مات دامون لـ «الشرق الأوسط»: صوّرنا «المبارزة الأخيرة» في ظروف صعبة

يفتح ملف فيلمه الجديد في لقائه الثاني مع بن أفلك والأول مع ريدلي سكوت

مات دامون
مات دامون
TT

مات دامون لـ «الشرق الأوسط»: صوّرنا «المبارزة الأخيرة» في ظروف صعبة

مات دامون
مات دامون

عندما انعقد مهرجان فنيسيا الشهر الماضي كان «المبارزة الأخيرة» أحد أكثر الأفلام ترقّباً بين الحاضرين. الانتظار كان طويلاً لدى البعض كونه عُرض في اليوم السابق لانتهاء دورة هذا العام التي بدأت في اليوم الأول من الشهر وانتهت في الحادي عشر منه. لكنه كان مبرّراً لأكثر من سبب:
في مطلع هذه الأسباب حقيقة أنه فيلم معارك في زمن تاريخي غابر مصنوع بالحرفة الهوليوودية وبخبرة المخرج ريدلي سكوت الذي أمّ أفلام التاريخ أكثر من مرّة، أولها عبر فيلم «المتبارزان» الذي عرضه مهرجان فنيسيا في دورة 1977 وآخرها «نزوح: آلهات وملوك Exodus‪:‬ Gods and Kings» سنة 2014.
بين الدفتين أفلام أخرى مثل «غلادياتور» (2000) و«مملكة السماء» (2005) و«روبن هود» (2010).
سبب آخر هو أن الفيلم فيه ممثلان انتظر العارفون زمناً طويلاً قبل أن يلتقيا في فيلم جديد هما مات دامون وبن أفلك.
كانا قد كتبا سيناريو «غود ول هنتينغ» الذي أخرجه غس فان سانت عام 1997 وقاما ببطولته كذلك مع الراحل روبن ويليامز. في العام التالي، خرجا بأوسكار أفضل سيناريو كُتب خصيصاً للسينما عن هذا الفيلم.
من حينها ترقّب المتابعون لقاء جديداً بين الصديقين أفلك ودامون. هذا الناقد من بين كثيرين سألوهما، في مناسبات سابقة وكلاً على حدة، إذا ما كانا سيقومان بالتمثيل في فيلم جديد آخر. جواب دامون، قبل نحو عشرة أعوام، كان: «نكتب شيئاً لهذه الغاية لكن كل منا مشغول بمشاريعه المختلفة. سيمر بعض الوقت قبل أن ننتهي من كتابة سيناريو مشترك».
الحال أنهما أنجزا كتابة هذا السيناريو في عام 2017 (بعد ثلاث سنوات من بدء العمل عليه) وبعد عامين (أي سنة 2019) تم الإعلان عنه وفي مطلع 2020 بوشر بتصويره. وبسبب «كورونا» من ناحية ولضخامة المشروع ومتطلباته من ناحية أخرى استمر العمل عليه حتى السادس والعشرين من شهر يوليو (تموز) هذا العام.
يعرض الفيلم حكاية صراع بين فرسان القرن الرابع عشر انطلاقاً من نزاع بين صديقين سابقين هما جان دو كاروجيز (مات دامون) وجاك لو غريز (أدام درايفر) يسعى الكونت بيير (بن أفلك) لدفعهما لمبارزة بينهما بعدما تم اتهام جاك بالاعتداء الجنسي على زوجته مرغريت (جودي كومر). الجميع لا يريد الإصغاء لندائها والوحيد الذي يصدّقها هو جان دو كاروجيز الذي سيواجه جاك في مبارزة أخيرة (واحد من عدة مشاهد قتال تقع في رحى الفيلم).
ما بين العرض الصحافي الباكر لفيلم «المبارزة الأخيرة» العرض المسائي المخصص للمدعوّين ببطاقات حضور، تمّت ثلاث مقابلات منفصلة بين أعضاء من «جمعية مراسلي هوليوود»، التي أنتمي إليها، وبين مات دامون وبن أفلك والمخرج ريدلي سكوت (مقابلتا بن أفلك وسكوت لاحقاً).
مات دامون كان الأول في التعداد. الكمامة التي وضعها (كما الجميع) طوال الوقت جعلت التركيز ينصبّ على العينين. وهو يملك بالفعل عينين معبّرتين تنظران بعيداً في بعض الأحيان لكنهما تعودان سريعاً لمواجهة المتحدّث.
الجزيرة التي انتقلنا إليها في مقاطعة فنيسيا هي ذاتها التي كثيراً ما انتقلنا إليها كلما سنحت الفرصة لإجراء مقابلة مع أحد السينمائيين. تبعد عن جزيرة ليدو، التي يُقام المهرجان فوقها، بربع ساعة عبر اليخت السريع. هناك فندق من خمسة نجوم ولا شيء آخر في الجوار. مكان مثالي لمقابلات تُجرى بعيداً عن الأعين والزحام.

لقاءات
> هذه هي مقابلتنا الأولى وراء الكمامات. ما شعورك حول ذلك؟
- يُجيب مازحاً: «ما شعورك أنت؟».
> أشعر بأني على أهبة سرقة بنك.
- (يضحك) أفهم ما تقول. شعوري بأنه واقع علينا أن نعيشه لبعض الوقت. ظرف قاسٍ بلا شك لكننا تعوّدنا عليه ولا بد أن يزول.
> سمعت أن ابنتك هي التي اصطحبتك إلى المهرجان...
- (مقاطعاً): لا... هي باقية في الغرفة صحيح لأنها تشعر ببعض السخونة لا أكثر من ذلك.
> هل وصلت من أستراليا مباشرةً إلى هنا؟
- لا. أنا والعائلة مكثنا بضع شهور في القسم الشمالي من أستراليا بانتظار أن يخف الوباء لكننا عدنا إلى الولايات المتحدة ثم سافرت إلى فرنسا لحضور مهرجان «كان» والآن نحن هنا.
> إذن، أخيراً تم ذلك اللقاء الكبير الثاني بينك وبين بن أفلك. كيف تم العمل على السيناريو بينكما؟ هل التقيتما كثيراً؟
- التقينا عدّة مرات، نعم. لكننا لم نجلس ونكتب السيناريو معاً. في المرّة الأولى بحثنا الفكرة. هي مستوحاة من كتاب لإريك جاغر، وبن كان متحمساً لها بشدّة. تطرّقنا إليها مليّاً في ثلاث جلسات قبل قرابة ثماني سنوات ثم وضع كل منا تصوّراته ومعالجته وتراسلنا. ثم قمنا بكتابة السيناريو على هذا النحو لكننا التقينا عدة مرّات قبل وعندما اقترب المشروع من التنفيذ.
> هل كان واضحاً لديكما، ومنذ ذلك الحين، أنه الفيلم الذي سيجمعكما معاً؟
- نعم. وكلانا قام بمهمة الإنتاج مع آخرين طبعاً. لكن المتفاهَم عليه منذ البداية أنه سيكون عملنا المشترك.
> وهو الأول لك تحت إدارة المخرج ريدلي سكوت؟
- نعم. أفكر أحياناً أنه كان علينا العمل معاً قبل هذا الحين. إنه نابغة.
> ما الذي أخّر لقاءك مع بن أفلك من جديد منذ سنة 1997 إلى الآن؟
- غالباً مشاغل كل منّا الخاصّة والمهنية. بن توجّه إلى الإخراج وفي اعتقادي أنه حقق رغبته في الإخراج على أكمل وجه ممكن. هل شاهدت The Town؟ إنه فيلم ممتاز. أيضاً هناك حقيقة أننا لم نهتدِ إلى مشروع نموذجي وجيد لنا. تداولنا عبر السنين بعض الأفكار وكان الصحافيون يسألوننا في كل مناسبة إذا ما كان هناك شيء نطبخه معاً. لكن لم يكن هناك أي شيء بل النيّة.
حول المرأة
> أريد أن أبقى قليلاً في هذا الموضوع... موضوع السيناريو. ما الذي اختلف في عملية الكتابة لفيلم «المبارزة الأخيرة» عن فيلم «غود ول هنتينغ»؟
- آه... الكثير. حينها كنا بلا خبرة. كنا في مطلع السنوات العشر الثانية من عمرينا وبلا فكرة عن كيف يمكن الخروج بالعمل من الفكرة إلى الواقع. طريقة كتابتنا لسيناريو «غود ول هنتينغ» لم تكن فاعلة. فهمنا الشخصيات ولكننا لم نفهم عملية البناء. كنا نعرف ما نريد من شخصيات المشروع لكن كيف لنا أن نطوّر الفكرة في بناء جيد. لذلك انتهينا إلى كتابة آلاف الصفحات التي رميناها إلى أن نجحنا في النهاية.
> الفيلم الجديد يحمل ثلاثة أقسام، تظهر وبن في القسمين الأوّلين أساساً.
- هذه كانت الفكرة منذ البداية. الفيلم مقسم لثلاثة أقسام والقسمان الأولان لنا. الثالث لجودي كومر وهارييت وولتر وهما تظهران في مشاهد محدودة في القسمين الأول والثاني لكن حكايتهما تأخذ مداها في القسم الثالث.
> حال دخولهما الفيلم في ذلك الفصل نجدهما تترجمان حالة من التمرّد على وضع قائم ربما له علاقة بوضع المرأة في ذلك الحين.
- صحيح. المرأة في ذلك الزمن الذي تدور فيه الأحداث لم تكن أكثر من حضور بعيد عن الواجهة. إذا لم تكن ملكة فإنها جزء من الأثاث. قليلاً ما تم النظر إليها كإنسانة. هذا هو وضع مرغريت في الفيلم. لا أحد يودّ النظر إلى دعواها بأن زوجها اغتصبها كونه زوجها أولاً وكونها امرأة ثانياً.
> ما يجعل الفيلم محط انتظار الجمهور هو أنكما -بن وأنت- معاً من جديد. لكني أعتقد أن المسألة تختلف بالنسبة إليكما. الممثل لا ينتظر خروج فيلم ليعرف رأي الناس في الممثل الذي يشاركه البطولة.
- (يضحك): طبعاً لا. هناك ارتياح كبير في الحقيقة لإنجازنا هذا الفيلم. لم أمرّ، ولا أعتقد أن (المخرج) ريدلي أو بن مرّا بهذه التجربة من قبل. في شهر فبراير (شباط) توجهنا جميعاً إلى فرنسا حيث سيقع التصوير. هذا حدث في العام الماضي وبعد شهر من وصولنا وقبل بدء التصوير فعلياً بأيام صدر القرار بأن نتوقف عن العمل بسبب «كورونا». لم يكن هناك خيار آخر سوى إغلاق المشروع. صوّرنا «المبارزة الأخيرة» في ظروف صعبة لكني أعتقد أن النتيجة مبهرة.
> قرأت حينها أن عائلتك كانت معك. كيف تصرفتم حينها؟ هل عدتم إلى أميركا؟
- نعم كانت معي زوجتي والأولاد (أربعة) وبحثنا الوضع في جلسة طويلة. فكّرنا بالعودة إلى أميركا وفكّرنا في البقاء في فرنسا لكن الخيار الأفضل كان متوفراً لأن الإنتاج كان قد استأجر منزلاً كبيراً ومنزوياً في بلدة دالكي (آيرلندا). حوّلنا الفترة إلى منتجع. كنا نؤمّ البحر ونسبح ونقوم بالسير في الطبيعة المحيطة بنا. كانت عطلة غير متوقّعة ثم بدأنا التصوير من جديد بعد ثلاثة أشهر.

بحث لا بد منه
> متى صوّرت مشاهد المعارك إذن؟ مباشرةً بعد العودة من آيرلندا؟
- معظمها تم تصويره في شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2020. كان ذلك مدعاة لكثير من الطرافة، ففي الثامن من ذلك الشهر وقع عيد ميلادي الخمسون (مولود سنة 1970) وكنت أصوّر المشاهد التي أقتل فيها تسعة فرسان. فكّرت في أنها أفضل وسيلة لاجتياز أزمة منتصف العمر (يضحك).
> هل تم تصوير «ستيلووتر» بعد الانتهاء من «المبارزة الأخيرة»؟
- لا. على العكس. صوّرنا «ستيلووتر» ثم مباشرة بدأنا العمل على «المبارزة الأخيرة».
> في الوهلة الأولى يعتقد المرء أن دورك في «ستيلووتر» لا يتطلب من ممثل خبير مثلك أي تحضير. لكنك حضّرت له فعلاً. لماذا؟
- شخصية «بل» التي لعبتها فرضت ذلك وهذا لأني شخصية مختلفة كثيراً عن تلك التي مثّلتها. في الفيلم، ولا بد أنك شاهدته، (هززت برأسي إيجاباً) أظهر في دور رجل من عامّة الولايات الوسطى في أميركا. هم مختلفون عمّن يعيش في المدن الكبيرة لعدة أسباب وأعتقد أن هذا موجود في كل مكان. في فرنسا ذاتها (حيث دارت حكاية «ستيلووتر»). كان لا بد لي أن أدرس تفكيره ومفاهيمه وتصرّفاته. لا ينفعني أن أدخل الشخصية مجتهداً، كان عليّ أن أعرف أكثر قبل أن ألتزم.
> هي شخصية جديدة بالفعل عليك. وسياسياً تنتقد أميركا - ترمب وبعض أوجه الحياة الفرنسية. هل توافق؟
- نعم لكن الفيلم ليس مبنياً على هذا النقد. كان لا بد من خلق شخصية من النوع الذي يصوّت لترمب لأنه يبدو له الخيار الصحيح. شخصية «بل» ليست عنصرية ولا متزمّتة، بل شخصية رجل لم يفكّر كثيراً في السياسة بل قَبِل بها كما هي. في الجانب الفرنسي رأيناه يتأقلم بعض الشيء. يتعلّم أشياء جديدة، لكن هدفه الوحيد كان إخراج ابنته من السجن.
> حضرتَ عرض «ستيلووتر» في مهرجان «كان»، ثم أنت هنا تحضر عرض «المبارزة الأخيرة» وعدد من أفلامك السابقة عُرضت في عدة مهرجانات بما فيها هذا المهرجان سنة 2017 بفيلم «داونسايزينغ» (Downsizing). هل تشكّل لك المهرجانات أهمية خاصّة؟
- نعم لا بد من ذلك. تعلم أن هذه الأفلام لا تتشابه مع أفلام ترفيهية أقوم بتمثيلها من حين لآخر مثل Thor و«فورد ضد فيراري». هي تحتاج مني ومن الممثلين ومن المخرج وشركات الإنتاج إلى هذا الجهد المشترك لمنح الفيلم الوجود الصحيح في هذه المهرجانات.
> هل تُتاح لك الفرصة لمشاهدة أفلام الغير المعروضة في المهرجانات؟
- أحياناً ما يدفعني الفضول إلى ذلك، لكنّ هذا لا يتكرر كثيراً لأن عدد الأيام التي يقضيها الممثل في أي مهرجان لا يزيد على ثلاثة أو أربعة أيام. ربما تستطيع خلالها مشاهدة فيلم واحد.


مقالات ذات صلة

فيصل الأحمري لـ«الشرق الأوسط»: لا أضع لنفسي قيوداً

يوميات الشرق فيصل الأحمري يرى أن التمثيل في السينما أكثر صعوبة من المنصات (الشرق الأوسط)

فيصل الأحمري لـ«الشرق الأوسط»: لا أضع لنفسي قيوداً

أكد الممثل السعودي فيصل الأحمري أنه لا يضع لنفسه قيوداً في الأدوار التي يسعى لتقديمها.

أحمد عدلي (القاهرة)
يوميات الشرق يتيح الفرصة لتبادل الأفكار وإجراء حواراتٍ مُلهمة تتناول حاضر ومستقبل صناعة السينما العربية والأفريقية والآسيوية والعالمية (واس)

«البحر الأحمر السينمائي» يربط 142 عارضاً بصناع الأفلام حول العالم

يربط مهرجان البحر الأحمر 142 عارضاً من 32 دولة هذا العام بصناع الأفلام حول العالم عبر برنامج «سوق البحر الأحمر» مقدماً مجموعة استثنائية من الأنشطة.

لقطة من فيلم «عيد الميلاد» (أ.ب)

فيلم «لاف أكتشلي» من أجواء عيد الميلاد أول عمل لريتشارد كيرتس

بعد عقدين على النجاح العالمي الذي حققه الفيلم الكوميدي الرومانسي «لاف أكتشلي» المتمحور حول عيد الميلاد، يحاول المخرج البريطاني ريتشارد كورتس تكرار هذا الإنجاز.

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)

أغنييشكا هولاند: لا أُجمّل الأحداث ولا أكذب

عد أكثر من سنة على عرضه في مهرجاني «ڤينيسيا» و«تورونتو»، وصل فيلم المخرجة البولندية أغنييشكا هولاند «حدود خضراء» إلى عروض خاصّة في متحف (MoMA) في نيويورك.

محمد رُضا (نيويورك)
يوميات الشرق من كواليس فيلم «المستريحة» (إنستغرام ليلى علوي)

أفلام مصرية جديدة تراهن على موسم «رأس السنة»

تُراهن أفلام مصرية جديدة على موسم «رأس السنة»، من خلال بدء طرحها في دور العرض قبيل نهاية العام الحالي (2024)، وأبرزها «الهنا اللي أنا فيه»، و«الحريفة 2».

داليا ماهر (القاهرة)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».