أسماك ترسم الخراب وتعيد تشكيل أحلام الناس العاديين

في معرض محمد السمهوري «غزة تصعد إلى السماء»

زائرة تتأمل بعض اللوحات المعروضة في متحف درويش
زائرة تتأمل بعض اللوحات المعروضة في متحف درويش
TT

أسماك ترسم الخراب وتعيد تشكيل أحلام الناس العاديين

زائرة تتأمل بعض اللوحات المعروضة في متحف درويش
زائرة تتأمل بعض اللوحات المعروضة في متحف درويش

سمك في كل مكان، حتى قيل إن زوار معرض «غزة تصعد إلى السماء» للفنان محمد السمهوري، الذي يحتضنه متحف محمود درويش في رام الله، منذ أيام، ربما احتاجوا إلى «خياشيم» تساعدهم على التجول ما بين الوجع والأمل اللذين تنقلهما اللوحات، وما بين خبر وصورة ولوحة تروي الحكاية الغزية الموجعة في الحرب الأخيرة، وبطريقة مغايرة.
يتوزع المعرض بين اللوحات، التي ربما شكلت العمود الفقري، وإن كانت كل تكويناته أعمدة فقرية، تحضر فيها المرأة بقوة، كما في لوحات «مريم الغزاوية»، و«سمكة وأربع نساء»، و«الشهيد والشهيدة»، و«الجنين وأمه السمكة»، في حين كان للسمك حضوره الأبرز سواء سمكة بمفردها أو ضمن أسراب، في أكثر من لوحة، أو في حواراتها المتنوعة كما في لوحة «حوار الديك والسمكة»، أو «سمكة وبيضة»، أو «الكرسي والسمكة»، أو «حقيبة السفر»، أو «السمكة والخروف»، أو «السمكة والعصفور والمدينة»، وغيرها.
حاول السمهوري التنويع في مواضيعه، لعله ينقل ما يعتمل في قلبه كغزيّ، فقسم العديد من اللوحات إلى أكثر من قسم، بعضها مناصفة، وبعضها بنسب متفاوتة ما بين ثلث وثلثين، أو ربع وثلاثة أرباع، كلوحات مثل «غضب»، و«غزة البقرة الحلوب»، و«انفجار»، و«عشق السمك»، و«ديك المدينة»، و«ثورة الديك والسمك»، و«ليل غزة»، فيما برز من بين اللوحات «اقتراح/ علم فلسطين»، حيث يحضر طائر وسمكة وسلحفاة وسط ألوان العلم الفلسطيني باستثناء الأبيض منه.
لكن السمهوري شدد على أن «السمكة ليست سمكة بمعناها الطبيعي، بل بمعناها الطقسي، الصوفي، المسيحي الفلسطيني الممتد، لنلتقي معا.. لكي تتكلم، وتمشي، وتطير، وتعمل، وتحزن، وتضحك، وتحتج، ومرات تختفي ويبقى ظلها معلقا في سماء اللوحة، كشاهد يمضي ثم يمضي معناه الأبدي والعادي والبسيط».
السمهوري، كما اعترف، كان يبحث عن بيت فرسمه في اللوحة «تحول معي هذا البياض إلى مساحات مغلقة بالخطوط والألوان والبيوت والقباب، تحولت اللوحة إلى معابد يسكنها الصمت والزمن، كل ذلك كان جامدا لا يحركه سوى من يلتفت إليه.. سواي».
أما الجزء الموسوم بـ«حكي جرايد»، فيعتمد الكولاج، وكأن اللوحات صفحات جرائد، تغيب العناوين أحيانا لتبرز الصور، أو العكس، بينما الخربشات تبدو سيدة الموقف، فتظهر كلمة واحدة من العدوان أحيانا، أو أسطر محددة من المتن، وهي «غزة» في أغلب الحالات، بينما تراوحت الصور ما بين وجع الموت والتهجير، وابتسامة تغطي المشهد كغيمة تنبئ بمطر ليس أسود.
السمهوري، كما أشار، لم يكن يكترث بمتابعة الجرائد اليومية «ما دامت الحرب تحصل أمامي، وضحايا الحرب يموتون ويهربون أمامنا، ونحن نتابع نشرات الأخبار، وهم يصرخون ويناشدون ويصمدون، كانت الجرائد توثق الدم الأحمر القاني بحبرها الأسود القاتم.. أسماء وعناوين ضحايا العدوان الهمجي، بينما العالم كله ينظر إلى غزة الصغيرة وهي تحترق».
أما طلال معلا، الباحث في الجماليات المعاصرة، فقد أشار إلى أن «أعمال المعرض لا تدعونا للشعور بالشفقة أو الحزن، ولا تسعى لابتزاز عواطفنا، فعوالم السمهوري تبدو للوهلة الأولى خيالية، مغلفة بالتفاؤل، ونكاد نسمع عبر ما نراه أغاني وقصائد في غاية التفاؤل والصراحة، حتى لو كانت بنية أعماله التعبيرية أكثر التصاقا بالواقع على مستوى المفهوم»، واصفا أعمال المعرض بـ«الأفكار الطبيعية للعواطف البصرية التي يفترضها الفنان لاختبار مشاعر متلقيه، واستثارة أسئلة المشاهد عن الطريقة التي يمكن أن تمزج رؤاه بما يرى، اعتمادا على الملامح التشكيلية المثيرة الخاصة بالفنان، وعلى الدوال الوجدانية التي تحقق الاستجابة الإيجابية المكثفة لتشخيصاته».
والسمهوري، الذي حاول توصيل رسالة فنية بأن عزة هي مزيد من تناقضات الحب والمقاومة، سبق أن أقام العديد من المعارض الفنية الفردية في الإمارات العربية المتحدة، ولبنان، وفلسطين. كما شارك في العديد من المعارض الفنية الجماعية، وهو فنان فلسطيني من مواليد العاصمة الأردنية عمان.



رقائق ذهبية من مقابر البحرين الأثرية

قطعتان ذهبيتان من مقبرة أبو صيبع تقابلها ثلاث قطع مشابهة من مقبرة الشاخورة
قطعتان ذهبيتان من مقبرة أبو صيبع تقابلها ثلاث قطع مشابهة من مقبرة الشاخورة
TT

رقائق ذهبية من مقابر البحرين الأثرية

قطعتان ذهبيتان من مقبرة أبو صيبع تقابلها ثلاث قطع مشابهة من مقبرة الشاخورة
قطعتان ذهبيتان من مقبرة أبو صيبع تقابلها ثلاث قطع مشابهة من مقبرة الشاخورة

كشفت أعمال التنقيب المتواصلة في مقابر البحرين الأثرية عن مجموعات متنوعة من اللقى، منها مجموعة من الرقائق الذهبية، زُيّن بعض منها بنقوش تصويرية تتميّز بطابعها الفني المتقن. تعود هذه المجموعة إلى الحقبة التي عُرفت بها هذه البلاد الجزرية باسم تايلوس في القرون الأولى من عصرنا، وتشهد لتقليد فني جنائزي شاع في نواحٍ عدة بالشرق الأدنى، وبلغ ساحل الخليج العربي.

خرجت هذه الرقائق الذهبية من مقابر عدة موغلة في القدم، تقع اليوم في المحافظة الشمالية، وتطل على شارع البديع. تُعرف هذه المقابر بأسماء القرى التي تجاورها، وهي مقبرة أبو صيبع، ومقبرة الشاخورة، ومقبرة الحجر. تقع أولى هذه المقابر على تل دائري يبعد نحو 8 كيلومترات غرب المنامة ونحو 500 متر جنوب دوّار جنوسان عند شارع البديع، وهي من المواقع الأثرية التي شرع فريق بحريني في استكشافها منذ عام 1983. أظهرت أعمال المسح قبوراً عدة، حوت مجموعات من الأواني الفخارية والزجاجيات والحلى، دخل قسم كبير منها القاعة التي تحمل اسم تايلوس في متحف البحرين الوطني بالمنامة، ومنها 4 رقائق بيضاويّة مصنوعة من الذهب، تُشكّل زوجين متشابهين من الأقراص كما يبدو.

عُثر على زوج من هذه القطع الذهبية عند أعلى صدر أحد الراقدين في هذه المقبرة، وعُثر على الزوج الآخر المشابه له عند أسفل الصدر، ممّا يوحي بأنها مشابك صُنعت لتثبت عند أطراف رداء الجثمان أو كفنه. يحمل كل زوج من هذه الأقراص صورتين منقوشتين، تمثّل الأولى وجه رجل ملتحٍ يظهر في وضعية جانبية، وتمثّل الأخرى قامة نسر مجنّح يظهر كذلك في وضعية مماثلة. تحتلّ صورة الرجل مساحة بيضاوية مسطّحة يبلغ طولها 5.3 سنتيمتر، وتظهر على شكل نقش ناتئ حُدّدت تفاصيله بأسلوب يجمع بين الدقة والإتقان والرهافة. الطابع الفني يوناني، مع أنف طويل، وعين يحدّها جفنان بارزان، وفم مطبق تحيط به لحية تنسدل من أعلى الوجنتين إلى أسفل الذقن. يرتفع هذا الوجه فوق عنق ترتسم فوق كتفين يعلوهما ثوب يوناني تقليدي، كما توحي ثناياه الملتفة حول المنكب. في المقابل، تحتل صورة النسر مساحة يبلغ طولها 4 سنتيمترات، وتُمثّل طيراً يقف منتصباً، فاتحاً جناحيه المنبسطين في الفضاء.

تتكرّر صورة هذا الرجل الملتحي مع اختلاف في التفاصيل على قطعتين ذهبيتين من الطراز نفسه، مصدرهما مقبرة الشاخورة التي تقع شمال غربي القرية التي تحمل اسمها، على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع. وهي مقبرة كبيرة تُشكّل موقعاً كبيراً يشمل سلسلة من التلال المنخفضة، تحوي مجموعة من مدافن تعود لفترة تايلوس. تظهر صورة الرجل الملتحي على صفحة منمنمة مستطيلة، كما تظهر على صفحة دائرية، وتوحي ملامحها بأنها تمثّل وجهاً واحداً يختزل في وحدته شبهاً مثالياً يتجاوز الملامح الفرديّة.

يظهر المثال الأنثوي على قرص دائري يبلغ طول قطره 3.2 سنتيمتر، مصدره كذلك مقبرة الشاخورة. الأنف طويل ومتصل بالجبين، والعين مفتوحة وسط هدبها، والثغر صغير. الوجنة مكتنزة، والعنق منتصب، ويحدّه عقد تنسدل منه سلسلة من الحبات الرباعية الأضلاع. الشعر مرفوع إلى الوراء، مع جدائل معقودة تبلغ أعلى طرف الظهر. تبدو هذه الصورة المنقوشة على صفحة رقيقة من الذهب مماثلة للصور المنقوشة على الجواهر التي يُشار إليها باسم «قميو»، وهو اسم خاص بصنف من الجواهر، عُرف في ميدان الفنون الفاخرة الكبرى بشكل واسع على مدى عصور.

إلى جانب هذه الرقائق الذهبية التي تتبنّى أسلوباً تصويرياً، تحضر رقائق أخرى تحمل طابعاً تجريدياً، مصدرها مقبرة الحجر التي تتبع قرية تحمل هذا الاسم، تقع كذلك على شارع البديع، وتحديداً بين قرية أبو صيبع وقرية القدم. تنقسم هذه الرقائق إلى مجموعتين. عثرت بعثة محلية على المجموعة الأولى خلال عام 1971، وهي مكونة من قطع صغيرة متعددة الأشكال صُنعت لتزيّن أكاليل خاصة بالراقدين. وعثرت بعثة محلية أخرى على المجموعة الثانية بين عام 1992 وعام 1993، وهي مكوّنة من رقائق مستطيلة ذات أطراف مقوّسة، صُنعت لتثبّت فوق أفواه الراقدين في قبورهم.

تعكس قطع البحرين الذهبية تقليداً فنياً شاع في مقدونيا القديمة كما في مواقع تقع اليوم في مناطق حدودية من بلغاريا

استُخدم الذهب منذ أقدم العهود في ميادين فنية متعدّدة، وتعدّدت أشكاله بين حضارة وأخرى، وبين حقبة وأخرى. في «اللطائف والظرائف»، نقل الثعالبي عن شداد الحارثي في «باب مدح الذهب»: «الذهب أبقى الجواهر على الدفن، وأصبرها على الماء، وأقلّها نقصاناً على النار، وهو أوزن من كل شيء إذا كان في مقدار شخصه، وجميع جواهر الأرض إذا وضع على الزئبق في إنائه طفا، ولو كان ذا وزن ثقيل وحجم عظيم، ولو وضعت عليه قيراطاً من الذهب لرسب حتى يضرب قعر الإناء، وله حسن وبهاء في العيون، وحلاوة في الصدور، ومنه الزريابات والصفائح التي تكون في سقوف الملوك، وعليه مدار التبايع منذ الزمان الأول والدهر الأطول».

افتتن أهل الأرض بالذهب «منذ الزمان الأول والدهر الأطول»، وجعلوا منه ثمناً «لكل شيء»، كما تشهد الحضارات المتعاقبة على هذه الأرض. تعكس قطع البحرين الذهبية تقليداً فنياً راسخاً شاع في مقدونيا القديمة، كما في مواقع تقع اليوم في مناطق حدودية من بلغاريا. ويتمثّل هذا التقليد في صناعة رقائق من الذهب تستقر على أعضاء معيّنة من الجثامين، وعلى مواقع محدّدة من الأكفان. امتدّ هذا التقليد إلى الشرق الأدنى، وشاع في الساحل الفينيقي، كما تشهد قطع عُثر عليها في صيدا وجبيل وبعلبك وحمص.

بلغ هذا التقليد الجنائزي نينوى في شمال العراق، ووصل منه كما يبدو إلى الجزيرة العربية، كما تؤكد القطع التي خرجت من مقابر البحرين، والقطع المشابهة التي عُثر عليها في نهاية القرن العشرين بمدفن شُيّد في شرق مستوطنة ثاج التي تتبع اليوم شمال شرقي المملكة العربية السعودية، وتقع على بعد نحو 95 كيلومتراً من مدينة الجبيل غرباً، وسط وادٍ ضحل يمتدّ على الطريق التي كانت تسلكها قديماً القوافل التجارية.