية عاصفة الحزم، وموجها رسالة إلى طهران بقوله «ينبغي على إيران والمجموعات الإرهابية الانسحاب من اليمن».
وشكلت مواقف التحالف العربي والإسلامي الجديد رؤية جديدة للعالم الغربي في ملف تفاوضها مع إيران حول الملف النووي الإيراني، وأعطت عاصفة الحزم أرضية قوية للولايات المتحدة في نفسها التفاوضي الطويل وتقضي أيضا على حالة التعنت المرتبطة بالشخصية الإيرانية. وبتمحيص الردود الغربية ومن أوروبا تحديدا، فإننا نجد اصطفافا بريطانيا ألمانيا فرنسيا خلف روح التحالف العربي الإسلامي الجديد ولم تفكر مطلقا في أي مواقف أخرى كونها تعلم مكانة وحجم السعودية وتأثيرها العربي والإسلامي، ولأن المصلحة الأوروبية تقتضي الاتساق مع القوة العربية الجديدة.
ونجحت السعودية ودول التحالف في إعادة العقيدة الإسلامية الصافية البعيدة عن الطائفية المقيتة ووجهت العالم الإسلامي نحو طريق السلام الروحي المخالف للتشنج والتقسيم، وسارعت المؤسسات الإسلامية والعلماء المعتبرون إلى مباركة عاصفة الحزم وأنها الطريق القويم للأمة الإسلامية وإعادة روحها المختطفة، لتصدر رابطة العالم الإسلامي بيانا تعلن فيه تأييد المسلمين في مختلف ديارهم لعمليات عاصفة الحزم، وجاء في البيان «تُعلن رابطة العالم الإسلامي سرورها وسرور المسلمين كافة بالتحالف العربي والإسلامي، الذي يفرضه الإسلام في نصرة المظلوم ورد البغي والعدوان، وإن الرابطة لتشكر الله ثم تشكر قادة الخليج والبلاد العربية والإسلامية المتعاونة في عملية عاصفة الحزم وفي مقدمتهم خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله -، الذي يحرص كل الحرص على ما يحقق الأمن والاستقرار في الوطن العربي والإسلامي والعالم أجمع»، مشيرا إلى أن المسلمين يأملون أن تحقق «عاصفة الحزم» أهدافها بما يُبعد اليمن عن كل فتن والتدخلات.
وأوجد التحالف الإقليمي إجماعا بين علماء المسلمين في أوروبا والقارة الأسترالية، إذ أعلن عدد من القيادات الإسلامية في أوروبا منهم الدكتور محمد البشاري أمين عام منظمة التعاون الإسلامي الأوروبي، الذي قال في تصريحات صحافية «إن إعلان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز للقتال ضد الحوثيين، بمثابة جهاد دفع الاعتداء والبلاء لهذه المظلومية الواقعة على الشعب اليمني على وجه التحديد».
وفي القمة العربية في شرم الشيخ الأسبوع الماضي، كان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز واضحا عبر كلمته «الواقع المؤلم الذي تعيشه عدد من بلداننا العربية، من إرهاب وصراعات داخلية وسفك للدماء، هو نتيجة حتمية للتحالف بين الإرهاب والطائفية، الذي تقوده قوى إقليمية أدت تدخلاتها السافرة في منطقتنا العربية إلى زعزعة الأمن والاستقرار في بعض دولنا»، وكان الملك سلمان واضحا في نهجه بتقوية الدور العربي الإسلامي في المنطقة حينما قال: «لا بد لنا من متابعة ما أسفرت عنه الجهود القائمة لإحداث نقلة نوعية في منهج وأسلوب العمل العربي المشترك، بما في ذلك إعادة هيكلة جامعة الدول العربية وتطويرها، وذلك على النحو الذي يمكنها من مواكبة المستجدات والمتغيرات وإزالة المعوقات ومواطن الخلل التي تعترض مسيرة عملنا المشترك».
ولا بد من العودة إلى شخصية الملك سلمان لدوره الرئيسي والأساسي في ميلاد عهد عربي مختلف أخذ في حسبانه التحديات المشتركة لدول الإقليم، فالملك سلمان رجل عميق الجذور في تربة قضايا أمته الإسلامية والعربية، ودؤوب في العمل وكتوم ويعرف حجم بلاده جيدا عبر فهمه الدقيق لإرثه السياسي ولا يتخذ موقفا بناء على محركات أو دوافع شخصية بل يوسع في عقله دائرة التفكير ويتخذ القرار حين تحين لحظته المناسبة.



هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.