الراهب مارتن لوثر والعاصفة

مارتن لوثر
مارتن لوثر
TT

الراهب مارتن لوثر والعاصفة

مارتن لوثر
مارتن لوثر

قبع الشاب مارتن لوثر مستكينا أمام العاصفة الرعدية والسواد الدامس والمطر الممتد الذي أحاط به وهو يعبر الغابة في طريقه إلى منزله في مطالع القرن السادس عشر بإحدى مقاطعات ألمانيا بعدما كان عائدا من مدينة «إيرفورفت» التي كان يدرس بها، وقد انكفأ الشاب يرتعد من شدة البرد، ولكنه كان في حقيقة الأمر يخشى بردا مختلفا؛ لقد كان يخشى الموت وأن يلقى ربه وهو مُكَبَّلٌ بالذنوب.. كان الشاب يخشى أن يكون سلوكه في الحياة على غير رغبة المولى سبحانه، فكان يريد أن يطهر نفسه من هذا الخوف. وفي هذه الليلة الرعدية قطع الشاب مارتن لوثر على نفسه عهدا بأن يهب حياته لله سبحانه وتعالى وللطريق الديني القويم إذا نجا من هذه العاصفة، وذلك بالانضمام لأحد الأديرة راهبا، تاركا حلم أبيه بأن يكون محاميا ليخرج الأسرة من طبقتها الاجتماعية الدونية.
ولم يكن الشاب مارتن لوثر يدرك أن هذا العهد الذي حمله للتقرب من الله سبحانه وتعالى والأمان من العاصفة، سيؤدي إلى عاصفة لم تشهد أوروبا مثلها في تاريخها، فلقد كتب لهذا الشاب أن يبدأ حركة واسعة النطاق عرفت بحركة الإصلاح الديني في أوروبا في مواجهة أعتى مؤسسة عرفتها أوروبا الوسطى والغربية؛ وهي مؤسسة الكنيسة الكاثوليكية وقيادتها ممثلة في بابا روما، فهذا اليوم كان بداية لسلسة من الأيام والسنوات والحقب التي غيرت مجرى التاريخ الأوروبي وفتحت المجال أمام الشعوب الأوروبية للتغيير والتحرر من فساد الكنيسة وطغيانها على الفرد والدولة معا.
لقد كانت الكنيسة الكاثوليكية بمؤسساتها المتشابكة ورجال دينها فريدة من نوعها في التاريخ الحديث والقديم على حد سواء، فلقد كان البابا مركز سلطة الكنيسة الكاثوليكية، ومقره في روما، وكانت مؤسسته الدينية عابرة للحدود والقوميات بحكم السلطان الروحي، فلقد رأس البابا سلسلة من عشرات الآلاف من الكنائس المنتشرة في أوروبا، التي كان لها دورها الحاسم في فرض مفاهيمها الدينية بموجب الإيمان المطلق بسلطانها، الذي كان مصدره القديس بطرس مؤسس الكنيسة، الذي أخذه مباشرة من توجيه السيد المسيح له.
وحقيقة الأمر أن قوة الكنيسة لم تقف فقط عند هذا الحد، بل إن سلطانها بات يتحدى السلطة السياسية أيضا، فلقد كانت الكنيسة تتحكم في حياة أي شخص في القرن السادس عشر في أوروبا من خلال الطقوس الكنسية المختلفة التي يقوم بها رجالها بدءا بعملية التعميد عند الميلاد لإدخال المولود الجديد إلى الأسرة الكاثوليكية، وحتى عملية الاعتراف الأخير قبيل الوفاة لضمان تطهير الروح للقاء بارئها، إضافة إلى ما عرف باسم «اليوكاريستيا Eucharistia» أي التناول، الذي بمقتضاه يتحول الخبز والنبيذ إلى لحم ودم السيد المسيح.. وغيرها من الطقوس التي ضمنت الولاء الكامل للرعية؛ وأهمها «الاعتراف» بوصفه وسيلة للغفران من خلال الكنيسة، فلقد أخذت الكنيسة على عاتقها مسؤولية أن تصبح هي همزة الوصل بين الله سبحانه وتعالى وكل الرعايا الكاثوليك، والباب إلى جنة الخلود، وهو سلطان إضافي ضمن للبابا والكنيسة دورا محوريا في حياة العباد.
ومع مرور الوقت، بدأت الكنيسة تفسد تدريجيا، فلقد أصبح البابا يقود مؤسسة أقرب ما تكون إلى مؤسسات الدولة؛ لها إداراتها الخاصة، وقد ساهم في إفسادها السلطة الروحية المطلقة التي كانت في أيدي البابوات الذين تفرغوا في مناسبات كثيرة للحياة الدنيوية ولزيادة أموال الكنيسة بما لا يتفق وتعاليمها. كما أن الفساد في السلك الكنسي أصبح ملموسا في كل ربوع أوروبا، خاصة عندما بدأت الكنيسة تتقاضى أجورا عن الخدمات الروحية التي كانت تقدمها للرعية، إضافة إلى تراكم الثراء لديها جراء امتلاكها أراضي كثيرة قدرها البعض بقرابة ثلث الأراضي الزراعية في بعض مناطق أوروبا، وهي لا تخضع للضرائب المدنية، فضلا عما توفر للكنيسة من دخل يفوق في مناسبات كثيرة الدولة، بسبب ضريبة العشر، إضافة إلى الأوقاف والهبات.. وغيرها، وهو ما وضعها في صراع مباشر في مواجهة الملوك والأمراء الذين ضاقوا ذرعا بمثل هذا السلوك الدنيوي للكنيسة.
لم يدرك الشاب مارتن لوثر هذه الحقائق عندما وهب نفسه إلى حياة الرهبنة وفقا لتعاليم الكنيسة الكاثوليكية، فلقد عمل على مدار قرابة ست سنوات للتقرب من الله سبحانه وتعالى من خلال ممارسة الطقوس اليومية والبعد عن كل ملذات الحياة ومتع الجسد، ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يحصل على ما يريد أو الصفاء الروحي المنشود، فلقد ظل الخوف من عذاب الله قابعا في أعماقه، وقد زاد من حالته النفسية السيئة الرحلة التي قام بها إلى روما موفدا من الدير، حيث وجد في المقر البابوي كل ما هو أبعد عن أصول الديانة المسيحية من بذخ، وإدارة أشبه بالملكية للكنيسة، فضلا عن فساد غير مبرر؛ وعلى رأسه فكرة بيع صكوك للغفران من مرحلة «المطهر» التي تعذب فيها روح الكاثوليكي لتتطهر قبيل دخول الجنة، وهو ما كان يتعارض تماما ومفاهيم هذا الشاب الراقية حول المسيحية وتعاليم السيد المسيح.
عاد مارتن لوثر من رحلته وهو حانق على الكنيسة، وبدأت رحلة الشك في المؤسسة الكنسية تسيطر عليه، ومع ذلك ظل قابعا في فكره خائفا من الهلاك في الآخرة، ولكن الظروف لعبت لصالحه حين تم نقله إلى جامعة «فيتنبورغ»؛ حيث تبناه أحد الأساتذة ومنحه فرصة للتعلم ودراسة الكتب المقدسة بشكل أعمق بكثير مما كان سائدا في الأديرة، وتدريس اللاهوت، وقد زاد هذا من موقفه المتشكك إلى أن اصطدم بظاهرة مباشرة تمثلت في بيع صكوك الغفران للشخص أو أسرته من الأحياء أو الأموات، التي قادها موفد البابا المسمي «جون تيتزل»، وكان الهدف من ذلك هو جمع المال للانتهاء من تشييد كنيسة القديس بطرس في روما.
وقد هال مارتن لوثر ما سمع من أمر هذا «المنافق»، واعتبره تجسيدا لما لا يجب أن تكون عليه الكنيسة، وقد كانت هذه الحادثة هي القشة التي قصمت ظهر البعير، فلقد قرر مارتن لوثر عدم الرضوخ إلى هذه الظاهرة ومعها كثير من تعاليم الكنيسة وسلوكها، خاصة أن دراسته اللاهوت أوصلته إلى حقيقة أساسية؛ وهي أن الغفران يأتي من الله مباشرة، ولا يحتاج إلى وسيط من البابا أو رجاله، فالمطلوب أن يكون الإنسان خالص النية لربه، وأن التوبة هي مفتاح النجاة. وهنا بدأ مارتن لوثر يضع يده على مفتاح الهداية والإيمان بالنسبة له.
انفجرت الثورة الداخلية للشاب مارتن لوثر، فاحتج على هذا السلوك في 31 أكتوبر (تشرين الأول) 1517 ميلاديا، من خلال قيامه بكتابة ما عرف بـ«الخمس والتسعين رسالة» مستندا فيها إلى الكتب المقدسة ليثبت للعامة وللكنيسة أن بيع صكوك الغفران أمر غير مقبول أو جائز وفقا لتعاليم المسيحية، وقد قام بتعليق هذه الرسائل على مدخل كنيسة «فيتنبورغ» في نوع من الاحتجاج على هذه الممارسة والفساد.
وقد فوجئ أهل المدينة بهذه الرسائل، وهو ما أدخل المدينة في حالة ذهول ومناقشات ممتدة، وعلى الفور تم إرسال نسخة من هذه الرسائل إلى البابا في روما، ومن هنا انطلقت الشرارة الأولى لما هو معروف باسم «حركة الإصلاح الديني في أوروبا»، وهي في التقدير أقوى وأعنف حركة سياسية - اجتماعية تضرب أوروبا في تاريخها، سواء قبل أو بعد اعتناقها المسيحية، فلقد واجه الشاب مارتن لوثر أقوى مؤسسة في أوروبا وحده في بداية الأمر، ولكنه لم يبقَ وحده في هذا الصراع، فلقد اكتسب كثيرا من التحالفات والقوة مع مرور الوقت؛ حيث كان الأمراء والملوك قد ضاقوا ذرعا بقوة البابا المتنامية التي بدأت تنافسهم، لامتلاك البابا حق عزل أي حاكم أو أمير كنسيا بما يخرجه عن الملة تماما، كما كان في استطاعته خلع ولاء طاعة الرعية عنه في حال عدم امتثاله لرغبات الكنيسة، كما أن تراكم القوة السياسية الذي لم يَفُقْهُ إلا تراكم القوة المالية، كان له أكبر الأثر في اتساع الهوة بين السلطة الزمنية ممثلة في الملوك والأمراء، مقابل السلطة الكنسية ممثلة في البابا ورجال كنيسته، فلقد كانت الكنيسة في مناسبات كثيرة أغنى من الدولة ذاتها إلى الحد الذي أصبحت فيه الكنيسة تنافس الدولة في الاستحواذ على الضرائب والرسوم والهبات، وهو ما وضعها في طريق الصدام مع الدولة. يضاف إلى كل ذلك، أن الكنيسة كانت تعتبر سلطانها أقوى من سلطان الملوك والعامة، وبالتالي، فقد كان من الطبيعي أن يبدأ الصدام، وأن يسعى الملوك والأمراء إلى القضاء على نفوذ الكنيسة..
وهكذا أصبح المسرح مهيئا لأكبر صدام فكري وسياسي وعسكري في التاريخ الأوروبي كما سنرى.



ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

شيل
شيل
TT

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

شيل
شيل

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ) و«الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، فإنه كان غالباً «الشريك» المطلوب لتشكيل الحكومات الائتلافية المتعاقبة.

النظام الانتخابي في ألمانيا يساعد على ذلك، فهو بفضل «التمثيل النسبي» يصعّب على أي من الحزبين الكبيرين الفوز بغالبية مطلقة تسمح له بالحكم منفرداً. والحال أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تحكم ألمانيا حكومات ائتلافية يقودها الحزب الفائز وبجانبه حزب أو أحزاب أخرى صغيرة. ومنذ تأسيس «الحزب الديمقراطي الحر»، عام 1948، شارك في 5 حكومات من بينها الحكومة الحالية، قادها أحد من الحزبين الأساسيين، وكان جزءاً من حكومات المستشارين كونراد أديناور وهيلموت كول وأنجيلا ميركل.

يتمتع الحزب بشيء من الليونة في سياسته التي تُعد «وسطية»، تسمح له بالدخول في ائتلافات يسارية أو يمينية، مع أنه قد يكون أقرب لليمين. وتتمحور سياسات

الحزب حول أفكار ليبرالية، بتركيز على الأسواق التي يؤمن بأنها يجب أن تكون حرة من دون تدخل الدولة باستثناء تحديد سياسات تنظيمية لخلق أطر العمل. وهدف الحزب الأساسي خلق وظائف ومناخ إيجابي للأعمال وتقليل البيروقراطية والقيود التنظيمية وتخفيض الضرائب والالتزام بعدم زيادة الدين العام.

غينشر

من جهة أخرى، يصف الحزب نفسه بأنه أوروبي التوجه، مؤيد للاتحاد الأوروبي ويدعو لسياسات أوروبية خارجية موحدة. وهو يُعد منفتحاً في سياسات الهجرة التي تفيد الأعمال، وقد أيد تحديث «قانون المواطنة» الذي أدخلته الحكومة وعدداً من القوانين الأخرى التي تسهل دخول اليد العاملة الماهرة التي يحتاج إليها الاقتصاد الألماني. لكنه عارض سياسات المستشارة السابقة أنجيلا ميركل المتعلقة بالهجرة وسماحها لمئات آلاف اللاجئين السوريين بالدخول، فهو مع أنه لا يعارض استقبال اللاجئين من حيث المبدأ، يدعو لتوزيعهم «بشكل عادل» على دول الاتحاد الأوروبي.

من أبرز قادة الحزب، فالتر شيل، الذي قاد الليبراليين من عام 1968 حتى عام 1974، وخدم في عدد من المناصب المهمة، وكان رئيساً لألمانيا الغربية بين عامي 1974 و1979. وقبل ذلك كان وزيراً للخارجية في حكومة فيلي براندت بين عامي 1969 و1974. وخلال فترة رئاسته للخارجية، كان مسؤولاً عن قيادة فترة التقارب مع ألمانيا الديمقراطية الشرقية.

هانس ديتريش غينشر زعيم آخر لليبراليين ترك تأثيراً كبيراً، وقاد الحزب بين عامي 1974 و1985، وكان وزيراً للخارجية ونائب المستشار بين عامي 1974 و1992، ما جعله وزير الخارجية الذي أمضى أطول فترة في المنصب في ألمانيا. ويعتبر غينشر دبلوماسياً بارعاً، استحق عن جدارة لقب «مهندس الوحدة الألمانية».