جاهدة وهبة لـ «الشرق الأوسط»: الفن حياتي... فمم أخاف؟

غنت الحب وتألقت بحفلين راقيين في البحرين وتركيا

الفنانة جاهدة وهبة
الفنانة جاهدة وهبة
TT

جاهدة وهبة لـ «الشرق الأوسط»: الفن حياتي... فمم أخاف؟

الفنانة جاهدة وهبة
الفنانة جاهدة وهبة

حين يعم النشاز، يصبح الملاذ حناجرَ تلم تبعثُر الكون وتحتوي التائهين بعطف. يعطي الله الفنانة جاهدة وهبة صوتاً يجيد التنقل بين أمزجة غنائية مختلفة، ويهبها مَلَكات تتشاركها مع الناس بحُب. تلتقي في حوار فلسفي - صوفي - جمالي مع «الشرق الأوسط»، وتبوح بمكنونات روحها: «الحب ديني وإيماني. هو أدواتي ومفرداتي. وبه ومعه وله أطوف عالم الغناء وأجوب الكون».
«هن في مهب النغم» من بياف إلى أم كلثوم، عرضٌ فني حلمت بتقديمه منذ سنوات، وسبق أن قدمته في دبي قبل «الكوفيد»، بحلة مختصرة. صفقت لها البحرين بحرارة، متيحة، بدعوة من هيئتها للثقافة والتراث، تقديمه كما ترغب. تغوص في أمواجه: «عرضٌ يعود بنا إلى زمن حناجر أنثوية شاهقة غنت الحب والأرض والإنسان. إلى عمالقة الغناء الأنثوي العربي والغربي بحلة جديدة ومتنوعة، وتوزيع مبتكر. إنه تجوال نغمي هارموني في أهم وأشهر أغنياتهن التي طبعت العصر وحفظها الجمهور. أجمل أعمال (ديفات) مثل أم كلثوم وبياف، وأقباس من أعمال أسمهان، داليدا، فيروز، صباح، مارسيدس سوسا... وأغنيات من ريبرتواري الخاص وألحاني».
توجه تحية تقدير لفرقتها الموسيقية التي كانت من أوروبا ولبنان بقيادة لوكاس صقر، وتتابع الإبحار: «إنه ببساطة ارتحال موسيقي في عوالم هذه القامات الغنائية الكبيرة، وتابلوهات فنية تستعرض مناخات الزمن الجميل بالأبيض والأسود حيناً، وأحياناً بألوان العصر وأمزجته، بأداء درامي للأغاني، مُترف بإضاءة خاصة وسينوغرافيا أستطيع القول إنها لماحة. يكاد يكون هذا العرض متفرداً، لتقديمه كل هذه الأصوات بصوت واحد وفي عرض درامي واحد. هذا حقاً يسعدني، وسأحرص على أن نجول به في عواصم عربية وغربية».
قبل البحرين، كانت مطربة الكلمة واللحن والصوت قد أحيت حفلاً تصفه بـ«الأجمل والأرقى» في قونية التركية، مسقط رأس مولانا الرومي، فكُرمت بدرع تقديرية. أي رمزية يتيحها المكان، ودلالات الغناء في الدورة الـ18 لمهرجان قونية الدولي للموسيقى الصوفية؟ يغمرها الحب وهي تفلش علينا سحره: «قونية يا أيقونة الروح وسليلة ذاكرة النور. جئتكِ يوماً بشوق الحلم للوصل، فسكنتِني حتى الوجد. جئتكِ باحثة عن سحر وسر، وعن تلك الطريق التي لا تؤدي إلا إلى بهائك. أيقنتُ حينها أن قونية لا تُدرك سوى بالقلب والبصيرة والشعر». تأتيها عاشقة، خاشعة، راقصة مع دراويشها لتدرك معهم هيام الروح بالمطلق، بيقين أن عناقها لا يُتاح سوى للمولهين بالروح المولوية الساكنة أرضها وسماءها، وللهائمين فيها حتى الثمالة.
فريدة واستثنائية جاهدة وهبة. ترفع شأن الحوار وتعلي مقام الكلام. تجعل من الحديث حديقة، زهورها فواحة وعطرها يفيض فيغمر النفس. حين تغني، لا يعود المكان حيزاً ومادة، ولا أشكالاً هندسية. يصبح جمالاً وبهاءً، وندى يرطب رجفة الفجر. تكمل مخاطبة قونية: «كما جاء قبلي كل مريديكِ ليعثروا على بخور الحقيقة، تبعتُ ذلك القبس في أنفاس مولانا حين يلفظ اسمك في قصيدته العالية. قونية الهانئة الندية السخية التاريخية، محجة التائقين للتسامح والسلام. وقبلة المدن المعلقة على زمن لا يشبه هذا الزمان».
احتفلت بعيد ميلادها؛ ويا سيدة جاهدة، هذا العمر يمر، فأي أسى يترك في الأعماق؟ يفاجئها أصدقاؤها وأخواتها عاماً بعد عام باحتفال مختلف وجديد. في كل مرة تكون سعيدة، علماً بأنها لست ممن يخططون للاحتفال بأعيادهم: «أستقبل الزمن الآتي بأمل، ولستُ ممن يخافون العمر. الفن يؤطر حياتي، فمم أخاف؟ هو قصتي الحميمة وفرحي وترحي وماضي ومستقبلي. أنا في قلب الوقت، والوقت مع الفن دائم الالتهاب. معه أنا على موعد مستمر مع الحياة، أرتشفُ جرعة المطلق كل لحظة وعلى مهل. به أطمح أن أتسلل إلى غيابي الذي سيكون، بعد مرور كل أعياد الميلاد هذه، وبعد مضي العمر».
تغني للإنسانية وتنادي بالحب والعشق. ماذا لو توقفنا قليلاً عند بدايات الإحساس برغبة إتقان هذا الغناء والتمرس به؟ كم غير فيها طريق العرفان وجعلها إنسانة كونية؟ كل ما تقوم به هو «إدراك الفؤاد لا أكثر». وهو «معرفة ربما راكمتُها خلال هذه الحياة، وعبر محطاتها الجميلة والحزينة. وربما هو فيض نور أشرق في القلب، أو دليل الحكمة الذي اختزنتُه جراء حب أو خيبة أو فرحة عابرة، ككل ما يعبر». تأخذها هذه الدرب ولعلها سلكتها من دون انتباه: «انتابتني خياراتي الأدبية، وقد تراءت على شكل مكاشفات ومشاهدات عزلتني مع القصيدة والنغم».
تدين بالحب، وكما يقول ابن عربي: «الحب ديني وإيماني». العالم شرير، فهل يقوى الحب على التصدي له؟ وكيف يغلب التصوف الوجع الإنساني والوطني والمجتمعي؟ تنساب إجاباتها من ينابيع تتفجر بلا توقف: «الحب هو روح التصوف ودثاره. العالم خُلق بالحب، وبالحب يعيش كما يقول ابن عربي. أحاول العيش حباً ووجداً، خيالاً وحدساً. فمنارة الحب الحدس، والحدس موسيقى وفن وشعر. لا أتصدى للأوجاع، بل أعيشها. أتركها تمهرني وتدمغني. تتناسلني. وأحاول بذلك أن أعيد رسم العالم كما أحلمه من دون مشاكل وتشوهات. الحب ينقلنا من اللعنة إلى التسبيح».
التحليق في الموسيقى صفاء وفضاء للتعبير والذرف، وربما محاولة القبض على زمن ضائع أو سعي إلى البقاء في بال الزمن. فالموسيقى بالنسبة إليها هي الشعر والبحر واليقين وتجذرها في أرضها ومساحاتها الحرة، وفي اللاشعور والحنين، وهي بيت الذاكرة والملح عرقاً ودمعاً. تتغزل بها كمعشوقة: «هي ذاك المطرح الأنقى حيث أنأى بنفسي عن أي شر وأي نشاز سياسي اجتماعي أو تلوث فكري. بر الأمان وسر الحياة. وهي مجهر لألمي ومعاناتي وحنيني، من خلالها أرى الأشياء أكبر وأعمق، فرِحة كانت أم حزينة. أعانيها وتعانيني. الموسيقى تتناسلني، تثرثرني خمراً هطولاً، مطراً خصباً، تتعددني، فتهجر كل امرأة مني إلى الأشهى، إلى غائية الوجود. توسع أفقي وتجعلني على تماس مع كينونتي. وكبساط ريح، تحملني خارج زماني ومكاني، تسرقني إلى انعتاقي ومنفاي. هي ضمائري المتصلة والمنفصلة، وأدواتي لاكتشاف نفسي وهتك العالم».
والغناء؟ «هو ذريعتي للطيران إلى سدرة شاهقة. استحضاري للحياة استحضاراً أقوى، ورغم جرح الوجود يجعلني أؤمن بالرحمة. هو دليلي إلى التيه الأقصى والميتة الأجمل. في كل مرة أغني، تعبرني حياتي، ويمتشقني موتي ثم يعفيني. يقول: سوف أؤجل حتفكِ هذه المرة، ويعدني بميتات أخرى، أرجوها أشهى».
يحضرها قول سيوران: «الموسيقى هي ملجأ الأرواح التي جرحتها السعادة»، فتختم كأنها تهمس: «أنا تشيللو مشدود الأوتار وجعاً، أقصى أمانيه أن ينجرح عزفاً عذباً».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».