أجود مجبل: أعدنا الروح إلى جسد القصيدة الكلاسيكية التي أصابها النظامون في مقتل

الشاعر العراقي يرى أن طرح أسئلة الوجود الكبرى من صميم عمل الشعر

أجود مجبل
أجود مجبل
TT

أجود مجبل: أعدنا الروح إلى جسد القصيدة الكلاسيكية التي أصابها النظامون في مقتل

أجود مجبل
أجود مجبل

يكتب للشاعر العراقي أجود مجبل، الذي يشارك في فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب ضمن الوفد العراقي، الشعر العمودي وقصيدة النثر وشعر التفعيلة. وقد صدرت له لحد الآن ست مجموعات شعرية. ولد مجبل في سوق الشيوخ بمحافظة ذي قار (جنوبي العراق) عام 1958، وهو عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق وعضو اتحاد الكتاب العرب، وقد فاز بجائزة الإبداع العراقي لفئة الشعر عام 2019. ومن المقرر أن يشارك الشاعر في أمسية شعرية اليوم الأحد، ضمن فعاليات المعرض. هنا حوار معه:

> تشاركون في الأمسيات الشعرية لمعرض الرياض الدولي للكتاب، كيف تصف الحضور العراقي في هذا معرض هذا العام؟
- بعد انقطاع طويل عن أشقائه في المملكة العربية السعودية، يشارك العراق بوفد ثقافي كبير في معرض الرياض الدولي للكتاب هذا العام، برئاسة وزير الثقافة العراقي د. حسن ناظم، ويضم الوفد تشكيلة ثقافية متنوعة ومن جميع المحافظات العراقية.
> لديك ست مجموعات شعرية، دعنا نبدأ من آخر مجموعاتك الشعرية: «مناسك تشرين»... كأنها انتفاضة الشعر مع شباب تشرين؟
- بلا شك نحن عملنا بدأب ومثابرة من أجل إعادة الروح إلى جسد القصيدة العربية الكلاسيكية التي أصابها النظامون في مقتل، ولا أدري إن كنا نجحنا بهذا العمل أم لا، في النهاية الأمر متروك للنقاد وللجمهور العربي. المشهد الأدبي والشعري في العراق مزدهر وفي لمعان دائم، وهو يتناسب عكسيا مع الظروف المأساوية التي مر بها الشعب العراقي وما زال.
> من بين مجموعاتك الشعرية مجموعة «كأنه»، التي قلت إنها تمثل خلاصة تجربتك الكتابية... كيف تصف هذا العمل؟
- ديواني الشعري الخامس (كأنه) يمثل بالنسبة لي محاولة بالغة الثراء في تطور اللغة وتراكم الوعي الشعري والانحياز التام لقضايا الإنسان المقهور، والكتاب من منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق لعام 2021 وهو معروض الآن في معرض الرياض الدولي للكتاب.
> هل يصلح الشعر لطرح «الأسئلة الوجودية الكبرى»، كما يحاول هذا الديوان؟
- أسئلة الوجود الكبرى هي من صميم عمل الشعر، ربما يكون الشعر غير معني بالإجابات كما هو معني بطرح الأسئلة التي تنير العقل الإنساني وتضعه في المقدمة من كل شيء، وفي ديواني (كأنه) تجد ذلك واضحا وبغزارة...
> أنت شاعر عمودي، مررت بتجربة مع قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة... كيف تنوع بين هذه القوالب الشعرية؟
- زاولت كتابة الشعر بكل أشكاله ولم تكن عندي في يوم ما عقدة تجاه شكل معين في الشعر، النص حين يكون حافلا بالشعر يجعلنا ننسى أنه كتب بأي شكل، والشاعر الحقيقي يحاول دائما أن يكتب نصاً «بلا أكسباير»، منتميا للإنسان وقضاياه وهذا هو المهم في الأمر.
> كيف ترى أهمية النقد في تجربة الشاعر؟
- عملية النقد مهمة جدا في تقويم وتقييم مسيرة الشاعر، وهو الصدى الذي يعقب الصوت، الناقد هو عقل آخر يشتغل على النص، لذلك قد يجد الناقد ما لم ينتبه إليه الشاعر في نصه، وهذا يشكل إضافة حقيقية بالطبع، لذلك أجد من أجمل وأثرى النقود التي كتبت كانت من قبل نقاد هم شعراء أيضاً.
> ما هي علاقتك مع النقاد... نعلم أن تجربتك الشعرية تعرضت للكثير من الدراسات النقدية وبعض النقاد أطلق عليك وصف «جواهري القصيدة العمودية الحديثة»
- الشعر لا يستغني عن النقد، فهما وجهان لإبداع واحد، وعلاقتي بالنقد وطيدة ودائمة وجميع النقاد الذين كتبوا عني أحترمهم كثيرا، ومنهم من لم تكن لي معهم علاقة سابقة ولم ألتق بهم أبدا مثل الراحل فاروق شوشة الذي كتب عني مقالا في مجلة العربي الكويتية عام 2011، وآخر كتاب نقدي صدر عني هو للدكتور رحمن غرگان عام 2021 وهو دراسة عن ديوان (كأنه) بعنوان (حواس القصيدة) وقبله بعام صدر كتاب (أجنة النص) للدكتور صباح التميمي وكان أحد فصوله الأربعة عن ديواني الأول (رحلة الولد السومري).
> بمناسبة الحديث عن القصيدة الحديثة، هل استطاع الجيل الذي تنتمي إليه أن يكسر نمطية القصيدة العمودية بلغة وبصور حديثة؟
- بلا شك نحن عملنا بدأب ومثابرة من أجل إعادة الروح إلى جسد القصيدة العربية الكلاسيكية التي أصابها النظامون في مقتل، ولا أدري إن كنا نجحنا بهذا العمل أم لا، في النهاية الأمر متروك للنقاد وللجمهور العربي.
> حصلت على العديد من الجوائز، كان آخرها جائزة الإبداع العراقي لفئة الشعر عام 2019... كيف تؤثر الجوائز في مسيرة المبدعين...؟
- الجوائز الشعرية برأيي هي محطات استراحة في مسيرة الشاعر الحافلة بالتعب والاغتراب، كما هي وسيلة للانتشار الإعلامي وتشكل دافعا ومحرضاً للاستمرار في الكتابة عند كثير من الشعراء، لكن الذي نراه في كثير من الجوائز الشعرية أن لجان التحكيم غير معنية بالشعر وتعلن أسماء الفائزين لاعتبارات جغرافية وسياسية وإعلامية.
من شعره
(كأنه هو)
على طريق غوايات ملفقة
وقفت وحدي وحولي أمة تمشي
ناديتهم: أيها المستنفدون، قفوا
حتى أطمئن عصفوراً بلا عش
أحكي له عن ذويه الطيبين وعن
بيت صغير غداً يبنيه من قش
أنا سليل المعاصي وابن حكمتها
من هذه الأرض من تأريخها الوحشي
لا جيش مر هنا
إلا ويعرفني محارباً
فتح الدنيا بلا جيش
سوى بقايا حروف
أستعين بها على البلاد
وقلب بالغ الطيش
دافعت عن ظبية خلف التلال بكت
وعابر باحث عن ظله الهش
سألت عن حارس الأوراق،
كم تركت بوجهه قبضات الريح
من خدش
فقيل: صار كتاباً لا يفسره
إلا المحبون
والناجون من بطش
وقال لي شيخنا الأعشى:
أنا قلق عليك
فالشعر ضوء باهر يعشي
فلا تحدق طويلاً في القصيدة يا فتى
ولا يختلط معناك بالعيش
فقد تصير البلاد الحلم مقبرةً
ويصبح الوطن العشبي كالنعش



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.