بروفايل: إريك زيمور يقلب المشهد السياسي الفرنسي... رأساً على عقب

اليهودي الجزائري الأصل الطامح لاقتحام الإليزيه

بروفايل: إريك زيمور يقلب المشهد السياسي الفرنسي... رأساً على عقب
TT

بروفايل: إريك زيمور يقلب المشهد السياسي الفرنسي... رأساً على عقب

بروفايل: إريك زيمور يقلب المشهد السياسي الفرنسي... رأساً على عقب

حتى اليوم، لم يعلن الإعلامي والكاتب إريك زيمور (زمور) ترشحه للانتخابات الرئاسية الفرنسية التي من المقرر أن تجرى يومي 10 و24 أبريل (نيسان) المقبل. إلا أن الأمور محسومة لجهة خوضه الانتخابات.
الماكينة الانتخابية جاهزة ومجموعات متعددة من المناصرين تعمل لصالحه إن على صعيد شبكات التواصل الاجتماعي أو على صعيد جمع الأموال، وأخيراً، لجهة توفير التواقيع الـ500 المطلوب جمعها من النواب وأعضاء مجلس الشيوخ ورؤساء البلديات وأعضاء المجالس الإقليمية أو المحلية كشرط للموافقة على ترشحه وفق ما ينص عليه القانون الانتخابي.
كل هذه الأمور «العملانية» تبدو محسومة، وبالتالي، لن تشكل عائقاً أمام زيمور، بالنظر للصعود الصاروخي الذي حققه في استطلاعات الرأي خلال الأشهر والأسابيع الأخيرة.

تفيد آخر استطلاعات الرأي في فرنسا بأن المرشح اليميني المتطرف إريك زيمور بصدد تخطي مرشحة اليمين المتطرف الرسمية مارين لوبان. كذلك تشير المعطيات إلى أن الدينامية الانتخابية باتت لصالحه لا لصالح ابنة مؤسس «الجبهة الوطنية» اليمينية المتطرفة جان ماري لوبان. والأخير كان ضابطاً خدم في الجيش الفرنسي زمن حرب الاستقلال الجزائرية اتهم بممارسة التعذيب ضد ثوار «جبهة التحرير الوطنية»، ومن ثم في العديد من المرات بسبب عنصريته إزاء العرب والمسلمين والأفارقة ومعاداته للسامية.
مارين لوبان ورثت قيادة الحزب وآيديولوجيته وتطرفه عن والدها. وبسبب الظروف التي أحاطت بانتخابات العام 2018 وتحديدا فشل مرشح اليمين الكلاسيكي، رئيس الحكومة الأسبق فرنسوا فيون في التأهل للجولة الانتخابية الثانية - وهو الأمر الذي بات يحصل في فرنسا منذ بداية الجمهورية الخامسة - فإن النتيجة كانت أن الطريق فتحت بوجه مارين لوبان لتنافس إيمانويل ماكرون على مقعد الرئاسة بعد تمكنها من احتلال المرتبة الثانية في الجولة الأولى.

- المعادلة السياسية
ومن ثم، رست المعادلة السياسية الفرنسية منذ أربع سنوات وستة أشهر على الشكل التالي:
أصبح إيمانويل ماكرون رئيسا في قصر الإليزيه ويمارس الحكم مدعوما بأكثرية مريحة. ومارين لوبان في مقدمة صفوف المعارضة، وتتأهب للثأر من فشلها الرئاسي الثاني. وهي العمل على «تمدين» صورة الحزب الذي ورثته، ليس فقط على مستوى التسمية، حيث تحول اسمه إلى «التجمع الوطني»، بل أيضا عبر إبعاد والدها عنه - وخصوصاً التخلي عن مواقفه البالغة التطرف - وإحاطة نفسها بجيل جديد من الشباب.
مارين لوبان نجحت في مسعاها إلى حد بعيد. وطيلة السنوات والأشهر المنقضية، كان المشهد السياسي ثابتاً لا يتغير: ماكرون مقابل لوبان وإلى جانبهما، تواصل تفتت اليمين الكلاسيكي واليسار الاشتراكي، واضمحل الحزب الشيوعي، وبرز «الخضر» قوة سياسية تؤخذ بالحسبان لكنها عاجزة عن تسلق جبل الإليزيه، وتراجعت جداً شعبية اليسار المتشدد ممثلاً بالنائب والمرشح الرئاسي الحالي (والسابق) جان لوك ميلونشون.
صورة الوضع السياسي رست لفترة على هذه الحال. وكانت الطبقة السياسية تتساءل عما إذا كان بمقدور لوبان اختراق ما يسمى - باللغة السياسية الفرنسية - «السقف الزجاجي»، بحيث تتحول إلى أول رئيسة للجمهورية تنتمي إلى اليمين المتطرف لتسير على خطى مَن سبقها من المتطرفين اليمينيين في أوروبا.
غير أن الواثقين من رؤاهم وتحليلاتهم القطعية أخذوا يعيدون النظر في أحكامهم عندما برز إلى مقدمة المسرح اسم إريك زيمور كمرشح محتمل للرئاسة.
بداية، اعتبرت غالبية المحللين أن خوض الكاتب في صحيفة «لو فيغارو» اليمينية والمعلق السياسي الدائم على القناة اليمينية المتطرفة «سي نيوز» المنافسة الرئاسية «مزحة» لا يمكن أن تؤخذ على محمل الجد، خصوصاً، أن استطلاعات الرأي الأولية كانت تضعه في المرتبة الخامسة أو السادسة. يضاف إلى ذلك أن الفوز برئاسة الجمهورية يفترض أن يكون الطامع بها يتمتع بدعم حزب قوي متجذر يوفر له التنظيم والمال والناخبين والدعاية الانتخابية، فضلاً عن توافر برنامج انتخابي على مستوى الجمهورية يعالج مسائل السيادة والقانون والاقتصاد والحياة الاجتماعية. وباختصار أن يكون صاحب «رؤيا» لفرنسا المستقبل.
العديد من هذه الشروط لا تتوافر لزيمور، إذ لا حزب يقف وراءه ولا يوجد برنامج انتخابي يحمله ولا مصادر مالية معروفة وواضحة موضوعة بتصرفه. ثم لا بد من التذكير أنه صدرت بحق زيمور أحكام قضائية تتهمه بتبني خطاب عنصري والترويج له (في العام 2011) وتحفيز مشاعر معاداة الإسلام (في العام 2018). وبالتالي، فإن عائقاً إضافياً مزروع على دربه. لذا، فإن السؤال الرئيسي الذي يفرض نفسه: من هو زيمور وما هو سر الاختراق الذي حققه رغم أنه لم يعلن بعد أنه مرشح للانتخابات الرئاسية؟

- زيمور: عار لليهود
ولد إريك زيمور يوم 31 أغسطس (آب) عام 1958 في ضاحية مونترويل، الواقعة على مدخل باريس الشرقي. وهو ينتمي إلى عائلة يهودية شرقية جزائرية انتقلت إلى فرنسا في العام 1952.
وتفيد مصادر عديدة بأنه ترعرع في أجواء دينية يهودية، ودأب على ارتياد الكنيس (المعبد اليهودي) حتى العام 2013 أي حتى وفاة والده روجيه الذي كان يعمل سائقا لسيارة إسعاف. وبحسب المؤرخ الفرنسي اليهودي بنجامان ستورا، فإن زيمور «يهودي عربي»، بينما يفضل هو القول إنه «يهودي قبائلي». وفي أي حال، لم يخفِ أبداً انتماءه الديني، بل يتحدث عنه بكل حرية.
تنقل زيمور في العديد من المدارس، ومع دخوله المرحلة الجامعية انتمى إلى «المعهد الفرنسي للعلوم السياسية» (سيانس بو) في باريس وتخرج فيه. إلا أنه فشل مرتين في الدخول إلى «المعهد الفرنسي للإدارة» (إينا) الذي يخرج كبار موظفي وكادرات الدولة الفرنسية.
بعدها انطلق زيمور في حياته المهنية مع الصحافة، فتنقل في العديد من دورها يميناً ويساراً، منها زال من الوجود مثل «لو كوتيديان دو باري»... ومنها لا يزال قائما كصحيفة «لوفيغارو» التي تمتلكها عائلة داسو، المساهم الأكبر في «شركة داسو للصناعات الجوية».
في العام 2011، طُلب منه التوقف عن الكتابة في هذه الصحيفة بسبب تصريحات زعم فيها أن «غالبية مهربي المخدرات هم من العرب أو الأفارقة» ما عُد قضائياً بمثابة جنحة. واللافت أنه انتمى مثلاً إلى مجلة «ماريان»، التي كانت حينذاك مصنفة في خانة اليسار. وبعد سنتين فقط انتقل منها إلى مجلة «فالور أكتويل» (القيَم المعاصرة) المصنفة في خانة اليمين المتطرف. بيد أن شهرته ذاعت حقاً من خلال مشاركاته في البرامج الإذاعية والتلفزيونية، وأهمها إذاعة «إر تي إل» التي كانت سابقا تصنف الأولى فرنسياً، وفي «القناة الثانية» للتلفزيون الفرنسي العام، ولكن الأهم هو الدور الذي لعبه في إطار القناة الإخبارية «سي نيوز» اليمينية التي يمتلكها رجل الأعمال فانسان بولوريه، أحد أقطاب النقل البحري في العالم، المُلاحق بتهم الفساد في أفريقيا.

- كتبه الرائجة
وبالتوازي مع النشاط الإعلامي، أصدر إريك زيمور عدة كتب سياسية عن رئيس الوزراء الأسبق إدوار بالادور وعن الرئيس الأسبق جاك شيراك. وكان له دوماً اسم وحضور في عالم الجدل السياسي. وتجدر الإشارة إلى أن كتبه تلقى رواجاً كبيراً، ومنها ثلاثة كتب بارزة جداً: الأول هو «الانتحار الفرنسي» الصادر في عام 2014. والثاني «قدر فرنسا» (2018)، والثالث كتابه الأخير «فرنسا لم تقل كلمتها النهائية بعد» الذي بيع منه خلال أربعة أيام فقط - في المكتبات وعلى منصات الإنترنت - ما لا يقل عن 100 ألف نسخة وهي أرقام لم تسجل سابقاً إلا مرة واحدة لدى صدور كتاب فاليري تريفيلر، رفيقة درب الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند تحت عنوان «شكرا لهذه اللحظات».
وكما أن زيمور بدل وغير في انتماءاته المهنية، فإنه أيضا بدل وغير انتماءاته الفكرية والسياسية متنقلا من اليسار إلى اليمين. ومن اليمين الديغولي الاجتماعي القريب من طروحات الوزير الاشتراكي السابق جان بيار شوفينمان إلى اليمين البونابرتي. وها هو الآن يرسو في ميناء اليمين المتطرف... أو بالأحرى في أقصاه متجاوزاً حتى مارين لوبان... ومتبنيا أحيانا «نظريات المؤامرة». ولعل أبرز هذه النظريات نظرية مؤامرة «الاستبدال الكبير» التي اقتبسها عن المفكر والفيلسوف الفرنسي رينو كامو، كما شرحها في كتاب شهير له يحمل العنوان نفسه والتي تعتبر أن أوروبا تخضع لغزو من نوع جديد وبوسائل جديدة. وباختصار، تقوم هذه النظرية على أن هجرات الشعوب المسلمة الآتية إلى أوروبا من بلدان المغرب وأفريقيا وغيرها هي الآن بصدد الحلول محل الشعب الفرنسي الأصيل، ليس فقط على صعيد القيم وأساليب الحياة، ولكن بشكل مادي وسكني أيضاً، الأمر الذي يظهر، وفق زيمور، في العديد من ضواحي المدن الفرنسية.
وفي لقاء سياسي للترويج لكتابه الأخير، وبحضور حوالي 4 آلاف شخص، وصف زيمور المهاجرين بأنهم «بدو جاءوا إلينا عبر المتوسط» حاملين «إسلاماً تيوقراطيا في جوهره»، أي غير قابل للاندماج في المجتمع الفرنسي. وعليه، فإن ما يدعو إليه زيمور إرغام المهاجرين وأولهم العرب على تغيير أسمائهم و«فرنستها» بحيث تكون تلك أول خطوة للاندماج في المجتمع الفرنسي.

- مشروع حرب أهلية
فريدريك سالا ــ بارو، أمين عام قصر الرئاسة الفرنسية زمن الولاية الثانية للرئيس جاك شيراك، تحدث عن إريك زيمور في مقالة طويلة له نشرتها أخيراً صحيفة «لوموند» المستقلة، وفيها اتهم زيمور بـ«الدفع نحو حرب أهلية» في فرنسا. إذ قال سالا – بارو إن المرشح المتطرف «يستخدم لغة لا ممنوعات فيها ولا حدود، جاعلاً من صورة المهاجر والمسلم سبباً للبؤس الفرنسي. وهو بذلك يذهب أبعد بكثير عما كان قد وصل إليه جان ماري لوبان في غرفه من العنصرية العادية». وتابع سالا ــ بارو أن زيمور «يغرف من الآيديولوجيا التي يحفظها عن ظهر قلب ويقدم جواباً وحيداً لكل المشاكل. إنه يستخدم المسلم والمهاجر كما حدث في الماضي مع استخدام صورة اليهودي. والجواب بسيط، إذ يكفي القضاء على مصدر الخطر».
بيد أن الكاتب (أي سالا – بارو) يرى أن الهدف الأساسي لزيمور هو «الحرب على الإسلام» الأمر الذي يعني عملياً الدفع باتجاه حرب أهلية. ولهذا فإنه يتهم وسائل الإعلام باللامسوؤلية لأنها تلهث وراء زيمور، وتوفر له الوسيلة بعد الأخرى لبث أفكاره العنصرية. ثم يتساءل الكاتب «مَن تساءل للحظة عن طبيعة شعور المسلم الفرنسي (إزاء ما يسمعه)؟ مَن توجه إليه بكلمة تعبر عن الإخاء والاحترام تجاهه؟ هل يتعين أن يكون المرء أعمى حتى لا يرى أن زيمور والإسلاميين هم حلفاء موضوعيون يسعون وراء إشعال حرب أهلية في فرنسا؟ يمكننا أن نتعامل بشدة مع المسلمين من غير أن نلزمهم على تغيير ديانتهم أو أسمائهم وهو ما يريده المحقق زيمور».
منذ أربعة أسابيع، يتنقل زيمور بين المدن الفرنسية بحجة توقيع كتابه، إلا أنه في الواقع يعقد مهرجانات انتخابية يستغلها، كما كان يستغل قناته الإخبارية المفضلة لبث أفكاره اليمينية المتطرفة... واثقا من أن كفة الميزان السياسية في فرنسا تميل إلى اليمين، وأنه يُعد «الرجل الذي يقول جهاراً ما يفكر فيه الكثيرون سراً».
أكثر من ذلك، يرى مناصروه أنه الشخص الذي أخذ الدور الذي كان يفترض بالمرشحة مارين لوبان أن تأخذه، وشيئاً فشيئاً يرسم زيمور صورة «الرجل المنقذ» - أي صورته الشخصية - وهو يرفض أي تفاوض مع لوبان التي اقترحت عليه أن يكون رئيسا للحكومة التي تنوي تشكيلها بعد الفوز برئاسة الجمهورية لأنه يعتبر نفسه «صاحب رؤية» التي تفترض أن يكون في سدة المسؤولية. وفي أي حال، فإن مركزية دعايته السياسية مَعين لا ينضب، لا بل إنه نجح حتى قبل أن يعلن ترشحه رسمياً في فرض المواضيع التي يريد أن تدور حولها الحملة الانتخابية، وهي: الإسلام، الانفصالية الإسلاموية، وقف الهجرات، وقف لم الشمل العائلي، ترحيل غير المؤهلين للبقاء على الأراضي الفرنسية، فرض الأمن والنظام، واستعادة المناطق التي خرجت من تحت عباءة القانون وفق تفسيره...
واليوم يركض اليمين المتطرف واليمين الكلاسيكي وراء زيمور. ويجد ماكرون أن عليه أن يظهر بمظهر القوة والسلطة، وأن يبرز عضلاته في التعاطي مع المسائل الحساسة كي يحافظ على مصداقيته في الوقت الذي أخذ فيه زيمور يثير الهلع يمينا ويسارا. لكن الانتخابات لن تحل إلا بعد ستة أشهر وحتى ذلك التاريخ، الكثير من الأمور يمكن أن تتغير كما حصل في انتخابات عام 2018.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».