أيمن عودة.. مشروع غاندي فلسطيني

رئيس القائمة المشتركة لفلسطينيي 48 في الكنيست الإسرائيلي.. لا يخاف على الهوية العربية

أيمن عودة.. مشروع غاندي فلسطيني
TT

أيمن عودة.. مشروع غاندي فلسطيني

أيمن عودة.. مشروع غاندي فلسطيني

إذا كان القول إن «الأرض منبت المناضلين» شعارا فضفاضا يرفعه الثوار، فإنه عند أيمن عودة سنة حياة. لقد انشغل العالم هذا الأسبوع بالمسيرة التي قادها من النقب إلى القدس، مشيا على الأقدام طيلة 4 أيام، وكان هناك من انتقده قائلا: «مجرد مظاهرة فردية لرجل سياسي لم يشاور حلفاءه». لكنهم تجاهلوا أن أيمن عودة مرتبط بالنقب منذ سنين طويلة. ومرتبط دائما بالقواعد الشعبية في العمل السياسي. ومن هنا قوته. ومن هنا جاء نجاحه في ترؤس «القائمة المشتركة»، التي تضم الأحزاب العربية الوطنية لفلسطينيي 48 وتمكنه ورفاقه في الجبهة والأحزاب الأخرى (الحركة الإسلامية والتجمع الوطني والحركة العربية للتغيير) من تحقيق المكسب الكبير: 13 مقعدا من مجموع 120 مقعدا في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، وجعلها ثالث أكبر كتلة برلمانية.

والمسيرات الشعبية لها وقع مميز في حياة أيمن عودة وثقافته السياسية. فكثيرا ما يذكر مسيرة مارتن لوثر كينغ، الثائر الأميركي على العنصرية، ونيلسون مانديلا، رمز الانتصار على الأبرتهايد. والمهاتما غاندي رمز النضال السلمي ولا يتردد في القول إنه يستمد منهم الكثير من الفكر والممارسة.
وفي الواقع، أن مسيرة أيمن عودة من النقب إلى القدس، لم تكن الأولى. فقد كان قاد مسيرة أخرى في الاتجاه المعاكس ذات مرة، ترك فيها بصمات واضحة. سار من حيفا، مسقط رأسه، إلى النقب، عندما قامت مجنزرات السلطة الإسرائيلية بهدم بيوت قرية العراقيب هناك قبل 6 سنوات. بقي مع أهلها طيلة الليلة حتى الفجر، ثم قرر أن يبقى في النقب حتى يتعرف إلى أهله وبلداته أجمعين. وأمضى شهرا كاملا هناك، يتنقل من مضرب بدوي إلى مضرب، يفترش أرض الصحراء مع مشردي سياسة الترحيل الإسرائيلية، يعيش معيشتهم القاسية الخالية من أية خدمات أساسية، بلا كهرباء وبلا ماء ولا مجار ولا مدارس ولا عيادات. يسافر من بلدة لأخرى بسيارته القديمة. ويضرب لنفسه أوتادا تمتد إلى الجذور والوجدان، عند هذه الشريحة من فلسطينيي 48، الذين هم أيضا أهملوا النقب لسنين طويلة. وأقسم أن يرفع قضايا النقب، من الآن فصاعدا في رأس همومه الوطنية.
ولم يخيب آمال أهل النقب، فأصبحوا يجدونه بينهم في كل مصيبة تحل بهمم، والمصائب هنا كثيرة: عندما يهدم بيت وعندما يقع حادث طرق مروع وعندما تشن الشرطة هجوما لكي تعزز لديهم «الردع». بلدة العراقيب بالذات عرفته تقريبا في كل مرة هدمت، وقد هدمت حتى الآن 80 مرة وأعادوا بناءها وأيمن معهم. وبسبب وقوفه إلى جانبهم في صد قوات الهدم، تم اعتقاله ومحاكمته بتهمة عرقلة عمل رجال الأمن.
* «من أين جئت؟ لماذا لا يعرفك أحد في الوسط اليهودي؟»، سأله أحد الصحافيين اليهود، في تقرير خاص للقناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي المستقل.. فأجاب: «المشكلة ليس أنكم لا تعرفونني، فأنا معروف بين أبناء شعبي، لكن المشكلة أن المجتمع اليهودي في إسرائيل يعيش في عزلة حتى داخل إسرائيل فلا يرى العرب الذين يشكلون 20 في المائة من سكان الدولة. وأنا أنوي تعريفكم بنا وبقضايانا».
هذا هو أيمن عودة. من هنا جاء تفرده عن قادة سياسيين كثيرين في الساحة الفلسطينية. وتدرجه في سلم القيادة حتى بلغ أوجها، بدا تطورا منطقيا لمسيرة شاب نما وترعرع على أعتاب السياسة والقيادة السياسية.
ولد أيمن عادل عودة سنة 1974 لعائلة كدح في حي الكبابير على إحدى قمم جبال الكرمل. من بيته المختبئ في كوشة أشجار صنوبر، تشاهد البحر الأبيض المتوسط متلألئا تحت أقدام الجبل وغابات خُضر تطل من خلالها بيوت الحجر الفخمة. هدوء وسكينة في الليل والنهار، إلا عندما يعود الطيب واسيل وشام. وهؤلاء هم أطفال أيمن ونردين. ولكل من اسمه قصة وانتماء. الطيب، مأخوذ من أبو الطيب المتنبي، شاعر العرب، الذي يعشقه أيمن ويذكره ويقتبسه في كثير من خطاباته. وأسيل، هو اسم شقيق زوجته، أسيل عاصلة، الذي كان قد استشهد برصاص رجال الشرطة الإسرائيلية في سنة 2000، سوية مع 12 شابا آخر من فلسطينيي 48. وأما شام، فهو الاسم المأخوذ من أعماق الانتماء العروبي لأيمن ولوالديه، اللذين وعى على نشاطهما السياسي الوطني منذ نعومة أظفاره.
كان عمره لا يتجاوز بدايات المراهقة عندما دخل في النشاط السياسي، وانتخب رئيسا للجنة الصف ثم رئيسا لمجلس الطلاب في مدرسته الثانوية. إنها مدرسة القديس يوحنا في حيفا، مدرسة كنسية مبنية على أخلاقيات النظم والانتظام والانصياع، لكنه زرع بذور التمرد فيها. هو نفسه لم يكن رفضيا ولا مقاتلا، بل كما هو اليوم كذلك في صغره، حرص على التصرف بأدب مع «من علمني حرفا»، ولكن بتصميم ومثابرة وعناد في طرح المطالب. والتحق بالجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة في تلك المرحلة من حياته، وهي التي كانت الجهة السياسية الوحيدة القوية على ساحة النضال. فيقرأ جريدتها «الاتحاد»، فيتعرف على كبار الأدباء والشعراء الذين عملوا في هيئة تحريرها، الأديب إميل حبيبي والمؤرخ إميل توما، اللذين تناوبا على رئاسة تحريرها، ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وسالم جبران ومحمد علي طه وغيرهم.
درس المحاماة، لكنه قلما عمل بها. بعد النشاط الطلابي، تركز في الحراك البلدي الشعبي، فانتخب عضوا لبلدية حيفا (من 1998 وحتى 2003). وبرز يومها كسياسي نشيط، قريب من الناس ويحترم انتخابهم له. كان يحصل في التلخيص السنوي على درجة الأنشط بين أعضاء البلدية في تقديم الاقتراحات على جدول الأعمال والاستجوابات. وقد أصدر في حينه كراسيْن عن ضرائب السكن (الأرنونا) وقضايا التخطيط والبناء باللغة العربية، كي يشكلا مُعينًا لأهالي حيفا العرب يعرفهم فيهما على حقوقهم وكيفية تحصيلها. وخصص للأهالي مكتب عمل بلديا في الأحياء العربية الفقيرة لمساعدتهم «بدل أن نأتي نحن للبلدية ونضيع في أروقتها الرحبة، جلب لنا البلدية إلى حارتنا»، قالت يومها امرأة فاضلة في حي وادي النسناس في المدينة. وفي فترة عضويته في بلدية حيفا اعتقل عدة مرات نتيجة لنشاطه السياسي ولوحق من طرف المخابرات والشرطة.

في صف القيادة الأول

وفي سنة 2006 انتخب أمينا عاما للجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، ويستمر في المنصب حتى اليوم. وهو منصب يتولى فيه المسؤولية التنظيمية لعمل الجبهة، كبرى الأحزاب الفاعلة في صفوف العرب في إسرائيل. وهو منصب ثان في أهميته، بعد رئيس الجبهة، محمد بركة. حظي به بفضل نجاحه في العمل التنظيمي عموما، ولكن أيضا بفضل قدرته على الوصل الودي مع رفاقه، دماثته ووديته وحميميته جعلت له قاعدة شعبية واسعة. وقد أعطى زخما خاصا للمنصب. وحوله إلى انطلاقة للقيادة الأولى، مثلما حصل لسابقه محمد بركة. قام بزيارة جميع الفروع (67 فرعا)، مرة واحدة على الأقل في السنة وبعضها زارها 10 مرات وأكثر. وقد أحيا عددا من الفروع النائمة ودب الحماس في نفوس الشباب وجدد قسما غير قليل من الكوادر.
في سنة 2008، حاولت السلطات الإسرائيلية فرض الخدمة المدنية على الشباب العرب، بحجة أن «عليهم تقديم خدمة ما للدولة مقابل المساواة في الحقوق». فقررت لجنة المتابعة العليا لشؤون المواطنين العرب في إسرائيل، التي تضمّ كل الأحزاب والفعاليات السياسية والبلدية، التصدي لهذا المشروع وانتخبت أيمن عودة رئيسًا «للجنة مناهضة الخدمة المدنية وكل أشكال التجنّد في الجيش الإسرائيلي». فالتقى كل سنة آلاف طلاب المدارس الثانوية، وزار 60 إلى 70 مدرسة ثانوية لمدة 6 سنوات، ونظم محاضرات في المؤسسات الحزبية والجماهيرية وعشرات المناظرات والمقالات، الأمر الذي كان له أبلغ الأثر على وعي الشباب العرب ضد المشروع. ولكن عودة تميز حتى في هذه القضية بخطاب متعقل مسؤول. فعلى طول مناهضة الخدمة المدنية كان عودة يرفض بشدة تخوين الشباب الذين يخدمون، وكان يؤكد أن النضال يتركز ضد المؤسسة الحاكمة، «أما هؤلاء الشباب فهم أبناؤنا الذين يجب أن نصل إليهم ونقنعهم بصحة موقفنا». ولم يرفض عودة مبدأ التطوع لدى الشباب، إنما وضع شروطا له: * الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي مرفوضة تماما فلا يمكن للعربي الفلسطيني أن يكون جزءًا من آلة الاحتلال ضد شعبه. * الخدمة المدنية ارتبطت دائما بالعسكرية منذ قانون العام 1953. وأيضا حين أُقرّت بخصوص المواطنين العرب في العام 2005 كانت جزءًا من وزارة الأمن. * نرفض ربط الحقوق بالواجبات من ناحية ديمقراطية، حيث إن الحقوق مطلقة للمواطن بينما الواجبات نسبية. وكذلك للخصوصية الإسرائيلية التي تعتبر الانتماء القومي لليهود المدخل الأساس للمواطنة وكل الحقوق. وأكد أن للمواطنين العرب حقوقا بديهية كونهم أهل البلاد الأصليين ومواطنين في الدولة، وهذا ما لا تعترف به الدولة. *الخدمة المدنية تهدف إلى تشغيل الشباب بالسُّخرة مجانا بدلا من إعطائهم فرص العمل، لا بل وتزيد البطالة كون المؤسسات ستستعمل الخادمين مجانا بدلا من العمال بالأجرة. * مشاريع حكومية هكذا تأتي ضمن مصالحة تاريخية واتفاق على مجمل علاقات المواطنة بين الأقلية القومية والدولة، ولكن ما حدث أن دولة إسرائيل قدمت هذا الاقتراح في ذروة تحريضها على المواطنين العرب، كجزء من مخطط لربطهم مع وزارة الأمن (التشويه القومي) وربط الحقوق بالواجبات (التشويه المدني).

تغيير لأجل التأثير

خلال عمله الشعبي تميز بحسن الإصغاء لنبض الشارع. كان يسمع الانتقاد الجماهيري للقيادات العربية السياسية، بأنها تتبنى خطابا سياسيا متشنجا لدرجة أنها في بعض الأحيان تزايد على قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وتعطي لليمين المتطرف في إسرائيل سلاحا ضدها. انتقد سفر عدد من القيادات العربية إلى ليبيا للقاء الرئيس معمر القذافي. تحفظ على علاقات بعض القيادات مع قطر. انتقد التعصب الديني والطائفي. نادى بخطاب عقلاني يلائم الوضع المميز للمواطنين العرب في إسرائيل. وبادر إلى تغيير في الخطاب السياسي العربي - «بدلا من المساهمة في سياسة اليمين المتطرف الذي يريدنا أدوات في سياسته المعادية للعرب وللسلام، ينبغي علينا إدارة سياسة تقربنا من المجتمع اليهودي حتى يسمع خطابنا المؤيد للسلام»، ظل يقول.
وقد تعرض خطابه هذا لانتقادات من بعض القوى السياسية الوطنية، التي اعتبرته «خطابا متأسرلا»، بل اتهمته بالنفاق لليهود. وعندما نذكر ذلك أمامه، يرد بحدة قائلا: «لدينا قادة يبدون ضعفا في الإيمان بانتمائنا الفكري والوجداني. نحن نخوض نضالاتنا لصالح قضايا شعبنا بثقة عالية في النفس. وضعنا المميز يحتم علينا التصرف بحكمة. وأنا لا أخاف أبدا على ضياع هويتنا القومية في مواجهة السياسة الإسرائيلية. فقد حافظنا على انتمائنا لشعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية، عندما كنا مجموعة من بقايا شعب رحل وتشرد. كنا شراذم في الوطن. ثلثنا لاجئون في وطننا وكلنا يتعرض لحكم عسكري قمعي بشع. ولم تكن لدينا أية علاقة بأمتنا العربية وشعبنا الفلسطيني. ومع ذلك حافظنا على هذا الانتماء. كل ما بنته إسرائيل فوق أرضنا، لم يفلح في قطع صلتنا بتراثنا. لغة القرآن الكريم وأبي الطيب المتنبي بقيت لغتنا. ومع أول الغيث العربي علينا أقمنا الروابط مع منظمة التحرير والقيادات العربية الوطنية. تلقفنا فكرة أداء فريضة الحج في الديار المقدسة وسافرنا إلى القاهرة وعمان ودمشق. وحافظنا في أدبياتنا على النفس العربي الحر. لذلك أنا لا أخاف على انتمائنا أبدا».
ويتابع: «نحن نشكل أقل من 20 في المائة من المجتمع الإسرائيلي، وهذه قوة لا يستهان بها. لكننا لكي نصبح مؤثرين، لا بد من أن نجند إلى جانبنا 31 في المائة من المجتمع اليهودي على الأقل، فنصبح 51 في المائة. من دون شركاء يهود في نضالنا لن نحسن التأثير لتغيير السياسة الرسمية للحكومات الإسرائيلية. ونحن بحاجة ماسة لهذا التغيير، أولا من أجل حقوقنا اليومية كمواطنين وثانيا من أجل حقوق شعبنا والتخلص من الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، عاصمتها القدس الشرقية، إلى جانب إسرائيل. عالمنا العربي طرح مبادرة سلام على إسرائيل، وفيما بعد تبنتها الدول الإسلامية. واجبنا أن نقنع الجمهور الإسرائيلي بها ونطمئنه بأن السلام ممكن وليس كما يقول قادته من اليمين المتطرف».
ونقول له: «لاحظنا أن خطابك السياسي المميز يلقى اهتماما إيجابيا في الصحف وفي الشارع، ولكن الغالبية صوتت في النهاية لصالح نتنياهو؟» فيرد: «أجل طريقنا طويل. والمجتمع الإسرائيلي لا يزال مفتونا باليمين، ولكن ليس لأنه يميني. بل لأن اليمين يطرح فكرا واضحا لا لبس فيه. بينما اليسار يدير سياسة ضبابية مترددة. وعلينا أن نسهم في المعركة لتوضيح الأمور. وكما تفضلت، إن لقاءاتنا خلال المعركة الانتخابية وقبلها بعدة سنوات تشير إلى أن التأثير ممكن. حتى في أوساط يهودية دينية ويمينية، لم يصل إليها عربي في يوم من الأيام، تمكنا من فتح الأبواب لحوار صادق ومفيد ومباشر بلا وساطة سياسيين وأحزاب، حاولنا أن نثبت فيه أن الاحتلال مضر للشعبين والعنصرية مضرة للشعبين. حاولنا أن نعيد الأمل، للأجيال القادمة. هذا طريق صعب، أعرف. ولكنه الطريق الأفضل والأنجع».



دانيال تشابو... رئيس موزمبيق الجديد الطامح إلى استعادة الاستقرار

تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي
تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي
TT

دانيال تشابو... رئيس موزمبيق الجديد الطامح إلى استعادة الاستقرار

تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي
تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي

أدَّى دانيال تشابو، الأربعاء الماضي، اليمين الدستورية، رئيساً لموزمبيق، مركِّزاً على اعتبار استعادة الاستقرار السياسي والاجتماعي «أولوية الأولويات». وجاء تولي السياسي المتخصص في القانون، بعد أكثر من 3 أشهر من انتخابات مثيرة للجدل، دفعت البلاد إلى موجة احتجاجات دامية راح ضحيتها أكثر من 300 شخص حتى الآن، وفق تقديرات منظمات حقوقية محلية ودولية. وبالفعل استمرت الاحتجاجات حتى أثناء مراسم حفل التنصيب؛ إذ بينما كان تشابو (البالغ من العمر 48 سنة) يخطب أمام حشد متحمس من أنصاره في العاصمة مابوتو، كان مناصرو المعارضة يتظاهرون ضده على بعد أمتار قليلة، بعدما منعتهم قوات الأمن من الوصول إلى مكان الحفل.

بدأ الرئيس الموزمبيقي الجديد دانيال تشابو القسم وسط حشد من أنصاره، وكذلك على مقربة من مظاهرات رافضة نتيجة الانتخابات التي وضعته على رأس السلطة في المستعمرة البرتغالية الكبيرة التي يقترب عدد سكانها من 34 مليون نسمة، وتقع على الساحل الغربي للمحيط الهندي بجنوب شرقي أفريقيا. ولقد نقلت وكالات الأنباء عن شهود عيان قولهم إن وسط العاصمة مابوتو كان شبه مهجور مع وجود كثيف للشرطة والجيش.

أما تشابو فقد قال في خطاب تنصيبه: «سمعنا أصواتكم قبل وأثناء الاحتجاجات، وسنستمر في الاستماع». وأقرَّ الرئيس الجديد بالحاجة إلى إنهاء حالة الاضطراب التي تهز البلاد، مضيفاً: «لا يمكن للوئام الاجتماعي أن ينتظر، لذلك بدأ الحوار بالفعل، ولن نرتاح حتى يكون لدينا بلد موحد ومتماسك».

والواقع أنه منذ إعلان المجلس الدستوري في موزمبيق، خلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي، فوز تشابو في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بنسبة 65.17 في المائة من الأصوات، دخلت البلاد في موجة عنف جديدة، ولا سيما مع طعن فينانسيو موندلاني زعيم المعارضة الشعبوية اليمينية (الذي حلَّ ثانياً بحصوله على 24 في المائة من الأصوات) في صحة نتائجها، ودعوته للتظاهر، واستعادة ما سمَّاه «الحقيقة الانتخابية».

هذا، وتتهم المعارضة -ممثلةً بحزب «بوديموس» الشعبوي- حزب «فريليمو» الاستقلالي اليساري بتزوير الانتخابات، وهي تهمة ينفيها «فريليمو» الذي يحكم البلاد منذ الاستقلال عن البرتغال عام 1975. أما تشابو فقد بات الرئيس الخامس لموزمبيق منذ استقلالها. وكان في مقدمة حضور حفل تنصيبه الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا، وزعيم غينيا بيساو عمر سيسوكو إمبالو، بينما أرسلت عدة دول أخرى -بما في ذلك البرتغال- ممثلين عنها.

الخلفية والنشأة

ولد دانيال فرنسيسكو تشابو، يوم 6 يناير (كانون الثاني) 1977 في بلدة إينهامينغا، المركز الإداري لمنطقة شيرينغوما بوسط موزمبيق. وهو الابن السادس بين 10 أشقاء. وكان والده فرنسيسكو (متوفى) موظفاً في سكك حديد موزمبيق، بينما كانت والدته هيلينا دوس سانتوس عاملة منازل. وهو متزوّج من غويتا سليمان تشابو، ولديهما 3 أولاد، وهو يهوى كرة القدم وكرة السلة، ويتكلم اللغتين البرتغالية والإنجليزية بطلاقة.

النزاع المسلح الذي اندلع بين «فريليمو» (جبهة تحرير موزمبيق) الاستقلالية اليسارية، ومنظمة «رينامو» اليمينية التي دعمها النظامان العنصريان السابقان بجنوب أفريقيا وروديسيا الجنوبية (زيمبابوي حالياً) وبعض القوى الغربية، دفع عائلة تشابو إلى مغادرة إينهامينغا، ولذا أمضى دانيال تشابو طفولته في منطقة دوندو؛ حيث التحق بمدرسة «جوزينا ماشيل» الابتدائية، ومن ثم، تابع دراسته في دوندو، وبعد إنهاء تعليمه الثانوي عمل مذيعاً في راديو «ميرامار»؛ حيث قدم برنامجاً رياضياً بين عامي 1997 و1999.

بعدها، التحق تشابو بجامعة «إدواردو موندلاني» في العاصمة مابوتو، وتزامناً مع دراسته الجامعية عمل في تلفزيون «ميرامار»، وقدَّم برنامجاً باسم «أفوكس دو بوفو».

ثم في عام 2004 حصل على شهادته الجامعية في القانون، واجتاز دورة المحافظين وكتَّاب العدل في «مركز ماتولا للتدريب القانوني» في العام نفسه. وهكذا شكَّلت خلفيته الأكاديمية أساساً قوياً لمسيرته المهنية اللاحقة في الخدمة العامة والإدارة.

من القانون إلى السياسة

بدأ تشابو حياته المهنية عام 2005، في مكتب كتَّاب العدل بمدينة ناكالا بورتو، وواصل عمله هناك حتى عام 2009. كما عمل أستاذاً للقانون الدستوري والعلوم السياسية في الجامعة.

وفي عام 2009 انضم إلى حزب «فريليمو» (جبهة تحرير موزمبيق)، وعُيِّن بسبب عمله ومشاركته السياسية في منصب إداري في مقاطعة ناكالا- آ- فيليا، ووفق موقعه الإلكتروني فإنه عمل خلال تلك الفترة على «خلق فرص عمل للشباب دون تمييز».

ضغط الأعمال الإدارية لم يمنع في الواقع تشابو من إكمال دراسته، وفعلاً التحق بجامعة موزمبيق الكاثوليكية للحصول على ماجستير التنمية عام 2014. كما حصل على تدريب في نقابة المحامين التي أوقف عضويته فيها طواعية بسبب عمله السياسي.

وعام 2015 عُيِّن تشابو مديراً لمقاطعة بالما؛ لكنه لم يمكث في المهمة طويلاً؛ لأن الرئيس السابق فيليبي غاستينيو نيوسي عيَّنه عام 2016 حاكماً لإينهامباني. وبعدها، في أبريل (نيسان) 2019 وافق البرلمان الموزمبيقي على حزمة تشريعية جعلت تعيين منصب حكام المقاطعات بالانتخاب، وكان تشابو على رأس قائمة «فريليمو» في إينهامباني، ليصبح أول حاكم منتخب للمحافظة التي ظل يحكمها حتى مايو (أيار) 2024.

دعم رئاسي

حظي دانيال تشابو بدعم قوي من الرئيس فيليبي نيوسي الذي شهد بكفاءته، وقال عنه: «مع أنه لم يبقَ في بالما سوى 6 أشهر، فإنه اكتسب تأييداً في هذا الجزء من البلاد، لدرجة أن قرار الرئيس بنقله إلى مقاطعة أخرى كان مثار تساؤلات عما إذا كانت بالما لا تستحق أن يحكمها شخص بكفاءة تشابو».

وخلال السنوات الثماني (2016 إلى 2024) التي أمضاها حاكماً لمحافظة إينهامباني، قاد تشابو المحافظة كي تغدو الأولى في البلاد التي تكمل تنفيذ البنوك في جميع المناطق، في إطار المبادرة الرئاسية «منطقة واحدة، بنك واحد».

وتشير وسائل إعلام محلية إلى أنه في عهد تشابو، وتحت قيادته، نظمت محافظة إينهامباني مؤتمرين دوليين للاستثمار، فضلاً عن منتديات لتنمية المناطق، ما حفَّز الاقتصاد المحلي، وقاد عجلة التنمية.

المسيرة الحزبية

مسيرة دانيال تشابو الحزبية والسياسية بدأت مبكراً؛ إذ شغل بين عامي 1995 و1996 منصب سكرتير منطقة في «منظمة الشباب الموزمبيقي» (OJM) في دوندو. ثم شغل بين عامي 1998 و1999 منصب أمين سر لجنة التثبيت بمجلس شباب المنطقة، إضافة إلى عضويته في «منظمة الشباب الموزمبيقي». وفي عام 2008 عُين مديراً للحملة الانتخابية للمرشح شالي إيسوفو، من «فريليمو»، في بلدية ناكالا بورتو، ويومها فاز الحزب بالانتخابات، وأطاح بالمعارضة.

بعدها، عام 2017، انتُخب دانيال تشابو عضواً في اللجنة المركزية لـ«فريليمو». وفي مايو 2024 اختارته اللجنة المركزية مرشحاً لـ«فريليمو» في الانتخابات الرئاسية. وهي الانتخابات التي فاز فيها أخيراً وسط اعتراضات المعارضة.

وبناءً عليه، يبدأ تشابو فترة رئاسته وسط تحدِّيات كبرى، وفي ظل مظاهرات واحتجاجات هي الأكبر ضد حزب «فريليمو». وراهناً تتصاعد المخاوف على استقرار موزمبيق، مع تعهد منافسه المعارض موندلاني (وهو مهندس زراعي يبلغ من العمر 50 سنة) باستمرار المظاهرات، قائلاً إن «دعوته للحوار قوبلت بالعنف».

وجدير بالذكر أن موندلاني كان قد عاد إلى موزمبيق من منفاه الاختياري، وسط ترحيب من أنصاره، يوم 9 يناير، وادَّعى أنه «غادر موزمبيق خوفاً على حياته، بعد مقتل اثنين من كبار أعضاء حزبه المعارض داخل سيارتهما على يد مسلحين مجهولين، في إطلاق نار خلال الليل في مابوتو، بعد الانتخابات».

في أي حال، يثير الوضع الحالي في موزمبيق مخاوف دولية، ولاحقاً أعرب مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، الأسبوع الماضي، عن قلقه. وقال في بيان: «نحن في غاية القلق بشأن التوترات المستمرة عقب الانتخابات في موزمبيق».

من ناحية ثانية، بصرف النظر عن الاحتجاجات التي أشعلتها الانتخابات الرئاسية، فإن تشابو يواجه تحديات عدة يتوجب عليه التعامل معها، على رأسها «التمرد» المستمر منذ 7 سنوات في مقاطعة كابو ديلغادو الشمالية الغنية بالنفط والغاز. وهذا إضافة إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية، واستغلال موارد الغاز الطبيعي، وإدارة تأثيرات التغير المناخي والكوارث الطبيعية التي أثرت على موزمبيق في السنوات الأخيرة.

وراثة الإرث الثقيل

لا شك، ثمة إرث ثقيل ورثه دانيال تشابو، ذلك أنه يقود بلداً مزَّقه الفساد والتحديات الاقتصادية العميقة، بما فيها ارتفاع معدلات البطالة والإضرابات عن العمل المتكرِّرة التي جعلت موزمبيق -رغم مواردها الكبيرة- واحدة من أفقر دول العالم، وفقاً للبنك الدولي.

الرئيس الجديد قال -صراحة- في خطاب تنصيبه الأربعاء الماضي: «لا يمكن لموزمبيق أن تظل رهينة للفساد والجمود والمحسوبية والنفاق وعدم الكفاءة والظلم». وأردف -وفق ما نقلته وكالة «أسوشييتد برس»- بأنه «لمن المؤلم أن كثيراً من مواطنينا ما زالوا ينامون من دون وجبة لائقة واحدة على الأقل».

وعليه، في مواجهة هذا الإرث الثقيل، تعهد بتقليص عدد الوزارات والمناصب الحكومية العليا. ورأى أن من شأن هذا التدبير توفير أكثر من 260 مليون دولار، سيعاد توجيهها لتحسين حياة الناس.

بالطبع فإن المعارضين والمشككين غير مقتنعين، ويقولون إنهم استمعوا كثيراً إلى النغمة نفسها تتكرَّر بلا تغيير يُذكر. بيد أن رئاسة تشابو تمثِّل اليوم فصلاً جديداً في تاريخ موزمبيق، أو «مفترق طرق»، حسب تعبير تشابو الذي قال في خطاب فوزه: «تقف موزمبيق عند مفترق طرق، وعلينا أن نختار طريق الوحدة والتقدم والسلام».