كيف نقلل مخاطر «المواد الكيميائية الأبدية» على الصحة؟

«دقائق البلاستيك» تتسرب إلى الإنسان والبيئة

كيف نقلل مخاطر «المواد الكيميائية الأبدية» على الصحة؟
TT

كيف نقلل مخاطر «المواد الكيميائية الأبدية» على الصحة؟

كيف نقلل مخاطر «المواد الكيميائية الأبدية» على الصحة؟

تحمل المركبات الكيميائية الموجودة في كل شيء... من القدور والمقالي ذات السطح غير اللاصق، إلى منتجات الرذاذ الحامي للقماش، نوعاً من الضرر لصحتكم، ولكن بعض التغييرات البسيطة في أسلوب حياتكم قد تساعد في حمايتكم، وفقا لتقرير من جامعة هارفارد الأميركية نشرته كيلي بيلودو في دورية «مراقبة صحة النساء» لشهر أكتوبر (تشرين الأول) الحالي.
كيميائيات أبدية
تُعرف المنتجات المسماة الفاعلات بالسطح الفلوري
Per - and polyfluoroalkyl substances (PFAS) على أنها مجموعة من آلاف المواد الكيميائية التي صنعها الإنسان وتُستخدم على نطاقٍ واسع لصد المياه والشحم والزيت، فضلاً عن أنها مقاومة للحرارة، ما يجعلها ممتازة للاستخدام في مجموعة متنوعة من المنتجات أبرزها مقالي الطهي غير اللاصقة ومغلفات المواد الغذائية ومعدات التخييم ومستحضرات التجميل ومواد إزالة البقع عن السجاد والقماش. وهي مركبات كيميائية فلورية عضوية فيها ذرات فلور متعددة. استخدمت هذه المركبات للمرة الأولى في المنتجات الصناعية والاستهلاكية في الخمسينات ولم يتوسع استخدامها إلا في السنوات القليلة الماضية حتى أصبحت منتشرة وموجودة في كل شيء من مستحضرات ظلال العينين إلى الطلاء المعدني.
ولكن العلماء الذين يدرسون الصحة البشرية يرون في «الفاعلات بالسطح الفلوري» جانبا مظلماً. وتقول إلسي ساندرلاند، أستاذة العلوم البيئية والهندسة في جامعة هارفارد إنها «لا تستطيع قول أي شيء إيجابي عنها من المنظور الصحي. إذ تمثل هذه المركبات كابوساً حقيقياً لأنها مرتبطة بعددٍ كبير من التأثيرات الصحية المخيفة». ولكن المشكلة الأبرز في هذه الفاعلات هي أن مصدر ضررها هو نفسه مصدر فاعليتها العالية، أي عدم قابليتها للتفكك، ولهذا السبب يُشار إليها غالباً على أنها «البلاستيك الأبدي». وتقول ساندرلاند إن «هذه الصلابة تبدو رائعة حتى تدخل هذه المادة الكيميائية إلى الجسم البشري أو تستقر في البيئة».
تأثيرات صحية
صحيحٌ أن المواد الكيميائية التي تسبب المشاكل الصحية كثيرة، ولكن يبدو أن الفاعلات بالسطح الفلوري خطيرة بدرجة غير مألوفة نظراً لثقل تأثيرها على الجسم البشري. فقد كشفت ساندرلاند أن خبراء الصحة لاحظوا تأثيرات مرتبطة بهذه الفاعلات على جميع الأعضاء الأساسية في الجسم.
تؤدي الفاعلات بالسطح الفلوري مثلاً إلى اضطراب عملية التمثيل الغذائي وتسبب مشاكل صحية أخرى كالسكري وأمراض القلب والأوعية الدموية والسمنة، وقد تقف عائقاً أمام خسارة الوزن والرضاعة الطبيعية. كما رُبط التعرض للفاعلات بالسطح الفلوري بمرض الغدة الدرقية وتضرر الكبد والكلى وبعض السرطانات. وتنبه ساندرلاند إلى أن هذه المركبات الكيميائية يمكن أن تؤذي الجهاز المناعي وقد تكون عنصراً مساهماً في تزايد أمراض المناعة الذاتية، بالإضافة إلى الربو واضطرابات الحساسية.
تزداد جدية هذه السمية المناعية لدى الأطفال أكثر من البالغين لأن الجهاز المناعي يشهد برمجة مهمة خلال الطفولة خصوصا أن كبت الجهاز المناعي يمكن أن يثبط استجابة الأطفال للقاحات الروتينية أو يزيد هشاشتهم أمام الفيروسات.
مياه ملوثة
ترى ساندرلاند أن الشركات تستمر في استخدام الفاعلات بالسطح الفلوري لأنها فعالة ومربحة رغم أن العديد من الدعاوى القضائية قدمت أدلة تثبت أن هذه الشركات اكتشفت المضار الصحية لهذه المركبات منذ عقود، وحتى قبل أن يبدأ الباحثون الأكاديميون بدراستها.
وتقول الباحثة من جامعة هارفارد إن المياه الملوثة بالفاعلات بالسطح الفلوري هي المصدر الرئيسي لتسربها إلى أجسام الناس الذين يعيشون في مناطق غنية بمصادر هذه المركبات. تتعدد المصادر الكبيرة لهذه الفاعلات وأبرزها المطارات والقواعد العسكرية ومواقع الصناعات الكيميائية والمصانع التي تستخدمها في عملياتها الإنتاجية.
وتلفت ساندرلاند إلى أن «الفاعلات بالسطح الفلوري قد تتسرب إلى البيئة المحيطة كالمياه أو التربة ويمكن أن تتطاير وتنبعث من المداخن إلى الجو وتتخزن في مياه الأمطار لتعود وتنتشر على نطاقٍ واسع في المناطق المحيطة».
في ورقة بحثية نُشرت عام 2020 كشفت مجموعة «إنفايرونمنتل ووركينغ غروب» (مجموعة العمل البيئي) غير الربحية أن ما بين 18 و80 مليون شخص معرضون لشرب مياه ملوثة بنسبة عالية من الفاعلات بالسطح الفلوري تزيد على 10 أجزاء في التريليون، وهي الحد الأقصى للملوثات الذي تعاني منه ولايات أميركية كثيرة. وفي دراسة أخرى، وجد باحثون من المجموعة نفسها أن الفاعلات بالسطح الفلوري رُصدت في 43 من أصل 44 عينة مأخوذة من 31 ولاية بالإضافة إلى العاصمة واشنطن، ووجدوا أن مستويات الفاعلات تتراوح بين جزء واحد و186 جزءا بالتريليون في مناطق مدنية عدة منها ميامي وفيلادلفيا ونيو أورلينز وبوسطن وإحدى ضواحي نيويورك. وكشفت ساندرلاند أن باحثي هارفارد اقترحوا اعتماد الجزء الواحد بالتريليون كحد الأقصى للفاعلات لأنه المستوى الذي قد يسبب السمية المناعية لدى الأطفال.
عندما تدخل هذه المركبات إلى النظام المائي، تجد طريقها إلى المحيط وتلوث الحياة البحرية وما يعيش فيها من أسماك.
تسرب نحو الغذاء
كشفت الهيئة الأوروبية لسلامة الأغذية أن الوكالات التنظيمية الأوروبية رصدت تلوثاً بالفاعلات بالسطح الفلوري في أنواع غذاء عدة أبرزها السمك والفواكه والبيض. ولكن هل يواجه الغذاء في الولايات المتحدة الخطر نفسه؟
تقول إدارة الغذاء والدواء الأميركية إن خطر هذا التلوث منخفض حسب نتائج الاختبارات التي أجريت حتى اليوم. وكانت الإدارة قد رصدت أثراً للفاعلات في عينات سمكية مختلفة كالقد والبلطي، ولكنها جزمت أنه لا يوجد دليل علمي يدعم إصدار توصية للمستهلكين بتجنب تناول أنواع محددة من الأطعمة.
في المقابل، تعتبر ساندرلاند أن وسائل الفحص المعتمدة حالياً قد تكون قاصرة وأن عدد المنتجات التي فحصتها الإدارة قليل، فضلاً عن عدم وضوح آليات اختيار هذه المواد ومصدرها. وتأمل الباحثة وخبراء آخرون أن يُصار إلى توسيع الاختبارات وإجراء تقييمات منهجية لتحديد نسبة تعرض الناس في الولايات المتحدة لهذه المركبات لتكوين صورة أوضح للخطر العام.
التغيير ضروري
لا تُعنى الحكومة الفيدرالية في الولايات المتحدة اليوم بتنظيم مستويات الفاعلات بالسطح الفلوري في مياه الشرب. وفي ظل غياب القوانين الفيدرالية المرتبطة بهذه الفاعلات، سعت بعض الولايات على المستوى الفردي إلى فرض قوانينها الخاصة للسيطرة على هذه المركبات. ففي يوليو (تموز) 2021 عمدت ولاية مَيْن إلى تبني إجراء طوارئ يحظر استخدام الفاعلات بالسطح الفلوري في جميع المنتجات المبيعة فيها بحلول 2030 مع استثناءات قليلة. وتبنت ولايات أخرى أيضاً ضوابط محدودة، كماساتشوستس مثلاً التي وضعت في أكتوبر 2020 سقفاً للكمية المستخدمة من ستة أنواعٍ مختلفة من الفاعلات التي رُصدت في مياه الشرب. يتلخص الوضع حالياً فيما يلي: عندما تعمد إحدى الولايات إلى مراقبة مادة كيميائية مريبة، تتحايل الشركات وتستخدم مادة أخرى من نفس النوع قد تؤدي إلى المخاطر الصحية نفسها ولكن دون أن نعلم. وتنبه ساندرلاند إلى أن الاعتماد على مركبات جديدة يصعب عمل العلماء في رصدها في المنتجات لأنهم ببساطة لا يعلمون عن ماذا يبحثون.
خطوات تقليل المخاطر
بانتظار عثور الجهات التنظيمية على الحلول الفعالة لهذه المشكلة، توجد بعض التغييرات التي يمكن للأفراد إدخالها على أسلوب حياتهم لحماية أنفسهم. وتقول ساندرلاند: «أحاولُ أن أقلل تعرضي لهذه المركبات من خلال تغييرات طفيفة قد تكون فعالة».
إليكم فيما يلي بعض الخطوات التي يمكنكم تطبيقها:
- تصفية مياه الشرب: قد لا يستطيع الجميع تحمل تكلفة شراء مرشحٍ للمياه، ولكن أبسط هذه الأدوات وأقلها تكلفة يعطي نتائج مذهلة في تنظيف مياه الشرب من الفاعلات بالسطح الفلوري. لذا لا تترددوا في تصفية مياهكم إذا استطعتم.
- تقبل القليل من الفوضى: تُستخدم هذه المركبات بكثرة في منتجات حماية السجاد والأثاث، لذا من الأفضل تفاديها. حاولوا قدر الإمكان إبعاد أثاثكم وسجادكم عن هذه المواد ولو اضطررتم إلى تقبل وجود بعض البقع لأن صحتكم أهم على المدى البعيد.
- تنظيف الغبار وشفطه بانتظام: إذا كنتم تملكون منتجات كأثاث وأقمشة أو سجاد تحتوي على الفاعلات بالسطح الفلوري في المنزل، فيمكن للغبار الذي يتطاير منها أن يعرضكم لاستنشاق هذه المركبات. لهذا السبب يجب أن تواظبوا على تنظيف وشفط الغبار لأنه يساعدكم في تقليص هذه الملوثات.
- البحث عن منتجات أكثر أماناً: يعمد الكثير من الصناعيين اليوم إلى الترويج لمنتجات خالية من هذه المركبات في إعلاناتهم نزولاً عند رغبة المستهلكين. عند تبضع منتجات تحتوي غالباً على الفاعلات بالسطح الفوري كمعدات التخييم ومواد التنظيف ومنتجات العناية الشخصية، ابحثوا عن تلك الخالية من هذه المركبات الخطرة منها. تقدم مجموعة «إنفايرونمنتل ووركينغ غروب» أدوات على موقعها الإلكتروني لمساعدة المستهلكين على الاطلاع على المواد الكيميائية المستخدمة في الكثير من منتجات العناية الشخصية واختيار المناسب والصحي منها.
- تخفيف الاستهلاك: يساهم تقليل عدد المنتجات التي تستخدمونها، ولا سيما مستحضرات التجميل، في تخفيف تعرضكم لهذه المركبات. حددوا المنتجات الأكثر أهمية وتوقفوا عن استخدام الأخرى الثانوية.
- اختيار الأطعمة الطبيعية القليلة التغليف: تحتوي أجسام الأشخاص الذين يستهلكون كميات كبيرة من الأطعمة الصناعية والمأكولات السريعة على نسبٍ مرتفعة من الفاعلات بالسطح الفوري، بحسب ساندرلاند. تحتوي الأغلفة والعلب غالباً على هذه المركبات، لذا فإن اختيار سلعٍ غير معلبة وطبيعية غير صناعية يمكن أن يساعد. على سبيل المثال، يمكنكم استبدال أكياس الفشار الورقية المخصصة للميكروويف بواسطة حبوب الذرة الكاملة وطهيها في مقلاة.


مقالات ذات صلة

صمم موقعك ثلاثي الأبعاد بخطوات بسيطة ودون «كود»

تكنولوجيا تمكنك «دورا» من تصميم مواقع ثلاثية الأبعاد مذهلة بسهولة تامة باستخدام الذكاء الاصطناعي دون الحاجة لأي معرفة برمجية (دورا)

صمم موقعك ثلاثي الأبعاد بخطوات بسيطة ودون «كود»

تتيح «دورا» للمستخدمين إنشاء مواقع مخصصة باستخدام الذكاء الاصطناعي عبر إدخال وصف نصي بسيط.

عبد العزيز الرشيد (الرياض)
خاص يحول الذكاء الاصطناعي الطابعات من مجرد خدمة بسيطة إلى أداة أكثر ذكاءً واستجابة لحاجات المستخدمين (أدوبي)

خاص كيف يجعل الذكاء الاصطناعي الطابعات أكثر ذكاءً؟

تلتقي «الشرق الأوسط» الرئيسة العامة ومديرة قسم الطباعة المنزلية في شركة «إتش بي» (HP) لفهم تأثير الذكاء الاصطناعي على عمل الطابعات ومستقبلها.

نسيم رمضان (بالو ألتو - كاليفورنيا)
تكنولوجيا «Google Vids» هي أداة بسيطة لإنشاء فيديوهات احترافية تدعم العمل الجماعي والذكاء الاصطناعي لإعداد المخططات وإضافة الصور تلقائياً (غوغل)

«غوغل» تكشف عن خدمة جديدة لإنتاج الفيديوهات للمؤسسات

تستهدف هذه الخدمة الشركات التي تتطلع إلى إنتاج محتوى مرئي احترافي بكفاءة وسرعة دون الحاجة للخبرة الفنية العميقة.

عبد العزيز الرشيد (الرياض)
تكنولوجيا تتيح «فينغيج» قوالب وأدوات تخصيص سهلة بينما تستخدم «نابكن إيه آي» الذكاء الاصطناعي لتحويل النصوص إلى تصميمات جذابة (فينغيج)

أدوات مميزة لتحويل أفكارك إلى تصميمات مرئية جذابة

تخيل أن بإمكانك تصميم إنفوغرافيك أو تقرير جذاب بسهولة!

عبد العزيز الرشيد (الرياض)
خاص يتطلب «واي فاي 7» بنية تحتية متقدمة ودعماً لمعدلات بيانات أعلى (أدوبي)

خاص كيف يدعم «واي فاي 7» التحول الرقمي وشبكات القطاعات الحيوية؟

يعزز «واي فاي 7» الاتصال عالي السرعة ويدعم التحول الرقمي في القطاعات الحيوية مع تحسين الأمان وكفاءة استهلاك الطاقة لتحقيق الاستدامة.

نسيم رمضان (دبي)

نشاط الجهاز العصبي الودّي الزائد مع وجود السمنة... من أسباب الإصابة بالسكري

نشاط الجهاز العصبي الزائد يلعب دوراً في حدوث الأمراض الأيضية
نشاط الجهاز العصبي الزائد يلعب دوراً في حدوث الأمراض الأيضية
TT

نشاط الجهاز العصبي الودّي الزائد مع وجود السمنة... من أسباب الإصابة بالسكري

نشاط الجهاز العصبي الزائد يلعب دوراً في حدوث الأمراض الأيضية
نشاط الجهاز العصبي الزائد يلعب دوراً في حدوث الأمراض الأيضية

تستكشف دراسة حديثة لباحثين أميركيين العلاقة بين الإفراط في التغذية ونشاط الجهاز العصبي اللاإرادي (الودّي، أو السمبثاوي)، وبين حدوث «مقاومة الإنسولين». وتشير إلى أن النشاط المفرط للجهاز العصبي الودي يلعب دوراً حاسماً في تطور الاضطرابات الأيضية مثل مرض السكري من النوع الثاني.

وقد تكون لهذا الاكتشاف آثار بعيدة المدى في الوقاية والعلاج من مرض السكري من النوع الثاني، مما يستدعي مزيداً من البحث لفهم الآليات المعقدة التي تلعب دوراً في هذه العمليات.

عامل آخر لـ«مقاومة الإنسولين»

وفي حين يُنظر، تقليدياً، إلى «ضعف إشارات الإنسولين» على أنه السبب الرئيسي في حالة «مقاومة الإنسولين»، فإن هذه الدراسة تشير إلى أن «زيادة نشاط الجهاز العصبي الودي» (وهو أحد أقسام الجهاز العصبي اللاإرادي) يمكن أن تكون عاملاً أكثر أهمية، خصوصاً مع وجود السمنة.

لذا؛ فإن ما يحدث، وفق الدراسة، هو أن النظام الغذائي عالي الدهون يطلق دفقات من النواقل العصبية في جميع أنحاء الجسم، مما يسفر عن الانحلال السريع للنسيج الدهني الموجود في الكبد. وهذا بدوره يقود إلى تحرير نسب عالية من الأحماض الدهنية التي يزداد تركيزها في الدم، ويتسبب في مجموعة من الحالات المرضية تتنوع بين الإصابة بداء السكري والفشل الكبدي.

ونشر الباحثون، برئاسة كريستوف بويتنر، من قسم الغدد الصماء والتمثيل الغذائي والتغذية في «كلية روبرت وود جونسون الطبية» بجامعة روتجرز في نيوجيرسي بالولايات المتحدة الأميركية، دراستهم في مجلة «Cell Metabolism» يوم 21 أكتوبر (تشرين الأول) 2024، بعد أن حققوا في التقارير المتضاربة حول نشاط الجهاز العصبي الودي (السمبثاوي) مع وجود السمنة.

وينظم هذا الجهاز العمليات اللاإرادية، فهو يعدّ الجسم للأنشطة المرتبطة بالتوتر وإبطاء العمليات الجسدية الأقل أهمية في حالات الطوارئ، مثل الهضم، ولا تخضع هذه العمليات لسيطرة واعية مباشرة؛ بل تحدث تلقائياً ودون تفكير واع.

فرط التغذية ونشاط الجهاز العصبي الودي

من المعروف أن الإفراط في التغذية يزيد بسرعة من مستويات الـ«نورإبينفرين (NE) norepinephrine» في البلازما، المعروف أيضاً باسم الـ«نورأدرينالين noradrenaline (NA)»، وهو ناقل عصبي وهرمون في الوقت نفسه. وبصفته ناقلاً عصبياً، فهو يساعد في نقل الإشارات العصبية عبر النهايات العصبية، ولأنه هرمون فإنه يطلَق بواسطة الغدد الكظرية التي تقع أعلى كل كلية. وذلك مما يشير إلى فرط نشاط الجهاز العصبي الودي، وغالباً ما تشير الأساليب التي تقيس نشاط الجهاز العصبي الودي بشكل مباشر إلى زيادة نشاطه في حالات السمنة.

وفي المقابل تشير الدراسات التي تركز على مسارات الإشارات الأدرينالية أحياناً إلى انخفاض استجابات الـ«كاتيكولامين (Catecholamines)»، الذي يفسَّر على أنه انخفاض في نشاط الجهاز العصبي الودي. والـ«كاتيكولامين» نواقل عصبية للجهاز العصبي الودي، وتتوسط في رد الفعل بين «المجابهة والهروب» بالمواقف العصيبة. ومن أمثلة الاستجابات الودية، تسارع ضربات القلب، وارتفاع ضغط الدم، وتوسع القصبات الهوائية، واتساع حدقة العين، والتعرق، والرعشة. كما تعدّ الـ«كاتيكولامينات» نواقل عصبية بارزة في مناطق معينة من الدماغ، وعادة ما ترتبط بالمتعة والإثارة والحركة. ومن أبرز الـ«كاتيكولامينات» الطبيعية الدوبامين والأدرينالين.

نتائج دراسات الفئران

واستخدم الباحثون، إضافة إلى الفئران البرية، مجموعة فئران معدّلة وراثياً؛ وذلك لعزل نشاط «الجهاز العصبي الودي المحيطي» عن تأثيرات «الجهاز العصبي المركزي». وسمح هذا النموذج بدراسة نشاط «الجهاز العصبي الودي المحيطي» المعزول دون التأثير على وظائف الـ«نورإبينفرين» المركزية. وغُذّيت الفئران المعدلة ورفاقها من النوع البري إما على نظام غذائي عادي، وإما على نظام غذائي عالي الدهون، لمدد زمنية مختلفة؛ لمحاكاة الإفراط في التغذية على المديين القصير والطويل.

الإفراط في التغذية على المدى القصير

- الفئران البرية: في الدراسة التي تناولت الإفراط في التغذية على المدى القصير، أظهرت الفئران البرية التي تغذت بنظام غذائي عالي الدهون لمدة تراوحت بين 3 و10 أيام، زيادة في دهون الجسم، وضعفاً في تحمل الغلوكوز، وفي حساسية الإنسولين، مقارنة بالفئران التي تغذت على العلف العادي. ورغم مستويات الإنسولين المرتفعة، فإن مستويات الغلوكوز في الدم كانت أعلى خلال الصيام والتغذية، مما يشير إلى حدوث «مقاومة الإنسولين» رغم سلامة «مسارات إشارات الإنسولين».

كذلك أظهرت تلك الفئران مستويات مرتفعة من الـ«نورإبينفرين» في البلازما، مما يدل على زيادة نشاط الجهاز العصبي الودي. كما كان هناك ضعف في قدرة الإنسولين على قمع تنشيط الـ«ليباز lipase (الإنزيمات التي تحفز تحلل الدهون)» الحساس للهرمون في الأنسجة الدهنية البيضاء، مما أدى إلى زيادة تحلل الدهون وارتفاع مستويات الجلسرين في البلازما.

- الفئران المعدلة وراثياً: في المقابل، كانت الفئران المعدلة التي تغذت بنظام غذائي عالي الدهون لمدة تصل إلى 14 يوماً محمية من حالات عدم تحمل الغلوكوز و«مقاومة الإنسولين» التي لوحظت لدى الفئران البرية، فقد حافظت على مستويات الغلوكوز الطبيعية خلال الصيام، وأظهرت تحسناً في اختبارات تحمل الغلوكوز. وهذا يشير إلى أن تقليل نشاط الجهاز العصبي الودي قد يسهم في تحسين الحساسية للإنسولين والوقاية من الآثار السلبية للإفراط في التغذية.

الإفراط في التغذية على المدى الطويل

- الفئران البرية: أظهرت الفئران البرية التي تغذت بنظام غذائي عالي الدهون لمدة 12 أسبوعاً مقاومة للـ«كاتيكولامين»، وكان نشاط الجهاز العصبي الودي مرتفعاً بعد 16 أسبوعاً من التغذية بهذا النظام. وبعد ما بين 10 أسابيع و12 أسبوعاً أظهرت الفئران عدم تحمل الغلوكوز ومستويات مرتفعة من الـ«نورإبينفرين» و«الأدرينالين» والـ«غلوكاجون (glucagon)»، مما يشير إلى زيادة تنشيط الآليات التي تعارض عمل الإنسولين. والـ«غلوكاجون» هرمون ينتَج في البنكرياس.

واتسمت الفئران البرية التي أُطعمت بنظام غذائي عالي الدهون بانخفاض التعبير عن الإنزيمات الدهنية في الأنسجة الدهنية البيضاء، وزيادة حجم الخلايا الدهنية، وارتفاع علامات الالتهاب والتليف والشيخوخة.

- الفئران المعدلة وراثياً: حُميت من تطوير «مقاومة الـ(كاتيكولامين)»، فقد كانت لديها مستويات أقل من الـ«نورإبينفرين» في البلازما بعد التغذية بنظام غذائي عالي الدهون. ورغم زيادة الوزن، فإنها حافظت على حساسية الإنسولين، وأظهرت مستويات أقل من الـ«نورإبينفرين» والـ«أدرينالين» والـ«غلوكاجون»، مما يشير إلى نشاط منخفض للجهاز العصبي الودي. وبذلك تكون الفئران المعدلة قد حافظت على تعبير أعلى عن الإنزيمات الدهنية في الأنسجة الدهنية البيضاء، وبقي حجم الخلايا الدهنية أصغر، مع علامات أقل على الالتهاب والتليف.

وهكذا يبدو من هذه الدراسة أن «فرط نشاط الجهاز العصبي الودي» هو المحرك الأساسي لـ«مقاومة الإنسولين» الناجمة عن السمنة، وليس «ضعف إشارات الإنسولين الخلوية» كما كان يُعتقد.