إلسا تريوليه وأراغون... الحب وحده هو ما يبقى من الفراديس بعد فقدانها

الزوجان اللذان جعلا من اللغة أكمل مرايا الحب

أراغون وإلسا تريوليه
أراغون وإلسا تريوليه
TT

إلسا تريوليه وأراغون... الحب وحده هو ما يبقى من الفراديس بعد فقدانها

أراغون وإلسا تريوليه
أراغون وإلسا تريوليه

«عندما سنرقد، جنباً إلى جنب، رقدتنا الأخيرة، سيوحدنا اجتماع كتبنا في السراء والضراء في هذا المستقبل الذي كان حلمنا وشغلنا الشاغل، أنت وأنا، وبعون الموت. ربما حاول بعضهم، ونجحوا في محاولتهم للتفريق بيننا، أكثر مما فرقتنا الحرب في أثناء حياتنا. ولأن الموتى بلا دفاع، ستأتي كتبنا المتشابكة، أسود على أبيض، يداً بيد، لتقاوم من ينتزع أحدنا من الآخر».
بهذا المقطع الوجداني تستهل إلسا تريوليه، زوجة لويس أراغون، النص المؤثر الذي قدمت من خلاله الأعمال السردية الكاملة للزوجين العاشقين، بعد أن عقدا العزم على إصدار هذه الأعمال في طبعة مشتركة لكي تكون الكتابة جزءاً لا يتجزأ من سرهما المشترك، والتتويج الأسمى لعلاقة الحب التي جمعتهما معاً لعقود عدة. والواقع أن العلاقة التي جمعت بين الشاعر الفرنسي الشهير والكاتبة الروسية لا تندرج في سياق العلاقات العادية المألوفة بين الكتاب، خاصة في شقها الزوجي الذي يتحول في الأعم الأغلب إلى مسرح يومي للرتابة والتآكل والتكرار الممل، بل بدت في كثير من جوانبها بمثابة واحدة من الأساطير القليلة للوله والعشق والافتتان بالآخر. ولهذا السبب على الأرجح بدت تلك العلاقة النادرة عصية على الفهم، سواء من قبل معاصري الشاعر السوريالي على نحو عام، أو من قبل أترابه من الشعراء والفنانين الذين كانوا يقفون بمعظمهم، وبحكم نرجسيتهم الفاقعة، على الضفة «الفاسدة» من العلاقات.
قد يكون الحوار المطول الذي أجراه الناقد الفرنسي فرنسيس كريميو مع صاحب «مسافرو الإمبريال»، والذي صدر لاحقاً في كتاب مستقل بعنوان «محاورات مع أراغون»، هو أحد المصادر المهمة التي يكشف فيها هذا الأخير عن علاقته بإلسا التي لم يكسبها تقادم السنين سوى مزيد من الرسوخ والتوهج العاطفي. واللافت أن أراغون لم يكتفِ في هذا الحوار بإعلان انتمائه العميق للمرأة التي رأى فيها جوهر كينونته ومعنى وجوده، بل حرص دفعاً لأي لبس على تأكيد أن المرأة التي كرس لها قلبه وشعره وحياته هي امرأة اللحم والدم، أي إلسا تريوليه بالذات، التي لا تعني سوى نفسها، ولا تحتاج بالتالي إلى أن تكون قناعاً لفرنسا، أو رمزاً لمقاومتها الصلبة في وجه الاحتلال الألماني. صحيح أن الجمهور الواسع ليس باستطاعته تقبل مثل هذه الصورة المثالية التي يرسمها الزوج لزوجته، والتي تتحول في أوج الحرب إلى «نوع من الفضيحة»، كما يقول أراغون في رده على أحد الأسئلة، ولكنه ما يلبث أن يوضح أن مجاهرته العلنية بحبه لإلسا كان من بين أهدافها الرد على تدليس صورة المرأة في زمن الهيمنة الفاشية، والحث بالمقابل على تصحيح الخلل القائم في العلاقة بين الطرفين. على أن أراغون لا ينسب إلى نفسه مأثرة الوقوف بصلابة في وجه الاحتلال النازي لبلاده، ولا المأثرة الأخرى المتعلقة بتحويل الحياة الزوجية إلى مساحة من الحب والاحترام المتبادل والتقاسم المتساوي لأعباء الحياة. فهي من جهة أولى أصرت على رفض التخلي عنه، إثر صدور قرار من المقاومة الفرنسية -لدواعٍ أمنيةٍ- يقضي بضرورة انفصال أحدهما عن الآخر حتى نهاية الحرب، فيما تكفلت من جهة ثانية بنزع «نظارته الذكورية»، مخلصة إياه من «تعصب الرجل الذي يريد من المرأة أن تكون مجرد زوجته وظله».
وإذا كانت إلسا تريوليه قد ظهرت بشكل أو بآخر في معظم أعمال أراغون الروائية والشعرية، فإن «مجنون إلسا» لا يشكل ذروة هذه الأعمال فحسب، بل هو يعد في رأي كثير من النقاد أحد أكثر الأعمال الإبداعية فرادةً وثراءً في القرن العشرين، ليس فقط بسبب عبقرية الفكرة المؤسسة للعمل التي اتخذت من سقوط غرناطة الذريعة الملائمة لرفع راية الحب في الأرض، في بديل نموذجي عن التعصب الديني والعرقي والقومي، بل بسبب قدرة الكاتب الهائلة على دمج التاريخ بالأدب، والفلسفة بعلم الاجتماع، والسرد النثري بألق الشعر وفتنته وكشوفه. أما الشرارة الأولى التي أطلقت العمل، فقد كانت -وفق ما يخبرنا به أراغون- إحدى الأغاني الرومانسية التي تركت في نفسه أبلغ الأثر، والتي جاء في مقدمتها: «عشية سقطت غرناطة/ قال فارسٌ لجميلته...»، الأمر الذي حول الشرارة تلك إلى حرائق غير قابلة للتوقف في أعماق الشاعر الذي كان قد سمع للتو نبأ سقوط باريس في قبضة الاجتياح النازي.
لقد بدت تلك الكلمات المترعة بالشجن والدلالات الرمزية الموجعة بمثابة وداعٍ ما للعالم، يقول أراغون في مقدمة عمله الملحمي، ثم يضيف لاحقاً: «لقد قبضت على نفسي في سرقة موصوفة لبيتٍ من أغنية: عشية سقطت غرناطة. كما كان في الأغنية عندي سر آخر، حيث أقحمتني الكلمات درباً لم يكن في بالي، وتوحدت مع ملك تلك المدينة السحرية، هذا الأبو عبد الله الذي أدري جيداً كيف تسرب إلى أحلامي». وإذ يربط أراغون بين سقوط طروادة وسقوط غرناطة، يبذل خلال الكتاب كل ما في وسعه من جهد ليدحض عن أبي عبد الله الصغير فكرة الجبن والتخاذل التي ألحقت به، والتي تضافر على صناعتها الظافرون من الفرنجة الذين راحوا يكتبون التاريخ بمنطق الغلبة، والمغلوبون من المسلمين الذين كانوا في أمس الحاجة إلى كبش فداء نموذجي يبررون من خلاله وهنهم المطرد وانقساماتهم المزمنة خلال القرون الأخيرة من الحكم العربي للأندلس، وهي الصورة المزورة التي تم تلفيقها في ليل -وفق أراغون- ومن ثم نسبتها إلى عائشة الثغري (أم أبي عبد الله) التي قيل إنها خاطبت ابنها المهزوم ببيت من الشعر هو أقرب إلى رصاصة الرحمة منه إلى أي شيء آخر:
ابكِ مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجالِ
وفي كنف ذلك الفردوس المتهاوي الذي اسمه الأندلس، ابتكر أراغون شخصية المجنون النجدي الذي كان يذرع في أواخر القرن الخامس عشر شوارع غرناطة المحفوفة بالخوف والقلق على المصير، والذي مكنته مرآته العابرة للزمن من التنبؤ بظهور إلسا المنتظرة في لحظة ما من القرن العشرين. وإذ يربط أراغون بين اسم إلسا أو «إلزا» والعزّى التي كانت تُعبد في الجاهلية، كما يربطها باسم عزة حبيبة كثيّر العذري، ينسب إلى مجنون غرناطة قوله إن المرأة ليست مستقبل الرجل فحسب، بل هي مستقبل الإنسانية جمعاء والكوكب الأرضي برمته. كما يخترع الشاعر من عندياته شخصية زيد الفتي الذي يرى في المجنون معلمه ومرشده الروحي، والذي يساعده بعد سقوط غرناطة على التواري بعيداً عن عيون العسس ومحاكم التفتيش، إضافة إلى تدوين ما أمكن من هذيانات النجدي الذي يهتف بإلساه:
أحدثك تفرين / أتبعك تطيرين
عيناك بعيدتان عن حيث إنا
قلبك أغوته كلمات أخرى
تقولين أشياء مظلمة
على عتمة الأزمنة المضيئة
كما قبل أن يتفتح الورد
تكون شجيرة الورد براعم
وحيث تحطين يزهر كل شيء
يا إلسا التحولات
لقد بدا الشرق بالنسبة لأراغون بمثابة المنجم المتنوع غير المحدود الذي يرفد حبه لإلسا بكل ما يلزمه من براهين وذرائع ووسائل إقناع. فعلى المستوى اللغوي يستوقفه، من خلال قناعه النجدي، تضمّن اللغة العربية لفعلين واضحين يدلان على الماضي والحاضر، فيما يغيب الفعل الدال على المستقبل، ليصبح هذا الأخير حالة من أحوال المضارع، تُستخلص من سياق الجملة، أو من خلال الاستعانة بحروف الاستقبال التي تصل الواقعي بالغيبي، وتجعل من إلسا وجوداً مؤجلاً، ولكنه قابل للتحقق. وعلى المستوى التاريخي يستعيد أراغون أكثر تجليات الصحراء العربية صلة بإعلاء المرأة والتتيم بها، وصولاً إلى الهذيان والجنون الكامل. وعلى مستوى الكشف التأملي والروحي، يجد أراغون في التصوف الإسلامي المشرقي ما يساعده على تجاوز الوجود المادي الظاهر للمرأة التي يحب، لتتحول بالنسبة له إلى جزء لا يتجزأ من روح الكون وحركته المتناغمة. وإذ تتوحد هذه المستويات الثلاثة في لحظة تراجيدية مفصلية من التاريخ، يواصل أراغون نداءاته اللهفى على لسان المجنون:
غرناطة تموت
وقلبي متغلغلٌ فيها
يا نخلاً شاحباً ويا تدمر الجديدة
تتراءين في المستنقع العربي
بفعل السحر الرقيق
عند آخر شموس الأمراء
أطلبكِ من المستقبل /
فعودي إلينا منه يا حبيبتي
في آخر ساعات الإسلام
لعلي على ركبتيك
يا إلسا أسْلم الروح
إلا أن كل ما تقدم لا يحجب بأي حال مشروعية الأسئلة التي يثيرها بعضهم، حول ما إذا كانت العلاقة العاطفية الفعلية بين أراغون وإلسا تريوليه مطابقة لصورتها في مرآة الأدب، أم أن ما يصح على المتخيل الإبداعي لا يصح بالضرورة على الواقع؟ ومع أننا لا نعثر في سيرة الطرفين على ما يعكس تناقضاً صارخاً بين صورتي الحياة واللغة، فإن منطق الأمور يؤكد أنه يستحيل على الواقع المتحقق أن يطابق المحلوم بتحقيقه، وإلا لفقدت الفنون بوجه عام مسوغها وجدواها. وليس بالأمر المستغرب في هذه الحالة أن تكون العلاقة بين الزوجين قد واجهت كثيراً من المزالق والمطبات، شأنها في ذلك شأن سائر العلاقات اليومية الرتيبة بين الأزواج، إلا أن ما أسهم في تذليل تلك المطبات لم يكن الحب وحده على الأرجح، بل التحلق المشترك حول الكتابة، بصفتها طريقة لقهر الزمن، وإبعاد شبح الضجر، فضلاً عن تصميم الطرفين على أن يواجها معاً الأخطار التي تتهددهما بشكل شخصي، بقدر ما تتهدد البشر بشكل عام، خاصة في أزمنة الحروب الضارية وانعدام الأمان وتقلص مساحة الحرية.
قد يكون من حق القارئ، أخيراً، أن يتساءل عن السبب الذي منع إلسا تريوليه، وهي كاتبة روائية، من جعل أراغون موضع اهتمامها، أو واحداً من أبطال أعمالها السردية، وعما إذا كان الأمر يعكس تفاوتاً في منسوب الحب بين الطرفين. والواقع أن مثل هذه الإشكالية لم تغب عن بال الناقد الفرنسي فرنسيس كريميو الذي طرح على إلسا السؤال نفسه، دون أن تتحرج في ردها عليه من القول: «ليس لدي أي سبب، ولا أعرف أي طريق أسلك لأُدخل لويس فجأة في رواياتي». ولكي تخفف من وطأة الإجابة، أو درءاً لسوء الفهم، تميز تريوليه بين الرواية والشعر الذي يملك أكثر من سواه القدرة على البوح الغنائي والعاطفي، على أن السبب الأعمق الذي يقف وراء ذلك، والذي لم تكشفه الزوجة الكاتبة، يكمن في استمراء المرأة المعشوقة لفكرة تحويلها من قبل الرجل العاشق إلى أيقونة أو معبودة أرضية، وهو ما يُسند إلى العاشق المتعبد مهمة الكلام إفصاحاً عن الوله والتتيم، فيما التزام المعشوق بالصمت هو الشرط الإلزامي لوضعه في خانة الأسطورة. ولا يجافون الحقيقة بشيء أولئك الذين يرون أن إلسا لا تدين بخلود اسمها إلى كتاباتها الروائية «المتواضعة»، بل إلى كونها حبيبة أراغون وملهمته، والمحور الأساس الذي تدور حياته من حوله، والتي يصفها في إحدى قصائده بالقول:
«إنها المرأة الخالدة التي أنجبتُها للعالم / ومنها أولد».



تريستان وإيزولد يرسمان للعشق الفروسي مآله الحزين

 مشهد عاطفي من أوبرا «تريستان وإيزولده» للمؤلف الموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر
مشهد عاطفي من أوبرا «تريستان وإيزولده» للمؤلف الموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر
TT

تريستان وإيزولد يرسمان للعشق الفروسي مآله الحزين

 مشهد عاطفي من أوبرا «تريستان وإيزولده» للمؤلف الموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر
مشهد عاطفي من أوبرا «تريستان وإيزولده» للمؤلف الموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر

قد تكون قصة تريستان وإيزولد (أو إيزولده) العاطفية التي ظهرت في فرنسا في القرن الثاني عشر إحدى أكثر الأساطير تعبيراً عن روح القرون الوسطى، وعن حاجة الغربيين الذين أدمتهم الحروب الصليبية والأهلية إلى جرعة من الحب تربطهم بمعنى للحياة مغاير للعنف الدموي والأحقاد القاتلة. ومع ذلك فإن هذه الأسطورة التي غذتها روافد متعددة تراوحت بين الحب الأفلاطوني والعفة المسيحية والتراث الغنوصي الصوفي، وصولاً إلى الحب العربي العذري، التي بدأ بكتابتها الشاعر الألماني غوتفريد فون ستراسبورغ في أوائل القرن الثالث عشر قد شكلت مصدراً لإلهام العديد من شعراء الغرب وموسيقييه، بدءاً من بارزيفال أشينباخ وليس انتهاء بالعمل الأوبرالي المتميز لريتشارد فاغنر.

أما أحداث القصة فتتلخص بأن مارك، ملك بلاد كرنواي الذي يتعرض لهجمة عنيفة من أعدائه، لا يجد من يهبّ لنجدته سوى ريفلان، ملك بلاد لونُوا، الأمر الذي يدفعه إلى مكافأته بتزويجه من أخته بلانشفلاور. إلا أن الأخيرة لا تهنأ طويلاً بهذا الزواج، حيث يقضي ريفلان نحبه في إحدى معارك الدفاع عن مملكته، قبل أن تنجب بلانشفلاور ولدها تريستان، ويعني اسمه الشخص الحزين. وبعد أن يفقد تريستان أمه في يفاعته يتبناه الملك ويقوم بتدريبه على فنون القتال، حتى إذا تعرضت مملكة كرنواي لهجوم كاسح من الآيرلنديين لم يجد مارك من يواجه موهورلت الفارس الآيرلندي العملاق سوى تريستان، الذي ينجح في قتل موهورلت، إلا أنه يتلقى منه إصابة بسيف مسموم.

إثر ذلك يغادر تريستان بلاده بحثاً عن دواء، لتضعه المصادفات في طريق إيزولد، أميرة آيرلندا الفاتنة وشقيقة موهورلت التي تقوم بإعطائه دواءً سحرياً دون أن تعلم بأنه قاتل أخيها. وبعدها بسنوات يضع طائر شعرة ذهبية طويلة عند نافذة الملك مارك الذي أرسل تريستان للبحث عن صاحبتها بهدف الزواج منها. وتتولى الصدف بحمل تريستان مجدداً إلى شواطئ آيرلندا، فيقوم بقتل تنين هائل كان يهدد عاصمتها. لكنه يتعرض لبعض الجروح التي تقوم إيزولد مرة أخرى بعلاجها. تهم الأميرة بقتله لدى معرفتها بأنه قاتل أخيها، لكن بعد أن قام تريستان بإبلاغها أنها هي بالذات صاحبة الشعرة الذهبية التي عزم الملك على الزواج من صاحبتها، قررت العفو عنه، ووافقت على الزواج من الملك.

وإذ تعمد أم الأميرة إلى إعطاء خادمة ابنتها المبحرة برفقة تريستان لتتزوج من الملك دواءً سحرياً يؤجج الحب بينها وبين زوجها المنتظر لسنوات ثلاث، تقوم الخادمة عن طريق الخطأ بإعطاء الدواء لإيزولد وتريستان الذي لم تثنه خيانته للملك بفعل الشراب السحري الذي تناوله مع إيزولد عن الوفاء بالعهد الذي قطعه له. ولكي لا يكتشف مارك فعلة عروسه، تعمد الخادمة إلى الحلول مكانها ليلة لزفاف.

إلا أن قيام بعض الوشاة بتحريض الملك ضد تريستان، وتقديم البراهين على خيانته، تدفع مارك إلى معاقبته بالنفي، حتى إذا عمد تريستان إلى الاختلاء بحبيبته قبل رحيله أطلع القزم الماكر فورسين الملك المخدوع على اللقاء. ومع ضبط العاشقيْن متلبسين بفعل الخيانة سلّمت إيزولد إلى قوم من البرص وحُكم على تريستان بالموت. ومع ذلك فقد استطاع تريستان تخليص حبيبته والهرب معها إلى غابة بعيدة حيث كابدا الكثير من المشاق. وحين اهتدى الملك إلى مخبأ العاشقين الهاربين وجدهما نائمين وبينهما سيف صقيل كان تريستان قد وضعه بينهما بالصدفة، فاعتبر ذلك علامة براءتهما ونجيا من القتل.

وعند نهاية السنوات الثلاث وبطلان مفعول الشراب السحري، قام تريستان بإعادة إيزولد إلى الملك، دون أن يتوقف الاثنان عن اللقاء. إلا أن بعض الأحداث اللاحقة دفعت تريستان إلى الظن بأن إيزولد لم تعد تحبه، فعمد إلى الزواج من فتاة أخرى اسمها «إيزولد، ذات الأيدي البيضاء»، دون أن يلمسها لأنه كان لا يزال متولهاً بالأولى. وبعد أن أصيب تريستان مجدداً بجرح مسموم، أرسل في طلب الشفاء من حبيبته الملكة فسارعت إلى نجدته رافعة شراعاً أبيض كعلامة على الأمل. إلا أن الغيرة التي استبدت بإيزولد البيضاء دفعتها إلى إبلاغه بأن لون الشراع أسود، فقضى تريستان نحبه متأثراً بالنبأ المشؤوم، حتى إذا وصلت إيزولد الملكة إلى منزل حبيبها وجدته قد مات، فلفظت أنفاسها على الفور.

وإذا كانت هذه القصة المؤثرة قد تركت خلفها أصداء عميقة وواسعة في بلاد الغرب، بحيث أعاد كتابتها العديد من الشعراء والكتاب، وحوّلها ريتشارد فاغنر إلى عمل موسيقي أوبرالي من ثلاثة فصول، فإنها دفعت الباحثين في الوقت ذاته إلى طرح الكثير من الأسئلة حول طبيعتها وظروف تكوّنها ومرجعياتها الفكرية والثقافية. ففي تقديمه للأسطورة التي أعاد صياغتها جوزف بيديه، عضو الأكاديمية الفرنسية، يقول غاستون باريس إن القصة التي طهّرها الألم وقدّسها الموت، قد خرجت من أعماق المخيلة السلتية المترعة بعوالم السحر وطقوسه الغرائبية، وامتزج فيها العنصر البربري بروح الفروسية الغربية.

أما الباحث الفرنسي دينيس دي رجمون فيرى فيها نوعاً من التصعيد الدلالي لظاهرة التروبادور، وارتقاء بالحب الفروسي التراجيدي إلى خانة الأسطورة. وإذ يعدُّ أنه «ليس للحب السعيد قصة بل للحب المميت»، يؤكد انعكاس التقاليد السلتية في العديد من وقائع القصة، وبينها أن الفتيان في سن البلوغ لا يحصلون على حقهم بالمرأة إلا بعد اجتيازهم لامتحان القوة، الذي اجتازه تريستان بامتياز. كما يرى أن مأساة تريستان كانت تكمن في تحوله إلى ساحة للعراك العنيف بين موجبات الهوى التي تدفعه إلى الاحتفاظ بحبيبته، وبين موجبات التقاليد الإقطاعية التي تلزمه بإعادة إيزولد إلى زوجها.

وإذا كان بعض المتشددين قد أدرجوا العلاقة في خانة الزنى والهوس الشهواني، فإن ثمة من دفع عن العاشقين مثل هذه التهم، باعتبار أن ما فعلاه لم يكن بإرادتهما الواعية، بل تسببت به قوة قاهرة اتخذت شكل الشراب السحري. ورأى آخرون أن حرص تريستان على إعادة حبيبته إلى عهدة الملك لم يكن بدافع الواجب الأخلاقي وحده، بل لاعتقاده بأن الآخر ينبغي أن يظل بعيداً عن الامتلاك الكامل، الأمر الذي يجد تفسيره في حادثة السيف الفاصل بين جسدي العاشقين. ولأن كلاً من الهوى والزواج يتغذى من منابت مختلفة، فقد حرص البطل العاشق على إبقاء حبيبته في فضاء الشغف واللهفة لأن تحوُّلها إلى «مدام تريستان» سينزل بها من سماء الأسطورة إلى الأرض المستهلكة للرتابة والنسيان.

قصة حب مؤثرة حوّلها ريتشارد فاغنر إلى عمل موسيقي أوبرالي

وبصرف النظر عن انقسام الدارسين بشأن تأثر الحب الغربي آنذاك بقصص الحب العربية التي لم تواجه أي صعوبة تُذكر في عبور الأندلس باتجاه الشمال الشرقي، فإن البحث المضني عن جذور محلية وصافية النسب لقصة تريستان وإيزولد لم يكن هدفه العثور على الحقيقة، بل كانت مسوغاته الأبرز تنقسم بين التعصب الإثني والآيديولوجي من جهة، وبين العداء للعرب الفاتحين من جهة أخرى. ومع أن قصة تريستان وإيزولد لا تتطابق على نحو تام مع أي من قصص الحب العربية التي سبقتها في الزمن، فإن فيها أطيافاً متفاوتة المقادير من قصص قيس بن الملوح، وجميل بن معمّر، وقيس بن ذريح وعروة بن حزام، التي انتهت جميعها بموت الحبيبين، كما كان شأن البطلين الغربيين.

وإذا كان الجانب الفروسي من شخصية تريستان لا يتطابق مع كوكبة العذريين الذين أداروا ظهورهم لميادين الحروب، فإن شجاعته الأسطورية الخارقة تحيلنا إلى الشخصية المماثلة لعنترة بن شداد الذي كان عليه للفوز بحبيبته عبلة، أن ينجح في امتحان الشجاعة القاسي، قبل أن تتولى الذاكرة العربية الجمعية كتابة سيرته، وتحويله إلى بطل قومي ملحمي.

وسواء كانت الرياح العاطفية القادمة من الشرق هي التي لفحت بأرجوانها الناري قلوب العشاق الغربيين، أو كان وجيب تلك القلوب يتغذى من رياح محلية المنشأ، فإن عهد الهوس بالحب الجنوني والبعيد عن التحقق ما لبث أن تراجع إلى مربعه الضيق بفعل الضربات القاصمة للمؤسسة الكنسية الحاثة على الزواج. ولم تكن رواية «دون كيشوت» التي كتبها سرفانتس في القرن الخامس عشر سوى مرثية مضحكة مبكية لزمن الفروسية الآفل، واستطلاع بلغة السرد لعصر النهضة القادم، حيث بدأ الجسد يحل محل الروح، وحيث أخلت الأساطير الرومانسية مكانها للتفكير العقلاني وكشوفه العلمية المتسارعة.