توترات لا يجب أن تتحول إلى مشكلة أكبر

دبابات إيرانية قرب الحدود مع أذربيجان خلال مناورات عسكرية رفعت منسوب التوتر بين البلدين (رويترز)
دبابات إيرانية قرب الحدود مع أذربيجان خلال مناورات عسكرية رفعت منسوب التوتر بين البلدين (رويترز)
TT

توترات لا يجب أن تتحول إلى مشكلة أكبر

دبابات إيرانية قرب الحدود مع أذربيجان خلال مناورات عسكرية رفعت منسوب التوتر بين البلدين (رويترز)
دبابات إيرانية قرب الحدود مع أذربيجان خلال مناورات عسكرية رفعت منسوب التوتر بين البلدين (رويترز)

تتمتع أذربيجان وإيران بعلاقات تاريخية وثقافية عميقة، وتتشارك الدولتان في حدود تمتد لمسافة نحو 760 كيلومتراً. ومنذ نيل أذربيجان استقلالها عام 1991، ظلت العلاقات بين باكو وطهران ودية، لكنها كانت صعبة بعض الأحيان.
عام 1992، اندلعت حرب أعقبها احتلال أرمينيا أراضي سيطرت عليها أذربيجان على امتداد ما يقرب من 30 عاماً. ومع ذلك، فإن احتلال أراضٍ تخص دولة مسلمة أخرى لم يثر ضيق إيران، التي بدا أنها تتخذ موقفاً أقرب إلى أرمينيا. ولم يلق الموقف الإيراني طوال هذه الفترة، قبولاً طيباً من جانب أذربيجان.
في خريف 2020، عندما اشتعلت أعمال قتال على نطاق واسع، أنزلت أذربيجان هزيمة مذلة بالجانب الأرميني واستعادت الجزء الأكبر من أراضيها. من جهتها، التزمت إيران الصمت، ولم تتخذ موقفاً أكثر وضوحاً سوى قرب نهاية الصراع بإعلانها أن الأراضي المتنازع عليها تخص أذربيجان. وقد دفعت هذه الحرب إلى السطح العديد من القضايا التي تثير ضيق إيران. يذكر أن انتصار أذربيجان في مواجهة أرمينيا قوبل باحتفالات كبيرة من جانب أبناء عرقية الأذريين في إيران، والذين خرجوا في مظاهرات في مدن عدة للتعبير عن دعمهم أذربيجان، بجانب مطالبتهم بغلق الحدود الإيرانية - الأرمينية.
من ناحية أخرى، تتنوع تقديرات أعداد الأذريين داخل إيران ما بين 15 و25 مليون نسمة، من إجمالي عدد سكان يقدر بقرابة 85 مليون نسمة. ويتركزون في معظمهم في أجزاء من شمال غربي البلاد، وتعتبر تبريز وأرومية من المدن الأذرية الكبرى، لدرجة أن البعض يشيرون إلى هذه المنطقة ليس باعتبارها شمال إيران، وإنما جنوب أذربيجان. وبالنظر إلى هذا السياق، لم ترق للسلطات الإيرانية مسألة صعود المشاعر القومية في صفوف الأذريين.
تجدر الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن إسهام تركيا في الجهود الحربية التي بذلتها أذربيجان، لعب دوراً كبيراً في انتصار الأخيرة. وزادت الحرب من توثيق العرى الوثيقة بالفعل بين الدولتين التركيتين، واللتين كثيراً ما تجري الإشارة إليهما باعتبارهما «أمة واحدة في دولتين». وبالتأكيد، لم يرق لطهران كثيراً مشهد مسيرات النصر في باكو، بمشاركة وحدات من الجيش التركي بينما وقف زعيما البلدين بجوار بعضهما بعضاً في المنصة.
أيضاً، إسرائيل كانت بين الدول الأخرى التي أسهمت في انتصار باكو. كانت أذربيجان وإسرائيل قد بنتا علاقات وثيقة فيما بينهما على مدار سنوات. وفي وقت سابق، أعلن الرئيس إلهام علييف، أن علاقات بلاده مع إسرائيل شديدة التنوع وقوية على نحو خاص في مجال الدفاع. وقد أثارت هذه العلاقات قلق طهران. بجانب ذلك، كان للحرب تداعياتها على النشاطات التجارية الإيرانية، فعلى امتداد فترة احتلال قره باغ، اعتادت إيران نقل الغذاء والوقود ومواد أخرى إلى قره باغ وأرمينيا وأجزاء أخرى من غرب آسيا دون أن يعوقها شيء عبر الأراضي الأذرية المحتلة. لكن هذا الوضع برمته، تبدل عندما أعادت أذربيجان السيطرة على هذه الأراضي؛ وذلك بسبب تضرر طرق النقل الإيرانية. ورغم رغبة إيران في الاستمرار كأن شيئاً لم يحدث، حرصت أذربيجان على تذكيرها بأن الظروف تبدلت الآن. إلا أن الإيرانيين لم يهتموا بالأمر، بل وثمة أقاويل تشير إلى أنهم حاولوا ممارسة الغش والخداع للاستمرار في نشاطاتهم السابقة من خلال وضع لوحات أرمينية على السيارات الإيرانية.
في المقابل، فإن أذربيجان باعتبارها دولة ذات سيادة، استمرت في فرض القيود، علاوة على فرضها «ضريبة طريق» على الشاحنات الإيرانية التي تتحرك عبر أراضيها. وفي خضم تنفيذ هذه الإجراءات، ألقي القبض على بعض سائقي الشاحنات الإيرانيين. وكانت هناك حالة جرت مصادرة مخدرات وهيروين خلالها. من ناحيتها، أعربت السلطات الأذربيجانية عن قلقها من إمكانية نقل معدات عسكرية.
أما إيران، فلا بد أنها شعرت بضغوط عليها على جبهات عدة، خاصة في الداخل وكذلك ما تعتبره «حديقتها الخلفية». وقد كشفت عن صدمتها وأظهرت استعدادها للتحرك. وأعلن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان اعتراضه على وجود «الكيان الصهيوني» قرب حدوده.
وفي إشارة إلى التدريبات العسكرية الثلاثية بين تركيا وأذربيجان وباكستان التي استضافتها باكو في سبتمبر (أيلول) تحت عنوان «الأشقاء الثلاثة 2021»، أعلنت وزارة الخارجية الإيرانية، أن «هذه التدريبات العسكرية تخرق الاتفاقيات الدولية التي تحظر الوجود العسكري لدول من خارج الدول الخمسة المطلة على بحر قزوين».
في أكتوبر (تشرين الأول)، بدأت إيران تدريبات عسكرية على امتداد حدودها مع أذربيجان. كما أعرب قائد قوات البرية الإيرانية عن رفض بلاده وجود «الدولة الصهيونية» (إسرائيل) قرب حدودها. كما أعرب عن قلقه من وجود مقاتلين من سوريا ادعى أنهم قاتلوا إلى جانب أذربيجان خلال الحرب حول قره باغ.
وجاء الرد الأذربيجاني هادئاً، وخلال مقابلة مع وكالة «الأناضول» التركية، أبدى الرئيس إلهام علييف دهشته من ردود الفعل والإجراءات الإيرانية.
في المقابل، التزمت قوى إقليمية كبرى أخرى، تحديداً تركيا وروسيا، الصمت. وعلى ما يبدو، تتابع الدولتان التوترات بين إيران وأذربيجان وتتوقعان أن تخمد بمرور الوقت من تلقاء نفسها.
وعلى ما يبدو، فإن ثمة مبالغة في تقدير المشكلات على الأرض. وفيما يخص قضية النقل، فإن الأمر لا يتطلب سوى التكيف مع الظروف الجديدة على الأرض واحترام قرارات دولة ذات سيادة. ومع أن التصور الإيراني للتهديدات في الداخل ربما يكون أشد تعقيداً، فإن الحل يكمن في الدبلوماسية وحسن النوايا والتعاون.وقد جاءت هذه التطورات الأخيرة في المنطقة لتذكر الجميع مرة أخرى بأهمية التعاون الإقليمي. إذ إنه حتى وقت قريب ظلت قره باغ عقبة أمام معظم جهود التعاون بين الدول المختلفة في المنطقة. اليوم، زالت هذه العقبة وأصبحت البيئة السياسية مناسبة لهذا النمط من التعاون.
من جهتها، وعلى امتداد سنوات عدة، سعت تركيا في خلق منصات للتعاون الإقليمي. وفي هذا الإطار، جرى إنشاء آلية «الاجتماعات التركية ـ الإيرانية ـ الأذربيجانية الثلاثية على مستوى وزراء الخارجية» عام 2010. ورغم أن الموعد لم يحدد بعد، جرى الاتفاق على أن يعقد الاجتماع القادم في طهران؛ ما سيشكل فرصة طيبة لتناول القضايا محل الخلاف.
وفي وقت قريب، اقترحت تركيا فكرة صياغة إطار للتعاون بين ستة أطراف، بحيث يتضمن بجانبها كل من أرمينيا وجورجيا وأذربيجان وروسيا وإيران. ورغم طرح المقترح بالفعل، فإن لم يجر إحراز أي تقدم على صعيد تنفيذه.
على أي حال، ينبغي العمل على تشجيع مثل هذه المبادرات القائمة على التعاون؛ نظراً لأنها توفر للدول فرصة جيدة لتبادل الآراء حول قضايا ثنائية ومتعددة الأطراف واستكشاف إمكانات التعاون عبر مجالات متنوعة. وينبغي كذلك أن تدعم الآليات الإقليمية وتكمل الجهود الثنائية للتغلب على المشكلات القائمة، مثلما الحال في الوضع الأخير بين أذربيجان وإيران.
- خاص بـ«الشرق الأوسط»



«حماس» في ميزان الربح والخسارة بعد حرب طاحنة

TT

«حماس» في ميزان الربح والخسارة بعد حرب طاحنة

يوشك هجوم 7 أكتوبر على تغيير وجه الشرق الأوسط بعد عام من حرب طاحنة (د.ب.أ)
يوشك هجوم 7 أكتوبر على تغيير وجه الشرق الأوسط بعد عام من حرب طاحنة (د.ب.أ)

حتى بعد مرور عام على 7 أكتوبر (تشرين الأول)، لم يعرف أحد على وجه الدقة الهدف من الهجوم المباغت لحركة «حماس» الفلسطينية على إسرائيل، الذي يوشك اليوم على تغيير وجه الشرق الأوسط، ويجرّ خلفه 3 حروب، واحدة مدمرة في غزة، وثانية دموية في لبنان، وثالثة صامتة طويلة الأمد في الضفة الغربية، وعدة حروب باردة مع إيران وأذرعها في العراق واليمن وسوريا.

من المبكر الحكم على نتائج الهجوم الذي فاجأ إسرائيل، تحديداً لجهة إقامة دولة فلسطينية. ثمة وجهتا نظر، تفيد الأولى بأن 7 أكتوبر ستنتهي إلى مسار الدولة، ويزعم الثاني أن الباب قد فُتح لإسرائيل، ليس للقضاء على حل الدولتين، بل احتلال أجزاء من دول أخرى في المنطقة.

لكن بالنسبة لـ«حماس» التي بدأت الهجوم وتلقت الردّ عليه، يمكن القول إنها دفعت ثمناً لم تكن تتخيله يوماً. فماذا حدث خلال عام؟ وكيف أصبحت الحركة في ميزان الربح والخسارة؟

قبل الهجوم، كانت «حماس» بالنسبة للفلسطينيين والإسرائيليين قوة لا يستهان بها، وليس من الوارد أن تضحي بموقعها ومكاسبها في حرب مدمرة، وكان هذا سر الهجوم، قبل أن يكلفها الكثير لاحقاً.

وإذا كانت الحرب قد بدأت بضربة «حماس» وغارات جوية إسرائيلية لاحقة، فالأكيد أن الحركة لم تكن تتوقع أن الحرب البرية ستكون بهذا الزخم الذي طال جميع مناطق غزة، متراً بمتر، وشبراً بشبر.

اليوم، فقدت «حماس» وجناحها المسلح، الكثير من الأشياء، كما أنها في المقابل كسبت أشياء أخرى.

خسرت «حماس» الكثير في هجوم 7 أكتوبر المباغت لكنها ربحت أشياء أيضاً (أ.ب)

حساب الربح... إحصاء الخسارة

على الأقل، فقدت «حماس» دعماً سياسياً ولو كان خافتاً من قبل دول أوروبية ودولية، ومثله دعم مالي لتمويل مشاريع حكومية ومؤسساتية وخدماتية لسكان غزة، وإلى حد ما تضررت علاقة الحركة بدول إقليمية دعمتها في الصراع ضد إسرائيل، أو ما يتعلق بالمصالحة مع حركة «فتح».

وبعد هجومها الكبير، نّدت دول بـ«حماس»، وبقي هذا الموقف يتصاعد مع مرور الأيام في ظل الحملة الإعلامية الإسرائيلية التي صاحبت هجوم 7 أكتوبر.

وخلال ذلك، ظهرت مؤشرات قوية على خسارة الحركة لكثير من شرعيتها التي اكتسبتها لسنوات بتطوير علاقات كانت صعبة مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول عربية، وعلى وجه الخصوص تضررت إلى حد ما العلاقة مع مصر وقطر، إذ قالت مصادر موثوقة لـ«الشرق الأوسط»، إن «علاقة (حماس) بهاتين الدولتين العربيتين لم تعد كما كانت».

ويفهم قياديون في «حماس»، وفقاً للمصادر، أنه «في لحظة ما قد تطالبهم قطر بالخروج (...) كما أن الوضع مع مصر لم يعد على أحسن حال».

وتطالب مصر اليوم، وتعمل على عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، ويشمل ذلك تسليمها معبر رفح البري، وليس إسرائيل أو «حماس».

مقابل ذلك، زاد دعم «حماس» في «محور المقاومة» المدعوم من إيران، لكن هذا الأخير تعرض لخسائر عدة على أصعد مختلفة بفعل الحرب.

وكسبت الحركة أيضاً تأييداً من دول مثل تركيا وروسيا، وإلى حد ما من الصين، الأمر الذي دفع مراقبين إلى الاعتقاد بأن «حماس» تموضعت في استقطاب إقليمي حاد، في لحظة تقترب فيها المنطقة من شفا حرب مفتوحة.

شعبية «حماس» ونفوذها

أيام قليلة بعد 7 أكتوبر 2023، ارتفعت شعبية «حماس» بشكل كبير في مناطق غزة والضفة الغربية. كان يمكن ملاحظة كيف أن الإعجاب بالهجوم المباغت طغى على كل شيء، ولكن سرعان ما تبدد كل ذلك، خصوصاً في القطاع، مع استمرار الهجمات الإسرائيلية التي كبدت الغزيين خسائر مريرة في الأرواح والأملاك.

وباتت غالبية من سكان غزة يُحمّلون «حماس» مسؤولية ما حلّ بهم، الأمر الذي أدى إلى تراجع تأييد الحركة بشكل كبير، وأفقدها ميزة الدعم الكبير.

رغم كل هذا التراجع، فإن الحركة ما تزال ترى نفسها جزءاً واضحاً من مستقبل غزة والقضية الفلسطينية، وأن لديها القدرة على البقاء سياسياً وعسكرياً ومدنياً وشعبياً حتى حكومياً.

ومع ذلك، فإن الحكم على قدرة «حماس» على البقاء من عدمه سيكون حين تنتهي الحرب، ويتبين شكل الشرق الأوسط في اليوم التالي، لكن الأكيد أن الحركة لم تعد قادرة على حكم القطاع الذي يحتاج إلى دعم دولي واسع لإنقاذ سكانه وإعادة إعماره، وإحياء اقتصاده المنهار.

يرى خبراء عسكريون أن بقاء السنوار حياً يحرم إسرائيل من «صورة المنتصر» (أ.ف.ب)

قيادات «حماس»... مَن بقي؟

فقدت «حماس» أهم قياداتها السياسية والحكومية والعسكرية، وجزءاً لا يستهان به من مسلحيها، إلى جانب ناشطين في المجالات الدعوية والاجتماعية والاقتصادية.

مع بداية الحرب، وصلت إسرائيل إلى زكريا أبو معمر وجواد أبو شمالة من أعضاء المكتب السياسي للحركة، وأيمن نوفل وأحمد الغندور وهما قائدا لواءي الوسط والشمال في «كتائب القسام»، إلى جانب أيمن صيام قائد الوحدة الصاروخية في الكتائب.

وقد دأبت «حماس» على نعي جميع الشخصيات التي فقدتها خلال الحرب وإعلان أسمائهم، قبل أن تغير هذا النهج لتخفي معلومات قادتها والمسلحين الذين يتم قتلهم.

لاحقاً، نجحت إسرائيل باغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لـ«حماس» في طهران، ونائبه صالح العاروري في الضاحية الجنوبية ببيروت، وكلاهما نعتهما الحركة.

لكن بعيداً عن إعلانات «حماس»، أكدت إسرائيل اغتيال قائد «كتائب القسام» والمطلوب الأول منذ عقود محمد الضيف في ضربة جوية نفّذتها بمنطقة مواصي خان يونس، جنوب غزة، في 13 يوليو (تموز) الماضي، إلى جانب رافع سلامة، قائد لواء خان يونس، وقبلهما أكدت اغتيال مروان عيسى، نائب الضيف، في نفق وسط مخيم النصيرات، وسط قطاع غزة، في 10 مارس (آذار) الماضي.

وكانت مصادر من «حماس» قد أكدت لـ«الشرق الأوسط» اغتيال سلامة وعيسى، لكنها لم تدلِ بأي معلومات حول الضيف.

وكشفت «الشرق الأوسط» في وقت سابق، عن مقتل اثنين من أعضاء المكتب السياسي، هما روحي مشتهى وسامح السراج في ضربة استهدفت نفقاً جنوب مدينة غزة، إلى جانب قيادات عسكرية وازنة في «القسام».

ومن بين الاغتيالات المؤثرة في «القسام»، استهداف أيمن المبحوح أحد أهم قادة الكتائب والمسؤول الأول عن استخبارات الكتائب وأسرارها الأمنية، الذي كان لسنوات مسؤولاً عن الدائرة الأمنية الخاصة بحماية محمد الضيف.

ولم تؤكد «حماس» اغتيال أي من هؤلاء، بل إنها تشدد على أن الضيف ما زال حياً، فيما تصرّ إسرائيل على نجاحها باغتياله.

وفقدت «القسام» مئات من قياداتها الميدانيين، منهم قادة «كتائب» و«سرايا» و«فصائل» و«مجموعات»، وهي مسميات عسكرية بالترتيب وفق تقسيمات معينة ومحددة، ورغم أنها خسائر فادحة فإن المحلل العسكري العقيد المتقاعد منير حمد من غزة يميل إلى الاعتقاد بأنها «لا تعني القضاء تماماً على الكتائب».

وقال حمد، لـ«الشرق الأوسط»، إن «حماس» استطاعت حتى الآن الحفاظ على حياة قائدها يحيى السنوار، خاصة بعد اغتيال هنية في طهران، ما يعني «توفق الحركة استخبارياً، على الأقل حتى الآن».

ورأى حمد أن «إبقاء السنوار حياً يحرم إسرائيل من صورة النصر التي تحاول الحصول عليها منذ أشهر».

ويُحسب لحركة «حماس» أنها وضعت قضية اغتيال قياداتها وعناصرها رهن التكهنات، سواء بالنسبة لإسرائيل أو غيرها، ما يؤشر على صعوبات أمنية واجهتها وما زالت تواجهها المخابرات الإسرائيلية في الوصول لقيادات «حماس» و«القسام»، على عكس ما يجري حالياً على الجبهة اللبنانية مع «حزب الله».

ولا تكتفي إسرائيل بملاحقة السنوار، بل إنها تبحث عن شقيقه محمد، أحد أبرز قادة «القسام» والرجل الثاني بعد الضيف، كما تبحث عن قائد لواء رفح محمد شبانة، وعن قائد لواء غزة عز الدين الحداد الذي تلقبه بـ«الشبح»، وعن قيادات أخرى من المجلس العسكري مثل رائد سعد، وأبو عمر السوري، اللذين نجيا من عمليتي اغتيال في غزة.

وتدفع هذه المعطيات العقيد المتقاعد منير حمد إلى الجزم بأن «حماس» قادرة على النهوض مجدداً، خاصة أن عدداً من قياداتها المؤثرة ما زال على قيد الحياة.

ويؤكد مراقبون أنه في حال تم التوصل لاتفاق تهدئة، يمكن لـ«حماس» أن تعيد بناء نفسها وقوتها مجدداً، خاصة مع وجود العامل البشري الذي يمكن أن تستغله، كما أن هناك قيادات بارزة قادرة على قيادة الحركة من جديد، بمن فيهم شخصيات تنشط في الخارج لم تتأثر بالضربات الإسرائيلية.

ويتفق حمد مع مراقبين على أن «حماس» نجحت حتى الآن في الاحتفاظ بعشرات الإسرائيليين المحتجزين كأسرى في غزة، بعد عام من حرب مدمرة طالت كل شبر من القطاع، وهو ما يمنحها مكاسب أكبر لفرض شروطها في التفاوض الذي يسير ببطء شديد في ظروف معقدة.

الحرب الأخيرة في غزة أظهرت خطأ التقدير الإسرائيلي لحجم شبكة الأنفاق في غزة (أ.ف.ب)

أنفاق «حماس»

فقدت «حماس» كثيراً من قوتها خلال عام من الحرب. وبعد ضربات متتالية، شملت الخدمة العامة، والمرافق التنظيمية والعسكرية والاقتصادية، تكاد الخسائر تكون شاملة على نحو واسع.

لكن فقدان معظم أنفاق «حماس» قد يكون الخسارة الأبرز لجهة أنها «سلاح استراتيجي» كان بيد الحركة.

واستخدمت «حماس» تلك الأنفاق في التحكم السيطرة، ولحماية قياداتها، وكذلك لإخفاء الإسرائيليين، ومن ثم في إدارة المعركة لتنفيذ هجمات، مباشرة أو صاروخية.

وبحسب مصادر «الشرق الأوسط»، فقد «نجحت إسرائيل في تدمير كثير من أنفاق الحركة». وقالت إن «الجيش الإسرائيلي عثر على كثير من الأنفاق الاستراتيجية الهجومية والدفاعية».

واستخدمت «حماس» الأنفاق في مناسبات مختلفة كمخابئ لبعض قادتها الذين تمت ملاحقتهم فوق وتحت الأرض، وهو الأمر الذي جرى مع عضو المكتب السياسي للحركة روحي مشتهى وقيادات أخرى، ما أدى لمقتلهم في أحد تلك الأنفاق.

تقدر مصادر مطلعة لـ«لشرق الأوسط» أن «حماس» تمتلك في كل منطقة داخل غزة (شمال القطاع مثلاً) ما لا يقل عن 700 نفق بأحجام ومهمات مختلفة، لكن ذلك يرتبط بجغرافيا وطبيعة التربة التي يمكن من خلالها حفر عدد أكبر أو أقل من الأنفاق.

وتقول المصادر: «في خان يونس جنوب القطاع، يختلف عدد الأنفاق كلياً، وربما هو الأكبر على مستوى القطاع، وخاصة في المناطق الشرقية منها باعتبارها مناطق زراعية وسهلة الحفر، ويمكن فيها العثور على أكثر من مسار للنفق الواحد بتفرعات مختلفة وبتوزيعات جغرافية مختلفة من مكان إلى آخر، ويقدر عددها بنحو ألف نفق».

وقدرت إسرائيل سابقاً أن تكون «حماس» حفرت أكثر من 500 كيلومتر من الأنفاق، لكن الحرب الحالية أظهرت أن تقديراتها خاطئة، وكانت أكبر بكثير.

وتفسر هذه المعطيات كيف نجحت «حماس» حتى اللحظة في تسهيل حركة قياداتها ومقاتليها بين مواقع، فوق الأرض وتحتها، إذ الواقع الفعلي لشبكة الأنفاق يتيح لهم المناورة مع إسرائيل.

«حماس» أطلقت في «الرشقة الأولى» صبيحة 7 أكتوبر ما لا يقل عن 4 آلاف صاروخ (أ.ف.ب)

ترسانة الصواريخ

مثّلت الصواريخ سلاحاً فارقاً لدى «حماس»، وشكّلت في مرحلة ما أحد أهم وسائل الردع، بعدما كانت الحركة قادرة على ضرب المدن والمستوطنات الإسرائيلية وقتما تشاء، خاصة تلك التي كانت تصل إلى تل أبيب والقدس.

تقول مصادر موثوقة، لـ«الشرق الأوسط»، إن «حماس» فقدت غالبية مخزونها من الصواريخ. ومع ذلك يعتقد مراقبون أن الحركة تخفي عدداً منها، وسوف تستخدمها في وقت ما.

وتزعم مصادر ميدانية من «حماس» أن جناحها المسلح كان يمتلك قبيل الحرب ما يزيد على 60 ألف صاروخ، ما بين صواريخ بعيدة المدى وأخرى متوسطة وقصيرة.

وكانت «حماس» قد أطلقت في «الرشقة الأولى» صبيحة 7 أكتوبر، ما لا يقل عن 4 آلاف صاروخ، غالبيتها متوسطة وقصيرة المدى تزامناً مع بدء الهجوم العسكري.

ومع ذلك، يصعب معرفة العدد الدقيق للصواريخ التي تمتلكها «حماس» قبل الحرب، وما تبقى خلال عام بعد اندلاعها.

وتزعم إسرائيل أنها نجحت في تدمير كثير من الصواريخ، إلى جانب ضرب أماكن تصنيعها وتخزينها، ومنصات إطلاقها.

خسرت حماس الكثير من قياداتها لكن وجود عدد منهم خارج غزة يمنحها القدرة على المناورة (غيتي)

بنك المال والمعلومات السرية

لم تتوقع «حماس» أن القوات البرية الإسرائيلية ستتعمق داخل غزة، كل هذا الوقت وبهذا العمق والسعة، ما منعها من نقل أو إتلاف ملفات بالغة السرية، من بينها ملفات اجتماعات مغلقة، وملفات أمنية ومالية، نجحت إسرائيل في السيطرة عليها، كما الفيديو الذي ظهر فيه قائد «كتائب القسام»، محمد الضيف، الذي كان يوصف بأنه رجل الظل الذي لا تعرف صورته.

وأكدت مصادر في الحركة، لـ«الشرق الأوسط»، أن «الوقت لم يسعف عناصر (حماس) لتدمير ما لديها من ملفات، وإلا كان تم زرع عبوات ناسفة لتفخيخ المواقع التي تحوي مثل هذه الملفات على الأقل».

على الصعيد الحكومي، يمكن الجزم أن «حماس» خسرت جميع مقراتها، كما فقدت قيادات حكومية بارزة كانت تقود عملها الخدمي وغيره، إلى جانب كثير من أركان هيئة الطوارئ التي شكّلتها لإدارة العمل الحكومي للسكان خلال الحرب، وليس آخرهم على الأغلب المهندس ماجد صالح، المدير في وزارة الأشغال، الذي كان هدفاً لإسرائيل مرات عدة خلال هذه الحرب، وقد فقد زوجته وعدداً من أبنائه.

ترافق ذلك مع خسارة «حماس» كثيراً من مواردها المالية التي كانت تعتمد عليها، فهي إلى جانب الدعم الخارجي والدخل الحكومي، ثمة مصانع ومحال وعقارات وغيرها كانت تدرّ على الحركة شهرياً مبالغ طائلة.

وخلال الحرب تعمدت إسرائيل استهداف جميع مصادر تمويل «حماس»، وقصفت بنكاً تابعاً للحركة، وغرفاً محددة كان تخزن أموالاً، وهاجمت مركبات نقل أموال، واستولت على ملايين «الشواقل» من أماكن داهمتها، الأمر الذي أفقد «حماس» في كثير من الفترات قدرتها على صرف رواتب موظفيها وعناصرها، سواء الحكوميون أو المنضمون لجناحها العسكري وغيرهم.

في نهاية المطاف، طال الدمار كل شيء، كل شارع وحي، وجميع العائلات التي رزحت تحت نار الحرب طوال عام. لكن حسابات الربح والخسارة بالنسبة لـ«حماس» أمر بلاغ التعقيد، ولا يمكن الجزم به. ففي اليوم التالي للحرب، ستكون المعطيات حاسمة لمعرفة أن الحركة انتهت بالفعل، أم أنها طبقاً للظروف قادرة على العودة والنهوض مجدداً.