السينما المصرية والأدب... قصة حب «مضطربة»

المعادلة الصعبة بين كاتب السيناريو والمخرج والمؤلف

مشهد من فيلم «دعاء الكروان» رواية طه حسين وإخراج هنري بركات
مشهد من فيلم «دعاء الكروان» رواية طه حسين وإخراج هنري بركات
TT

السينما المصرية والأدب... قصة حب «مضطربة»

مشهد من فيلم «دعاء الكروان» رواية طه حسين وإخراج هنري بركات
مشهد من فيلم «دعاء الكروان» رواية طه حسين وإخراج هنري بركات

يتناول كتاب «السينما المصرية والأدب» الذي صدر حديثاً عن دار آفاق للنشر والتوزيع 20 فيلماً من أفضل ما قدمت السينما المصرية، قام مؤلفه الناقد السينمائي المصري أمير العمري بدراستها وعمل مقارنة بين ما ظهر على الشاشة البيضاء وما كان مكتوباً على الورق في الروايات التي أخذت عنها، وهي أفلام هامة، تتمتع بقيمة فنية عالية حتى اليوم، رغم ما قد يشوبها من مثالب.
ركّز الكتاب على أفلام قديمة في معظمها، ما عدا فيلماً واحداً حديثاً، هو «ورد مسموم» الذي تم إعداده عن رواية «ورود سامة لصقر» للكاتب أحمد زغلول الشيطي، التي صدرت طبعتها الأولى ضمن سلسلة مجلة «أدب ونقد» قبل 21 عاماً، وقد اتخذه المؤلف مثالاً لتسطيح العمل الأدبي وتجاهله وتدميره، وإفراغه من موضوعه وأفكاره.
درس المؤلف، مقارناً إياها بسيناريوهات المأخوذ عنها، 20 رواية لـ11 كاتباً؛ طه حسين، نجيب محفوظ، فتحي غانم، يحيى حقي، إحسان عبد القدوس، يوسف إدريس، نجيب الكيلاني، يوسف السباعي، إسماعيل ولي الدين، ثروت أباظة، أحمد الشيطي. أما مخرجو هذه الأفلام فهم؛ هنري بركات، حسام الدين مصطفى، حسين كمال، صلاح أبو سيف، خليل شوقي، كمال الشيخ، محمد الشناوي، هشام أبو النصر، أشرف فهمي، علي بدرخان، أحمد ياسين، عاطف الطيب، محمد الشناوي، إبراهيم الشقنقيري، أحمد فوزي صالح.
ولاحظ العمري أن هناك بين المخرجين من كتب بنفسه سيناريو فيلمه أو اشترك في كتابته كما فعل هشام أبو النصر وخليل شوقي. وأما كتاب السيناريو الذين تولوا تحويل الروايات إلى السينما فكان من بينهم يوسف جوهر، لوسيان لامبير، ممدوح الليثي، صبري موسى، مصطفى محرم، علي الزرقاني، صبري عزت، أحمد عباس صالح، مصطفى كمال، عاصم توفيق، محسن زايد، فايز غالي، إبراهيم الموجي.
ورتّب المؤلف دراسات كتابه حسب الترتيب الزمني لتواريخ عرض الأفلام، وسعى خلالها لإيضاح إضافات كتاب السيناريو والمخرجين للعمل الأدبي بما يخدم موضوع الفيلم، ويعمق فكرته، وكيف يمكن أن تتجاوز السينما الأصل الأدبي وتثريه أيضاً إذا ما وقع النص الأدبي بين يدي كاتب سيناريو يمتلك الحس الأدبي، ولديه من التجربة الإنسانية ما يتيح له القدرة على الإضافة والتطوير وتزويد العمل السينمائي بما يجعله أكثر حيوية ودرامية، وبالتالي أكثر تأثيراً.
وأوضح العمري كيف يمكن أن يتسبب تراجع الخيال لدى كاتب السيناريو أو ميل المخرج إلى تغليب الجانب التجاري الذي يراه مبهراً ومثيراً في العمل الأدبي، والتوسع فيه واختلاق مواقف ومشاهد تجعله أكثر إثارة، في إلحاق ضرر بالفكر الذي يتضمنه العمل الأصلي «الرواية»، ويسيء إليه رغم ما يوفره من أساس درامي جيد كان يمكن البناء عليه.
ورغم أن بداية السينما الروائية المصرية كانت تعتمد على الرواية عندما أخرج محمد كريم فيلم «زينب» عام 1930 عن رواية محمد حسين هيكل، وهو الذي يعتبره كثير من المؤرخين أول فيلم روائي مصري، فإن الاهتمام بالرواية، حسب العمري، لم يبدأ على نحو جدي سوى في الخمسينات، مع اقتباس رواية طه حسين «دعاء الكروان» في فيلم أخرجه هنري بركات، وقامت ببطولته فاتن حمامة. وقد ساهم الازدهار الكبير الذي شهده الحقل الأدبي في مصر خلال الخمسينات والستينات من القرن العشرين، في تطور تيار الواقعية في السينما المصرية، وكانت لروايات إحسان عبد القدوس على وجه الخصوص جاذبية كبيرة لدى مخرجي الأفلام الاجتماعية، وطرحت هذه الروايات في الخمسينات مشكلات وقضايا مرحلة الانتقال من مجتمع ما قبل الحرب العالمية الثانية بقيمه القديمة، إلى مجتمع جديد كان يواجه الماضي بنوع من التمرد والتحدي والرفض. وانعكس هذا في اهتمام السينما بقضايا المرأة وتعليم الفتيات وأحلام الشباب المتطلع إلى مجتمع أفضل، والكبت الاجتماعي والنفسي، والتطلع لتحقيق الصعود الطبقي في المجتمع الجديد، وغير ذلك من القضايا والموضوعات التي تبناها عبد القدوس مع كتاب آخرين مثل يوسف إدريس ويوسف السباعي ويحيى حقي وصبري موسى وصلاح حافظ وفتحي غانم ولطيفة الزيات. إلا أن الواقعية في الأدب والسينما ارتبطت بأعمال الأديب نجيب محفوظ، الذي يشير العمري إلى أنه نقل السينما من مرحلة «الحدوتة» المسلية، إلى القصة المحكمة ذات الدلالات الاجتماعية والسياسية، كما في «اللص والكلاب» و«ميرامار» و«ثرثرة فوق النيل»، وإلى مجال الأفكار الإنسانية والفلسفية الكبرى كما في «الطريق» و«الشحاذ» و«قلب الليل».
وذكر العمري أن نجيب محفوظ لعب دوراً رائداً في إثراء السينما المصرية عندما عمل منذ أوائل الخمسينات كاتباً للسيناريو، سواء من خلال السيناريوهات التي كتبها للسينما مباشرة، أو قام غيره من كتاب السيناريو بإعدادها عن أعماله الأدبية التي امتنع تماماً عن كتابة السيناريوهات عنها تاركاً تلك المهمة لعدد من كتاب السيناريو الذين اجتهدوا كثيراً في نقل أعماله إلى السينما، منهم من نجح ومنهم من لم ينجح في التعبير عن رؤى محفوظ العميقة ذات الدلالات المتعددة. وكان الجانب التجاري الذي يهتم بالمشاهد المثيرة، يغلب على بعض هذه الأفلام. إلا أنها أصبحت رغم ذلك، من كلاسيكيات السينما المصرية.
وخلص العمري إلى أن العلاقة المتوازنة بين السينما والأدب لم تكن حباً من طرف واحد، فكما ترك الأدب تأثيره على السينما وأثراها فكرياً، ترك الفيلم بصماته على كثير من الأعمال الأدبية سواء في مجال القصة القصيرة أو الرواية، فقد تأثر الكُتاب دون شك بأسلوب المونتاج والإيقاع السريع والتداعيات والتعبير من خلال وصف الحركة والحدث، وليس فقط الانفعالات والمشاعر الداخلية لأبطال رواياتهم، وفي مرحلة تالية، أصبح معظم السينمائيين المصريين يفضلون كتابة سيناريوهات أفلامهم بأنفسهم. وكان كثير منها يعتمد على اقتباس الحبكة من أفلام أميركية ناجحة، والقليل منها يعتمد على المخرج المفكر صاحب الرؤية الخاصة الذي يكتب أفلامه بنفسه، كما يفعل داود عبد السيد مثلاً وغيره من أبناء جيله من المخرجين مثل رأفت الميهي الذي تحول من كاتب سيناريو إلى مخرج سينمائي، وكذلك يسري نصر الله ومحمد خان وغيرهما. ورغم أن داود اعتمد على رواية أدبية هي «مالك الحزين» لإبراهيم أصلان في فيلمه المبكر الشهير «الكيت كات» فإنه اجتهد كثيراً عندما التقط شخصية واحدة هامشية في الرواية، ومدّها على استقامتها ونسج حولها عملاً يمتلئ بالدلالات مع جعلها تتمتع بالجاذبية، وهي تعبر عن فلسفتها الخاصة البسيطة في الحياة، ما يجعلها قريبة من الناس. ورغم النجاح الكبير الذي حققه الفيلم فإن داود أصبح بعد ذلك يكتب أفلامه بنفسه، ويثري السينما بأعمال ترقى إلى مستوى الأدب، مثل «البحث عن سيد مرزوق»، و«رسائل البحر» و«قدرات غير عادية»، والحقيقة أن جانباً كبيراً من مشكلة القطيعة التي وقعت بين الأدب والسينما في السينما المصرية يرجع إلى قلة كتاب السيناريو المحترفين الذين يمكنهم تطويع الأدب إلى لغة السينما.


مقالات ذات صلة

عُدي رشيد لـ«الشرق الأوسط»: لم أقرأ نصاً لغيري يستفزني مخرجاً

يوميات الشرق المخرج عدي رشيد مع بطل فيلمه عزام أحمد علي (الشرق الأوسط)

عُدي رشيد لـ«الشرق الأوسط»: لم أقرأ نصاً لغيري يستفزني مخرجاً

قال المخرج العراقي عُدي رشيد المتوج فيلمه «أناشيد آدم» بجائزة «اليسر» لأفضل سيناريو من مهرجان «البحر الأحمر» إن الأفلام تعكس كثيراً من ذواتنا.

انتصار دردير (جدة)
يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!