بروفايل: إريك زيمور يقلب المشهد السياسي الفرنسي... رأساً على عقب

اليهودي الجزائري الأصل الطامح لاقتحام الإليزيه

بروفايل: إريك زيمور يقلب المشهد السياسي الفرنسي... رأساً على عقب
TT

بروفايل: إريك زيمور يقلب المشهد السياسي الفرنسي... رأساً على عقب

بروفايل: إريك زيمور يقلب المشهد السياسي الفرنسي... رأساً على عقب

حتى اليوم، لم يعلن الإعلامي والكاتب إريك زيمور (زمور) ترشحه للانتخابات الرئاسية الفرنسية التي من المقرر أن تجرى يومي 10 و24 أبريل (نيسان) المقبل. إلا أن الأمور محسومة لجهة خوضه الانتخابات.
الماكينة الانتخابية جاهزة ومجموعات متعددة من المناصرين تعمل لصالحه إن على صعيد شبكات التواصل الاجتماعي أو على صعيد جمع الأموال، وأخيراً، لجهة توفير التواقيع الـ500 المطلوب جمعها من النواب وأعضاء مجلس الشيوخ ورؤساء البلديات وأعضاء المجالس الإقليمية أو المحلية كشرط للموافقة على ترشحه وفق ما ينص عليه القانون الانتخابي.
كل هذه الأمور «العملانية» تبدو محسومة، وبالتالي، لن تشكل عائقاً أمام زيمور، بالنظر للصعود الصاروخي الذي حققه في استطلاعات الرأي خلال الأشهر والأسابيع الأخيرة.

تفيد آخر استطلاعات الرأي في فرنسا بأن المرشح اليميني المتطرف إريك زيمور بصدد تخطي مرشحة اليمين المتطرف الرسمية مارين لوبان. كذلك تشير المعطيات إلى أن الدينامية الانتخابية باتت لصالحه لا لصالح ابنة مؤسس «الجبهة الوطنية» اليمينية المتطرفة جان ماري لوبان. والأخير كان ضابطاً خدم في الجيش الفرنسي زمن حرب الاستقلال الجزائرية اتهم بممارسة التعذيب ضد ثوار «جبهة التحرير الوطنية»، ومن ثم في العديد من المرات بسبب عنصريته إزاء العرب والمسلمين والأفارقة ومعاداته للسامية.
مارين لوبان ورثت قيادة الحزب وآيديولوجيته وتطرفه عن والدها. وبسبب الظروف التي أحاطت بانتخابات العام 2018 وتحديدا فشل مرشح اليمين الكلاسيكي، رئيس الحكومة الأسبق فرنسوا فيون في التأهل للجولة الانتخابية الثانية - وهو الأمر الذي بات يحصل في فرنسا منذ بداية الجمهورية الخامسة - فإن النتيجة كانت أن الطريق فتحت بوجه مارين لوبان لتنافس إيمانويل ماكرون على مقعد الرئاسة بعد تمكنها من احتلال المرتبة الثانية في الجولة الأولى.

- المعادلة السياسية
ومن ثم، رست المعادلة السياسية الفرنسية منذ أربع سنوات وستة أشهر على الشكل التالي:
أصبح إيمانويل ماكرون رئيسا في قصر الإليزيه ويمارس الحكم مدعوما بأكثرية مريحة. ومارين لوبان في مقدمة صفوف المعارضة، وتتأهب للثأر من فشلها الرئاسي الثاني. وهي العمل على «تمدين» صورة الحزب الذي ورثته، ليس فقط على مستوى التسمية، حيث تحول اسمه إلى «التجمع الوطني»، بل أيضا عبر إبعاد والدها عنه - وخصوصاً التخلي عن مواقفه البالغة التطرف - وإحاطة نفسها بجيل جديد من الشباب.
مارين لوبان نجحت في مسعاها إلى حد بعيد. وطيلة السنوات والأشهر المنقضية، كان المشهد السياسي ثابتاً لا يتغير: ماكرون مقابل لوبان وإلى جانبهما، تواصل تفتت اليمين الكلاسيكي واليسار الاشتراكي، واضمحل الحزب الشيوعي، وبرز «الخضر» قوة سياسية تؤخذ بالحسبان لكنها عاجزة عن تسلق جبل الإليزيه، وتراجعت جداً شعبية اليسار المتشدد ممثلاً بالنائب والمرشح الرئاسي الحالي (والسابق) جان لوك ميلونشون.
صورة الوضع السياسي رست لفترة على هذه الحال. وكانت الطبقة السياسية تتساءل عما إذا كان بمقدور لوبان اختراق ما يسمى - باللغة السياسية الفرنسية - «السقف الزجاجي»، بحيث تتحول إلى أول رئيسة للجمهورية تنتمي إلى اليمين المتطرف لتسير على خطى مَن سبقها من المتطرفين اليمينيين في أوروبا.
غير أن الواثقين من رؤاهم وتحليلاتهم القطعية أخذوا يعيدون النظر في أحكامهم عندما برز إلى مقدمة المسرح اسم إريك زيمور كمرشح محتمل للرئاسة.
بداية، اعتبرت غالبية المحللين أن خوض الكاتب في صحيفة «لو فيغارو» اليمينية والمعلق السياسي الدائم على القناة اليمينية المتطرفة «سي نيوز» المنافسة الرئاسية «مزحة» لا يمكن أن تؤخذ على محمل الجد، خصوصاً، أن استطلاعات الرأي الأولية كانت تضعه في المرتبة الخامسة أو السادسة. يضاف إلى ذلك أن الفوز برئاسة الجمهورية يفترض أن يكون الطامع بها يتمتع بدعم حزب قوي متجذر يوفر له التنظيم والمال والناخبين والدعاية الانتخابية، فضلاً عن توافر برنامج انتخابي على مستوى الجمهورية يعالج مسائل السيادة والقانون والاقتصاد والحياة الاجتماعية. وباختصار أن يكون صاحب «رؤيا» لفرنسا المستقبل.
العديد من هذه الشروط لا تتوافر لزيمور، إذ لا حزب يقف وراءه ولا يوجد برنامج انتخابي يحمله ولا مصادر مالية معروفة وواضحة موضوعة بتصرفه. ثم لا بد من التذكير أنه صدرت بحق زيمور أحكام قضائية تتهمه بتبني خطاب عنصري والترويج له (في العام 2011) وتحفيز مشاعر معاداة الإسلام (في العام 2018). وبالتالي، فإن عائقاً إضافياً مزروع على دربه. لذا، فإن السؤال الرئيسي الذي يفرض نفسه: من هو زيمور وما هو سر الاختراق الذي حققه رغم أنه لم يعلن بعد أنه مرشح للانتخابات الرئاسية؟

- زيمور: عار لليهود
ولد إريك زيمور يوم 31 أغسطس (آب) عام 1958 في ضاحية مونترويل، الواقعة على مدخل باريس الشرقي. وهو ينتمي إلى عائلة يهودية شرقية جزائرية انتقلت إلى فرنسا في العام 1952.
وتفيد مصادر عديدة بأنه ترعرع في أجواء دينية يهودية، ودأب على ارتياد الكنيس (المعبد اليهودي) حتى العام 2013 أي حتى وفاة والده روجيه الذي كان يعمل سائقا لسيارة إسعاف. وبحسب المؤرخ الفرنسي اليهودي بنجامان ستورا، فإن زيمور «يهودي عربي»، بينما يفضل هو القول إنه «يهودي قبائلي». وفي أي حال، لم يخفِ أبداً انتماءه الديني، بل يتحدث عنه بكل حرية.
تنقل زيمور في العديد من المدارس، ومع دخوله المرحلة الجامعية انتمى إلى «المعهد الفرنسي للعلوم السياسية» (سيانس بو) في باريس وتخرج فيه. إلا أنه فشل مرتين في الدخول إلى «المعهد الفرنسي للإدارة» (إينا) الذي يخرج كبار موظفي وكادرات الدولة الفرنسية.
بعدها انطلق زيمور في حياته المهنية مع الصحافة، فتنقل في العديد من دورها يميناً ويساراً، منها زال من الوجود مثل «لو كوتيديان دو باري»... ومنها لا يزال قائما كصحيفة «لوفيغارو» التي تمتلكها عائلة داسو، المساهم الأكبر في «شركة داسو للصناعات الجوية».
في العام 2011، طُلب منه التوقف عن الكتابة في هذه الصحيفة بسبب تصريحات زعم فيها أن «غالبية مهربي المخدرات هم من العرب أو الأفارقة» ما عُد قضائياً بمثابة جنحة. واللافت أنه انتمى مثلاً إلى مجلة «ماريان»، التي كانت حينذاك مصنفة في خانة اليسار. وبعد سنتين فقط انتقل منها إلى مجلة «فالور أكتويل» (القيَم المعاصرة) المصنفة في خانة اليمين المتطرف. بيد أن شهرته ذاعت حقاً من خلال مشاركاته في البرامج الإذاعية والتلفزيونية، وأهمها إذاعة «إر تي إل» التي كانت سابقا تصنف الأولى فرنسياً، وفي «القناة الثانية» للتلفزيون الفرنسي العام، ولكن الأهم هو الدور الذي لعبه في إطار القناة الإخبارية «سي نيوز» اليمينية التي يمتلكها رجل الأعمال فانسان بولوريه، أحد أقطاب النقل البحري في العالم، المُلاحق بتهم الفساد في أفريقيا.

- كتبه الرائجة
وبالتوازي مع النشاط الإعلامي، أصدر إريك زيمور عدة كتب سياسية عن رئيس الوزراء الأسبق إدوار بالادور وعن الرئيس الأسبق جاك شيراك. وكان له دوماً اسم وحضور في عالم الجدل السياسي. وتجدر الإشارة إلى أن كتبه تلقى رواجاً كبيراً، ومنها ثلاثة كتب بارزة جداً: الأول هو «الانتحار الفرنسي» الصادر في عام 2014. والثاني «قدر فرنسا» (2018)، والثالث كتابه الأخير «فرنسا لم تقل كلمتها النهائية بعد» الذي بيع منه خلال أربعة أيام فقط - في المكتبات وعلى منصات الإنترنت - ما لا يقل عن 100 ألف نسخة وهي أرقام لم تسجل سابقاً إلا مرة واحدة لدى صدور كتاب فاليري تريفيلر، رفيقة درب الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند تحت عنوان «شكرا لهذه اللحظات».
وكما أن زيمور بدل وغير في انتماءاته المهنية، فإنه أيضا بدل وغير انتماءاته الفكرية والسياسية متنقلا من اليسار إلى اليمين. ومن اليمين الديغولي الاجتماعي القريب من طروحات الوزير الاشتراكي السابق جان بيار شوفينمان إلى اليمين البونابرتي. وها هو الآن يرسو في ميناء اليمين المتطرف... أو بالأحرى في أقصاه متجاوزاً حتى مارين لوبان... ومتبنيا أحيانا «نظريات المؤامرة». ولعل أبرز هذه النظريات نظرية مؤامرة «الاستبدال الكبير» التي اقتبسها عن المفكر والفيلسوف الفرنسي رينو كامو، كما شرحها في كتاب شهير له يحمل العنوان نفسه والتي تعتبر أن أوروبا تخضع لغزو من نوع جديد وبوسائل جديدة. وباختصار، تقوم هذه النظرية على أن هجرات الشعوب المسلمة الآتية إلى أوروبا من بلدان المغرب وأفريقيا وغيرها هي الآن بصدد الحلول محل الشعب الفرنسي الأصيل، ليس فقط على صعيد القيم وأساليب الحياة، ولكن بشكل مادي وسكني أيضاً، الأمر الذي يظهر، وفق زيمور، في العديد من ضواحي المدن الفرنسية.
وفي لقاء سياسي للترويج لكتابه الأخير، وبحضور حوالي 4 آلاف شخص، وصف زيمور المهاجرين بأنهم «بدو جاءوا إلينا عبر المتوسط» حاملين «إسلاماً تيوقراطيا في جوهره»، أي غير قابل للاندماج في المجتمع الفرنسي. وعليه، فإن ما يدعو إليه زيمور إرغام المهاجرين وأولهم العرب على تغيير أسمائهم و«فرنستها» بحيث تكون تلك أول خطوة للاندماج في المجتمع الفرنسي.

- مشروع حرب أهلية
فريدريك سالا ــ بارو، أمين عام قصر الرئاسة الفرنسية زمن الولاية الثانية للرئيس جاك شيراك، تحدث عن إريك زيمور في مقالة طويلة له نشرتها أخيراً صحيفة «لوموند» المستقلة، وفيها اتهم زيمور بـ«الدفع نحو حرب أهلية» في فرنسا. إذ قال سالا – بارو إن المرشح المتطرف «يستخدم لغة لا ممنوعات فيها ولا حدود، جاعلاً من صورة المهاجر والمسلم سبباً للبؤس الفرنسي. وهو بذلك يذهب أبعد بكثير عما كان قد وصل إليه جان ماري لوبان في غرفه من العنصرية العادية». وتابع سالا ــ بارو أن زيمور «يغرف من الآيديولوجيا التي يحفظها عن ظهر قلب ويقدم جواباً وحيداً لكل المشاكل. إنه يستخدم المسلم والمهاجر كما حدث في الماضي مع استخدام صورة اليهودي. والجواب بسيط، إذ يكفي القضاء على مصدر الخطر».
بيد أن الكاتب (أي سالا – بارو) يرى أن الهدف الأساسي لزيمور هو «الحرب على الإسلام» الأمر الذي يعني عملياً الدفع باتجاه حرب أهلية. ولهذا فإنه يتهم وسائل الإعلام باللامسوؤلية لأنها تلهث وراء زيمور، وتوفر له الوسيلة بعد الأخرى لبث أفكاره العنصرية. ثم يتساءل الكاتب «مَن تساءل للحظة عن طبيعة شعور المسلم الفرنسي (إزاء ما يسمعه)؟ مَن توجه إليه بكلمة تعبر عن الإخاء والاحترام تجاهه؟ هل يتعين أن يكون المرء أعمى حتى لا يرى أن زيمور والإسلاميين هم حلفاء موضوعيون يسعون وراء إشعال حرب أهلية في فرنسا؟ يمكننا أن نتعامل بشدة مع المسلمين من غير أن نلزمهم على تغيير ديانتهم أو أسمائهم وهو ما يريده المحقق زيمور».
منذ أربعة أسابيع، يتنقل زيمور بين المدن الفرنسية بحجة توقيع كتابه، إلا أنه في الواقع يعقد مهرجانات انتخابية يستغلها، كما كان يستغل قناته الإخبارية المفضلة لبث أفكاره اليمينية المتطرفة... واثقا من أن كفة الميزان السياسية في فرنسا تميل إلى اليمين، وأنه يُعد «الرجل الذي يقول جهاراً ما يفكر فيه الكثيرون سراً».
أكثر من ذلك، يرى مناصروه أنه الشخص الذي أخذ الدور الذي كان يفترض بالمرشحة مارين لوبان أن تأخذه، وشيئاً فشيئاً يرسم زيمور صورة «الرجل المنقذ» - أي صورته الشخصية - وهو يرفض أي تفاوض مع لوبان التي اقترحت عليه أن يكون رئيسا للحكومة التي تنوي تشكيلها بعد الفوز برئاسة الجمهورية لأنه يعتبر نفسه «صاحب رؤية» التي تفترض أن يكون في سدة المسؤولية. وفي أي حال، فإن مركزية دعايته السياسية مَعين لا ينضب، لا بل إنه نجح حتى قبل أن يعلن ترشحه رسمياً في فرض المواضيع التي يريد أن تدور حولها الحملة الانتخابية، وهي: الإسلام، الانفصالية الإسلاموية، وقف الهجرات، وقف لم الشمل العائلي، ترحيل غير المؤهلين للبقاء على الأراضي الفرنسية، فرض الأمن والنظام، واستعادة المناطق التي خرجت من تحت عباءة القانون وفق تفسيره...
واليوم يركض اليمين المتطرف واليمين الكلاسيكي وراء زيمور. ويجد ماكرون أن عليه أن يظهر بمظهر القوة والسلطة، وأن يبرز عضلاته في التعاطي مع المسائل الحساسة كي يحافظ على مصداقيته في الوقت الذي أخذ فيه زيمور يثير الهلع يمينا ويسارا. لكن الانتخابات لن تحل إلا بعد ستة أشهر وحتى ذلك التاريخ، الكثير من الأمور يمكن أن تتغير كما حصل في انتخابات عام 2018.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.