ظل الدكتور روبرت غرين، الباحث في مستشفى بريغهام للنساء وكلية الطب بجامعة هارفارد، يعمل بجد لمدة 3 سنوات في جمع بيانات جينية لآلاف من مرضى ألزهايمر في محاولة لمعرفة ما إذا كانت هناك فروق جينية تفسر تطور المرض على مدى ربع قرن لدى البعض، وتسببه في وفاة البعض الآخر في غضون 5 سنوات. وطلب خدمات من زملاء له، وملأ عددا كبيرا من الأعمال الورقية اللازمة من أجل التشارك بالبيانات عبر المؤسسات، لكن لم يعثر حتى هذه اللحظة إلا على نصف ما يحتاج إليه من أجل إجراء التحليل.
ويعلق العلماء، الذين يعملون على أمراض مثل ألزهايمر، والسكري، والسرطان، آمالهم على أن تعجل ما يطلق عليها «خطة الطب الدقيق جدا» (precision medicine plan)، التي اقترحها الرئيس باراك أوباما في شهر فبراير (شباط) الماضي، في المحاولات الرامية إلى فهم التنوع الوراثي المتعلق بتلك الأمراض ومعالجة الجينات المتضررة. ومن شأن هذه الخطة أن تؤسس طريقة منسقة تمكن الباحثين من الحصول على بيانات جينية وسريرية عن مليون شخص. وستبلغ تكلفة الخطة 215 مليون دولار خلال العام المالي المقبل، وتشمل تخصيص 70 مليون دولار للمعهد القومي للسرطان. وقال غرين: «يريد كل فرد مصاب بأي مرض أن يتم ذلك. هل مرض السكري من النوع الثاني الذي يؤدي إلى فقدان أحد الأطراف مماثل للنوع الذي يسهل السيطرة عليه من خلال الحمية الغذائية المناسبة؟ الآن، نحن نجمعها معا».
خطة رصد الأمراض
تم وضع الخطة على أساس تقرير صادر عام 2011 عن لجنة الخبراء التابعة للأكاديمية القومية للعلوم، هذا التقرير حث الحكومة الفيدرالية على تخصيص مزيد من الأموال في عمل تصنيف جديد للأمراض على أساس تركيبها الجزيئي والأسباب البيئية بدلا من المؤشرات المادية والأعراض.
ولتوضيح إمكانية تنفيذ هذا التوجه، قارنت اللجنة بين حالتين افتراضيتين لمريضين. الحالة الأولى لمصابة بسرطان الثدي يتم تحليل ورمها اليوم من أجل تحديد العقار الذي سيكون فعالا في حالتها. وقد تجرى لها اختبارات وراثية لمعرفة ما إذا كانت لديها طفرة جينية خطيرة أم لا.
أما الحالة الثانية فليست محظوظة كثيرا، فهي لشخص مصاب بداء السكري من النوع الثاني، وهو «تصنيف غير دقيق» على حد ما جاء في التقرير. وأشارت اللجنة إلى عدم وجود معلومات جزيئية ملموسة لتحديد علاج يناسب المريض بداء السكري من النوع الثاني بحيث يقلل احتمال إصابته بالفشل الكلوي، أو العمى، أو المضاعفات الأخرى لمرض السكري. وحسب التقرير، لا توجد اختبارات لقياس احتمالات إصابة أشقائه وأبنائه بالسكري». كذلك أشار التقرير إلى أن تشخيص مرض السكري «لا يقدم صورة واضحة للتشريح الجزيئي للمرض ومضاعفاته. وبالمثل لا يوجد أساس واضح لتحديد علاج يناسب التشريح الفسيولوجي المرضي للمريض».
طب جيني
وهدف الطب المستند إلى العوامل الوراثية هو منح مريض السكري وكثيرين غيره التشخيص الجزيئي نفسه والعلاج المستهدف مثلما حدث في الحالة المصابة بسرطان الثدي اليوم.
ويوضح مرض السرطان القدرات العظيمة لهذا الفرع من الطب على حد قول الباحث تشارلز سويرز، الرئيس المشارك للجنة الأكاديمية القومية للعلوم ومدير برنامج الأورام البشرية والآلية البيولوجية للأمراض في مركز «سولان كيترينغ» التذكاري لمرض السرطان. وأشار إلى إمكانية أن يعجل الدعم المطروح بإحراز المزيد من التقدم في علاج مرض السرطان. وقد استفاد بعض المرضى بالفعل من الأمر، إذ اكتشف أطباء جينات وراثية تزيد من تكاثر الورم ووصفوا عقاقير تستهدف تلك الجينات. وقال سويرز: «أيا كان نوع الورم الذي لديك، فهناك نسبة مئوية محددة من المرضى، وغالبا تكون نسبة ضئيلة، مصابة بتلك الطفرات، التي قد نتمكن من تقديم علاج ناجع لها لم نفكر فيه من قبل».
وقال سويرز إن الباحثين حاليا يقومون بما يطلقون عليه «تجارب السلة الواحدة» (basket trials) التي يربط بينها عامل مشترك واحد، فبدلا من دراسة مرضى سرطان الرئة، يدرس الباحثون كل المرضى الذين لديهم طفرات وراثية داخل ورمهم والتي يمكن أن يتم التصدي لها بالعلاج بعقار محدد. وأضاف: «شهد العام الماضي حالات نجاح كثيرة». وهو لا يتوقع فقط مزيدا من الاكتشافات في العقاقير لكنه أيضا يتوقع انتشار طريقة لترتيب أورام المرضى. وقال سويرز إن ترتيب الجينات الوراثية للورم اليوم يتم في معظم الأحوال في مراكز السرطان الكبرى بأموال التبرعات الخيرية. وقال إنه حتى في مركز «سولان كيترينغ» لا يجرى للمرضى سوى بعض الاختبارات الجينية الثانوية لعدم توفر المال الكافي. والأمل في أن يكون لكل مرض تشريح جزيئي، وبمجرد فهم ذلك سيؤدي إلى اكتشاف علاجات جديدة.
سمات وراثية
وقد يساعد التراكم المقترح للبيانات الجينية والسريرية لمليون شخص العلماء في اكتشاف السمات الوراثية التي تجعل بعض الأشخاص أكثر عرضة للإصابة بالمرض، وسبب ذلك. وكان هذا المحور الذي ركز عليه معهد «برود إنستيتيوت» في كمبريدج بولاية ماساتشوستس، إذ يحاول الدكتور سيكار كاثيريسان جاهدا أن يجمع البيانات الوراثية المتفرقة.
وفي إحدى دراساته الأخيرة تساءل ما إذا كان البروتينات الدهنية عالية الكثافة أو ما يعرف بالكولسترول الحميد تحمي بالفعل من الإصابة بأمراض القلب أو أن الأمر (عادي) مثل ظهور الشعر الأشيب والتقدم في العمر، لكنه لا يسبب التقدم في العمر.
إن الأشخاص الأقل عرضة للإصابة بمرض القلب كثيرا ما يكون معدل الكولسترول الحميد لديهم مرتفعا، لكن هل يساعد هذا في الحد من احتمالات إصابتهم بمرض القلب؟ للحصول على إجابة، احتاج كاثيريسان وزملاؤه إلى بيانات من أكثر من 116 ألف شخص شملتهم 20 دراسة. وفي كل مرة كان على فريقه الاتصال بباحثي تلك الدراسات من أجل طلب المساعدة في تحليل بياناتهم. وفي النهاية اكتشف فريق كاثيريسان أن الكولسترول عالي الكثافة ليس السبب المباشر الذي يحمي من الإصابة بمرض القلب.
وإن حدث وقدمت مبادرة الطب الدقيق المستند إلى العوامل الجينية بيانات وراثية وسريرية في صيغة سهلة الاستخدام، فإن ذلك سوف يوفر دفعة قوية لمثل تلك الدراسات على حد قول العلماء. وأوضح سويرز قائلا: «إنها تجربة نحن على استعداد للقيام بها. إنها ليست مشروعا ضخما وهائلا كوصول الإنسان إلى القمر، بل مسألة يسهل التعامل معها».
* خدمة «نيويورك تايمز»