وليد الصراف: قصائد الغزل تخرج من الحزن العراقي كوردة من خراب

قال إن اللغة الفصحى حين تحضر قاعة الشعر تشطب على جميع الهويات الأخرى

الشاعر العراقي وليد الصراف
الشاعر العراقي وليد الصراف
TT

وليد الصراف: قصائد الغزل تخرج من الحزن العراقي كوردة من خراب

الشاعر العراقي وليد الصراف
الشاعر العراقي وليد الصراف

يشارك الشاعر العراقي د. وليد الصراف، في الأمسيات الشعرية التي يحفل بها برنامج معرض الرياض الدولي للكتاب. وهو أحد المبدعين الذين جمعوا بين الشعر والقصة والرواية والمقالة. والصراف من مواليد الموصل (1964)، وله مجموعة من الدواوين الشعرية والأعمال الروائية والقصصية، من بينها «رسالة من قابيل» (شعر)، و«قصص للنسيان» (مجموعة قصصية)، وغيرهما.
التقينا بالشاعر وليد الصراف، على هامش مشاركته في معرض الرياض الدولي للكتاب، وكان الحوار التالي:

> كيف وجدت احتفاء الجمهور السعودي بالحضور العراقي... في معرض الرياض الدولي للكتاب؟
- حضور رائع كان فيه نخبة من الشعراء والنقاد والممثلين والموسيقيين. وجدنا الترحيب من الجميع بدءاً من القائمين على المعرض انتهاء بأبسط الناس. أقول لهذا الجمهور: أنتم اطيب الناس وأنبلهم وأصدقهم عروبة، وقد أخجلنا كرمكم وحفاوتكم.
> كيف وجدت استجابة الجمهور للشعر خصوصاً؟
- حين تحضر اللغة الفصحى قاعةَ الشعر؛ فإنها تشطب على جميع الهويات الأخرى، فلا عراقي ولا سعودي ولا شامي ولا مغربي. وحين تقول «قفا نبكِ» فإنك توّحد الجالسين في القاعة، وتجعل منهم كائناً واحداً عمره أربعة عشر قرناً، له خصوصيته في الحنين، ونسبة ملوحة دمعته، وطريقة انفعاله. يأتي الشاعر ليقود هذا الجمهور إلى منطقة سامية من الشعور الإنساني.

القصيدة سمكة

> أصدرت عدداً من الدواوين، وكتبت في مختلف الأجناس الشعرية، لكنك تقول إنك متمسك بالعَروض الخليلي وإنك «لا تعرف وجوداً للقصيدة خارج العروض، فالقصيدة سمكة إذا خرجت من البحر الشعري ماتت»... ألا يعد هذا الرأي تقييداً لحركة الشاعر في قوالب محددة؟
- العَروض ليس قالباً، إنه جناحان. انثر شعر المتنبي، انثر شعر القباني، ماذا يتبقى منه؟ بالوزن تطير هذه المعاني وتحلّق، وتحط في القلوب، وتبني أعشاشها في الذاكرة. وعندما أقول العروض فإنني أعني شعر التفعيلة أيضاً، وغالباً ما قلت إن السياب ضرب عصاه فانشق البحر السابع عشر الذي أعني به قصيدة التفعيلة. الماغوط استطاع أن يصطاد غزالة الشعر من منطقة خارج حدود الخليل، ولكننا لا يمكن أن نحل الماغوط محل الخليل، فالقاعدة هي الوزن. وإذا كان لكل قاعدة شواذ، فإنك لا يمكن أن تضع الشواذ محل القاعدة، فتشطب على الوزن وتشيع النثر. نعم كان الماغوط استثناء من القاعدة، ولكننا لا نستطيع أن نحل هذا الاستثناء محل القاعدة. لا نستطيع أن نشطب على القانون ونشيع اللاقانون فيدخل الآلاف ممن آذانهم لا تعي الوزن ليصبحوا شعراء.
> ماذا تعني لك الحداثة الشعرية؟ فأنت تقول إن «التجديـد يجــب ألا يكون شغلنا الشـاغل والأهـم هـو التـأثير والتوصـيل»...
- لعلك ذهبت إلى موضع لم يذهب إليه قصدي، أنا متطرف للتجديد ولكن التجديد لا يستطيعه إلا من أتقن القديم إلى حد الملل، خذ أبا نواس؛ إنه يتمرد على الأطلال ويسخر منها وهو أثبت الواقفين على الأطلال وأغزرهم دموعاً، اقرأ قصيدته «يا دار ما فعلت بك الأيام» وقصيدته «يا ابنة الشيخ اصبحينا». التجديد لا يأتي بقرار وتخطيط، والحبلى لا تعي ما يدور في بطنها، وإذا شغلت نفسها بالآليات التي تدور ستجهض. والحديث يطول...

بين الشعر والسرد

> كتبت عدداً من الأعمال القصصية بعضها حقق جوائز محلية وعربية، كما كتبت الرواية، وأدب الطفل، ماذا تعني لك ممارسة هذه الأصناف الأدبية؟ هل تجد أنها تمنحك فضاء إضافياً؟
- أحياناً أضيق بالبيت الخليلي فأخرج لأتمشى في زقاق السرد، أو في براري المقال، أو أي أرض أحسّ أنني بحاجة لأن اكتشفها، ثم أعود إلى البيت الخليلي لأقيم فيه. وكنت كثير الخروج منه ولكن د. علي جواد الطاهر أكبر نقادنا كتب: «ونراه يكتب القصة والمسرحية والمقالة فنخشى عليه أن ينزلق إلى واحدة من هذه التي قد يجيد فيها، ولكنها ليست المطلوبة منه، المطلوب هو الشعر ويشاركنا في الخشية من يهمهم ظهور الشاعر، الشاعر بعد أن أقفرت الديار»، فاقتنعت بما قال هذا الناقد الكبير ولزمت البيت الخليلي.
> حين نقرأ قصائدك لا نجد أنها مغموسة بالحزن والألم كطبيعة الشعر العراقي، هي تمر عليه لكنها تسير نحو الغزل...
- لا أرى ذلك، بل أرى أن قصائد الغزل نفسها طالعة من الحزن العراقي كوردة من خراب.

الموصل ستقوم

> أنت ابن الموصل التي يصفها عبد الرزاق عبد الواحد بأنها «ليست مدينة أدب بل مدينة علم»، وأنت جمعت بين العلم كطبيب والأدب... حدثنا عن الموصل كشاعر يقف على أطلال مدينة مزقتها الحرب...
- الموصل الجميلة التي ريقها دجلة ونبرة صوتها خرير دجلة وابتسامتها البيوت المطلة على ضفافه، الموصل الطاغية الجمال التي إذا رفع الفجر خمار الليل عن وجهها تكبّر المآذن إعجاباً... الموصل الحسناء التي يتنفس الورد الجوري والياسمين والنرجس والبيبون من مسامات جلدها، الموصل التي لا تعرف لها عمراً فإذا نظرت إلى تجاعيد سورها قلت إن عمرها ألوف السنين، وإذا أصغيت إلى وردة تتفتح الآن قلت إنها لم تولد بعد. وكل وردة تتفتح يرد دجلة في اسمها الثلاثي: إياكم أن تصدقوا البنايات المهدمة والزجاج المتشظي والمرمر المكسور، إياكم أن تصدّقوا عيون الكاميرات، الموصل ليست هناك، الموصل في نبض قلوبنا، خذ شارع النجفي مثلاً، هذا الشارع المفتوح على أزقة، وعلى سوق للصاغة، حيث الذهب، هذا الشارع مفتوح على ما هو أغلى من الذهب، مفتوح على ذكرياتنا في الطفولة، فيه طريق سرية مفتوحة على ضمائرنا بيضاء كما خلقها الله ترتسم فيها براءة الأطفال الذين كنّاهم. مشينا فيه أطفالاً ومشينا كهولاً يصحبنا أطفالنا، مشينا فيه فرادى ومشينا بصحبة أصدقائنا، مشينا فيه ونحن فرحون ومشينا والحزن يسكننا، في آب اللهاب مشينا فيه وفي برد كانون، وهذا كله ليس بمقدور حرب أن تزيله، لا توجد قوة في الأرض أقوى من ذاكرة تستعيد وقلب يخفق، إذا أردت أن تمحو زماناً فاهدم المكان الذي دار فيه هذا الزمان، وهذا لن يكون... لأن الموصل لم تنهدم وإنما لجأت إلى ملجأ آمن هو ذاكرتنا، وستقوم وتغسل وجهها في دجلة وتعود أبهى مما كان، فالتاريخ ينتظرها على مائدة الإفطار، الموصل لم تتهدم، الموصل فينا.
> هل يمكن للشعر أن يرمم كل تلك الخرائب التي سببتها السياسة؟
- الشعر صوت المدن المنكوبة. لو كانت المدينة امرأة لكانت حنجرتها الشعر. أما لغة الإعلام أو السياسة فهي مجرد إيماءات ولغة جسد. ما زالت أجساد بعض الموصليين تحت الأنقاض. الإعلام يرينا الأنقاض والشعر يُسمعنا صوت الناس الذين هم تحت الأنقاض، ويسلط الضوء على المناطق السرية من القلوب، ويفتح الكاميرا على ما يدور في الضمائر الآن لأزمان مقبلة. اللحظة المعني بها الإعلام هي مجرد اهتزاز لعقرب الثواني، ولكن لحظة الشعر عميقة مفتوحة على آلاف السنين، والموصل حسب الشعر ليست النائحة المفجوعة الثكول، بل العنقاء:
تحت هذي الأنقاض طفل يَهمُّ
بارتضاعٍ تدني له الثديَ أمُّ
جدةٌ تبدأ الحكاية ليلاً
لحفيد ينام قبل تتم
وورود بيضٌ تفتّحن توّاً
وأريجٌ عن الورود ينمّ
وقلوبٌ خلف الأضالع تصغي
لعيونٍ ترنو وأنف يشمُّ
نائمٌ كان في الصباح سيصحو
يتراءى له من الغيب حلم
أهلك القصف حلمه حين دوّى
مخطئاً نومَهُ فطال النوم
تحت هذي الأنقاض صحبٌ تراضوا
لم يفرّقهمُ على العِرق خصم
صورةٌ أُطّرت لجدّ وخفٌّ
لصغيٍر ودميةٌ تستحم
وأخٌ غاضب وأختٌ تنادي
لعشاءٍ أباً، وخالٌ وعم
من سنين يستنجدون صراخاً
بيد أن المارّين في الدرب صُمُّ
> يصفك عبد الرزاق عبد الواحد بالقول: «وليد الصراف من أخطر الشعراء العرب»، ماذا يعني لك هذا الكلام، وقول الناقد الراحل د. علي جواد الطاهر «سر يا وليد كما أنت وفي الذي قدمته ما يغرينا بالأمل ولا يغرك فيه الثناء»؟
- لا يعني شيئاً أن يقول ناقد لا تتحسس أذنه الوزن في حق شاعر كلمة، ولكن د. علي جواد الطاهر العظيم الذي إذا أخطأ شاعر في الوزن يصحح له هو أمر آخر، لقد وعى الآداب العالمية، فأنا إن كنت أفخر بشيء فإنني أفخر بأنه كتب عني مرتين، وشهادة الكبير عبد الرزاق عبد الواحد هي وسام من معدن يحسده في سرّه الذهب.
مرة في مسابقة اختيار شاعر الشباب الأول في العراق وكنت دون الثلاثين قال للتلفزيون: «أنا اليوم لا أقف أمام وليد الصراف»، لو سمعها أي شاعر شاب لاغتر وأصيب بالسكتة الإبداعية، ولكنني بمجرد أن عدت إلى الفندق قلت إنه سمع مني قصيدة لم يتوقع أن يسمعها من شاعر شاب فانفعل وبالغ فيما يقول وغمرني بفضل وكرم لا أستحقهما، ولو أعاد قراءة قصيدتي لاكتشف عيوبها كلها، وعدت إلى طبيعتي حيث أرى في نفسي العميقة أنني لست شاعراً بين قصيدة وأخرى، وما زلت أحسّ صادقاً أنني في بداياتي بعد أكثر من ربع قرن، وظل الغرور لفظاً أسمعه ولا أعرف معناه.
> ما رأيك بالمسابقات الشعرية، خصوصاً أن لك تجربة في مسابقة «أمير الشعراء»؟
- لكل زمن وسيلته للتعريف بالشعراء. في العصر الأموي والعباسي مثلاً وفي القرن العشرين، كان الاقتراب من السلطة هو ما يشيع قصائد الشعراء في الخمسينات، كانت مجلة كـ«الآداب البيروتية» هي التي تلعب هذا الدور وحناجر المطربين مثلاً. وفي زمننا أصبحت المسابقات هي الشرفة التي يطل منها الشاعر على الناس. نحن جيل المسابقات بامتياز، فالمسابقات تتيح للسان شاعر أن يخاطب ملايين الآذان في مشارق الأرض ومغاربها.
ربما أطلقت المسابقات أسماء لا علاقة لها بالشعر، ولكنها أيضاً وصلت بين شعراء حقيقيين وجمهور عريض وأخرجت الشعر من زنزانته وأطلقته في العالم الواسع.



البحث عن بطل

البحث عن بطل
TT

البحث عن بطل

البحث عن بطل

في كتاب «البحث عن منقذ» للباحث فالح مهدي شرح مفصّل عن الشعوب التي ترزح تحت نير الظلم والإذلال، وكيف تعلّق أمرُ خلاصها برقبة منقذ تستعير اسمه من أساطين الدّين، تنتظر عودته إلى الحياة عن طريق البعث أو النشور، كي يحقّق العدل الغائب عن وجه الأرض، ويعوّض ناسها ما فاتهم من عيشة هانئة مستقرّة. اكتسى هذا المخلّص عبر مراحل التاريخ بجلابيب أسماء عديدة، منها «كريشنا» المنتظر في الديانة الهندوسيّة، و«بوذيستاوا» أي «بوذا» المنتظر، و«ماهافيرا» المنتظر في الديانة الجاينيّة، و«زرادشت» المنتظر في المجوسيّة، وفي اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة لدينا المسيح المنتظر والمهدي المنتظر وإسماعيل المنتظر والسفياني المنتظر واليمانيّ المنتظر والقحطانيّ المنتظر.

تعود هذه الفكرة في الأصل إلى اعتقاد دينيّ قديم مفاده أن الشرّ لا يمكن مواجهته من خلال البشر الفانين؛ لأن كلّ ما يأتي به الشّيطان لا يُهزم بالفعل البدنيّ، ويحتاج الإنسان إلى الاستعانة بالقوى الإلهيّة. وعلى الجميع لهذا السبب المحافظة على تقاليد دينهم وتعاليمه؛ لكي يستعجلوا هذه القوى، وإلّا فهم يقضون حياتهم في حالة انتظار دائم.

هو ليس انتظار اللاشيء، حتماً، لكنّه انتظار من أجل حبّ الانتظار، يعيش المؤمن في ظلّه في حالة وجْد لا يفتُر، يكون الزمن فيه مجمّداً عند المستقبل الأزليّ واللانهائيّ. هل جرّبتم العيش دون حاضر أو ماضٍ؟ عندما تغيب الحيوات والانفعالات والمشاعر «الصعبة» أي الحقيقيّة من المرء، يحلّ اليأس التامّ والمُطلق، وهو أحد شروط تحقيق ما يُدعى بالنيرفانا لدى البوذيّين، الخطوة الأولى في سبيل عودة «بوذا» المنتظر إلى الظهور، ويختلف الأمر كثيراً أو قليلاً بالنسبة إلى بقيّة المخلّصين. ثم يغيب الماضي كذلك، وتختفي معه أحداثه، ويبقى الوقع الأهمّ هو ظهور المُنقذ في القادم من الأيّام والشهور والسنين، وربما حلّ الموعد والمرء نائم في قبره، ويستيقظ عندها ليجد العدل والإنصاف يعمّان الأرض، ويتمّ القصاص من الأشرار والمجرمين والمفسدين.

عندما يتوقّف الدماغ تنشط آلة الخيال، ردّ فعل طبيعيّ لحالة الفقد والحرمان والإذلال، لكنّه خاصّ ببني الإنسان، وهو بالأحرى عقل مرَضيّ مُشِلّ للنّفس والبدن يؤدّي بنا إلى الجنون وخراب الدّيار. الانتظار يولّد انتظاراً آخر، ولا يوجد شيء اسمه فوات الأوان. كما أنّ الخضوع يتبعه انحناءٌ تحت نير جديد. يقول ألبير كامو: «الأمل، عكس ما نظنّ، يُعادل الرُّضوخ. والحياة هي في عدم الرُّضوخ». من فكرة المُنقذ المنتظر جاء حُلم الشعوب المقهورة والضعيفة بالبطل المُرتجى، تبحث عنه كي تؤلّهه، ولن تُرفع إليه الأبصار إن كان حيّاً، وإذا كان ميّتاً تُعينهم ذكراه على تحمُّل الضَّيم الذي يكابدونه. في كلّ بلد ضعيف لا بدّ أن يكون هناك بطلٌ يلجأ إليه الفقراء والبُؤساء، يرسمون له الأساطير التي لا تحكي الواقع بطبيعة الحال، لكنّها تعكس حالة الضعف والخَوَر اللّذيْن يستلبان نفوس المؤمنين بمنقذهم، الذين يُغالون في تبجيله إلى درجة أنهم ربما راحوا يتطلّعون إلى صورته منقوشة على صفحة القمر، وهذا ما جرى حقّاً وفعلاً للعراقيين إِثْرَ مقتل عبد الكريم قاسم على أيدي انقلابيّي «8 شباط»، ثم قام هؤلاء برمي جثمانه في النهر، كي يتخلّصوا من حُبّ النّاس وتقديسهم، فانتقل هذان الفعلان إلى السماء، بعد أن لم يعثر مُريدوه على أثر له على الأرض، وصاروا يتطلّعون إلى صورته في اللّيالي القمراء، والبعض منهم تفيض عيونه بالدُّموع.

لا يُشترط في البطل أن يكون غائباً، أو لديه صفات هذه المرتبة الخارقة من القدسيّة والبطولة، بل يمكن أن يكون أحد الذين يعيشون بيننا، أو شخصاً غريباً وقَدَرِيّاً يُرفع إلى هذه المكانة عنوة، ولا يستطيع التراجع عنها لأنّ في ذلك خطراً يتهدّد حياته، فهي صارت أوّلاً وأخيراً بأيدي مريديه. هناك نوع من اشتباك مصائر يعيشه الطرفان: الجماهير تنظر إلى البطل على أنّه حامي ديارها وأرواحها من الخراب والفناء، والمنقذ يتطلّع بدوره إلى هؤلاء، في سبيل بقاء الصفات المبجّلة التي أسبغوها على شخصه.

فكرة البحث عن قائد مظفّر تتوّجه أكاليلُ المجد والغار قديمة لدى الإنسان، وجديدة أيضاً. الأرض تدور كلّ يوم، وفي كلّ سنة من أعمارنا، في شرقنا (السعيد) ثمّة بطل دَوْماً. عندما يغيب العدل في المجتمع يحتاج كلّ جيل إلى ابتكار مُنقذ جديد، من مزاياه أنّه ليس مخلّداً مثل رموز الأساطير الدينيّة، بل هو كائن حيّ له عمرٌ لا يتجاوز عمر البشر، يتمّ دفنه بعد فنائه ليولد بطلٌ جديد يعيش مع الأبناء إلى المحطّة الأخيرة، يترجّل بعدها تاركاً مقعده إلى مُنقذ أكثر جِدّة يواكب الرحلة مع الأحفاد؛ لأنّه لا طاقة لنا على العيش دون هؤلاء الفاتحين.

البطل في الحُلم يُقابله إنسان مهزوم ومأزوم في الواقع، هكذا هي القاعدة في علوم الاجتماع والطبّ والنفس، والفارق بين الاثنين كبير إلى درجة أن الناس يعيشون في ظلّ منقذهم في حال من الرِّقّ الجماعيّ، بكلّ ما في قوّة أنظمة الاسترقاق القديمة من سلطة القانون، وما كانت تحمل من أغلال اجتماعيّة وأخلاقيّة. وإن كان الأمر يحصل بصورة غير ظاهرة للعِيان، لكنّ شكل الحياة الأخير مطابق لذلك الناتج من حالة الاستعباد الجماعي الذي ودّعته البشريّة منذ قرون.

بالإضافة إلى العبوديّة، لا يمثّل البطل في هذا الزمان رمزاً قوميّاً يشدّ من أزر الجميع؛ لأننا نعيش في بلدان متعدّدة الأعراق والمعتقدات والأرومات، ولهذا السبب رحنا نبتكر أكثر من بطلٍ واحد: اثنين أو ثلاثة أو أكثر، يتحوّلون بمرور الوقت إلى أداة للفُرقة، تصيرُ بسبب التشاحن الدائم جزءاً من دمائنا، لتدور عجلة الحرب الأهليّة (الباردة) في البلاد، تدوم طويلاً لأن أسبابها باقية وتتقوّى مع السنين، ويوماً ما سوف تسخن حتماً وتتفجّر إلى هستيريا جماعيّة تستيقظ فيها نوازع الشرّ والتوحّش القديمة النائمة، ويتقاتل عندها الجميع ضدّ الجميع، ليصير الحلّ بتدخّل قوى أجنبيّة (استعماريّة) تُنقذ بقيّة الحياة والعِباد.

عندما تكون حياة الإنسان زهيدة - لأن الشعب عبارة عن مجموعة من الرّقيق - تُرتكبُ أقسى الجرائم بشاعةً. وعندما تكون الحريّة مبذولة، وتسود العدالة الجميع، عندها فقط يختلف وعي الأمة وسوف تجد مُنقذَها من داخلها لا من الغيب. يحتاج الجمهور آنذاك إلى بطل قدوة من نوعٍ ما يتطلّع إلى بلوغ مكانته الجميع، ويحقّق لهم هذه الفكرة الرسّام والموسيقيّ والشاعر والمهندس... مثلما يجري الآن في الأمم المتحضّرة. من هنا جاءت فكرة النجم في المجتمع المستقرّ الهانئ بعيشته، وليس للأمر علاقة بالمال ورأس المال، وغير ذلك من كلام يُضيّق على النفس ويصدّع القلب والرأس.