نجلاء بودن رمضان... أول رئيسة حكومة عربية

أستاذة جامعية وإدارية تونسية «في خدمة الدولة»

نجلاء بودن رمضان... أول رئيسة حكومة عربية
TT

نجلاء بودن رمضان... أول رئيسة حكومة عربية

نجلاء بودن رمضان... أول رئيسة حكومة عربية

فاجأ الرئيس التونسي قيس سعيد غالبية المراقبين داخل تونس وخارجها بتعيين امرأة في الـ63 من عمرها رئيسة جديدة للحكومة بعد أكثر من شهرين من الجدل والصراعات، في أعقاب إبعاد حكومة هشام المشيشي وحل البرلمان وتعليق العمل بأغلب فصول الدستور بحجة تعرض البلاد لـ«خطر داهم». وكانت المفاجأة الثانية أن نجلاء بودن رمضان التي عُينت في هذا المنصب لم تكن ضمن قائمة المرشحات له، رغم تأكيد تقارير إعلامية كثيرة منذ شهرين أن «الخلف» المحتمل للمشيشي قد يكون سيدة. إذ توقع كثيرون أن تكون رئيسة الحكومة المقبلة الوزيرة نادية عكاشة، مديرة مكتب الرئيس وكبيرة مستشاريه في قصر قرطاج. وفي مطلق الأحوال، لم يكن يُعرف عن بودن الانخراط في الصفوف الأولى للحياة السياسية والشأن العام طوال مسيرتها العلمية والهندسية في المدرسة العليا للمهندسين، ثم منذ تعيينها في 2006 على رأس مسؤوليات في وزارة التعليم العالي.
بخلاف الغالبية الساحقة من رؤساء الحكومات الذين تداولوا على المنصب في تونس، منذ استقلال البلاد عن فرنسا في مارس (آذار) 1956، لا تنحدر نجلاء بودن رمضان من محافظات «الساحل» أو من العاصمة تونس، إذ إنها من أصيلات مدينة القيروان العريقة، العاصمة الأولى للبلاد ولكامل شمال أفريقيا والأندلس إبان العهدين الأموي والعباسي الأول.
وإذا تلتقي نجلاء بودن مع رئيس الحكومة السابق هشام المشيشي في كونها من أبناء الجهات الداخلية «المهمشة» مثل محافظات القيروان وسليانة وجندوبة، فإنها تختلف عنه اجتماعياً، كونها تنحدر من واحدة من أعرق وأغنى العائلات السابقة في القيروان، التي هاجرت إلى العاصمة أو إلى مدن منطقة «الساحل» التي ينحدر منها الرئيسان الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي ومعظم وزرائهما.
ومن ناحية أخرى، بودن أصيلة «قلب مدينة القيروان التاريخية، داخل الأسوار التاريخية، وليست من بنات أريافها الفقيرة أو أحيائها الشعبية». ثم إنها من عائلة حضرية ميسورة الحال نسبياً وليست من بنات القبائل والوافدين الذين أصبحوا غالبية السكان في المدينة وضواحيها بعدما توسعت أرجاؤها وتضاعف عدد سكانها عشرات المرات بفعل النزوح والهجرة. وأيضاً على المستوى الأسري، تزوجت نجلاء بودن بطبيب أصيل مدينة المهدية الساحلية السياحية، 180 كلم جنوبي العاصمة تونس، من عائلة رمضان.
- خريجة جامعات فرنسا
تعد نجلاء بودن واحدة من خريجات «مدرسة الزعيم الحبيب بورقيبة والدولة الحديثة»، عندما كان النجاح في المدارس العمومية شرطاً للدخول إلى جامعات العاصمة تونس والحصول على منحة دراسة في جامعة أوروبية. وبالفعل كانت نجلاء بودن واحدة من أبرز طالبات تونس المتألقات في «المدارس العليا الكبرى» الفرنسية للهندسة وعلوم المناجم بعد فوزها بمرتبة متقدمة في «المدارس التحضيرية لدخول كبرى الجامعات الفرنسية». ومن ثم، تخرجت نجلاء بالإجازة في الهندسة ثم حازت درجة الدكتوراه عام 1987 من جامعة فرنسية مرموقة متخصصة في علوم المناجم هي «الإيكول دي مين دو باريس».
هذه المؤهلات العلمية، إلى جانب الخبرة في الجامعات الفرنسية، أهلت بودن لأن تعين أستاذة في «المدرسة الوطنية للمهندسين» في «المركب الجامعي» الكبير في جامعة العاصمة تونس، وهي واحدة من جامعات النخبة في البلاد. ولقد حافظت الدكتورة بودن على موقعيها الأكاديمي والعلمي حتى 2006، وهو تاريخ تكليفها لأول مرة بمهمة إدارية وتعليمية بصفة مستشارة في ديوان وزير التعليم العالي وقتها والقيادي في الحزب الحاكم العميد الأزهر بوعون.
- مسؤولة «مخضرمة»
تابعت نجلاء بودن التدريس في المدرسة العليا للمهندسين المختصين في علوم المناجم والزلازل والمتغيرات الجغرافية، في الوقت الذي حافظت طوال السنوات الـ15 الماضية على منصب مستشارة بامتيازات مدير مركزي، أو مدير عام، مع كل وزراء التعليم العالي الذين تعاقبوا على الوزارة منذ عام 2006، بدءاً من عميدي كلية الحقوق السابقين الأزهر بوعون (2006 - 2010) والبشير التكاري (2010 - 2011). وأيضاً، بعد «ثورة يناير (كانون الثاني)» على حكم الرئيس بن علي 2011، وإسناد الحقيبة إلى وزراء من المعارضة السابقة بينهم أحمد إبراهيم، الزعيم السابق للحزب الشيوعي (حزب «التجديد» و«المسار» لاحقاً)، والمهندس المنصف بن سالم، القيادي في حزب «حركة النهضة» الإسلامي، والخبير التقني المستقل شهاب بودن، الذي يحمل اسمها العائلي نفسه وهو مثلها من مدينة القيروان وتخرج في جامعات فرنسية ثم عُين أستاذاً في «المدرسة الوطنية للمهندسين». ولقد عُين شهاب بودن وزيراً للتعليم العالي عام 2015 في الحكومة التي ترأسها المهندس الحبيب الصيد، وكانت في حينه ائتلافاً سياسياً بين حزبي «نداء تونس» بقيادة الباجي قائد السبسي و«حركة النهضة» بقيادة راشد الغنوشي وحزامهما البرلماني والسياسي.
في الواقع، تُعد نجلاء بودن من بين كوادر الدولة «المخضرمين» الذين تولوا مسؤوليات عليا في الدولة لسنوات عدة. وكلفت بملفات كثيرة للتعاون الدولي بين الوزارة ومؤسسات عالمية في عهد الوزيرة الحالية ألفة بن عودة صيود وسلفيها سليم خلبوص وتوفيق الجلاصي، اللذين عُينا بعد خروجهما من الوزارة في مؤسسات دولية خارج البلاد.
ولقد نوّه المؤرخ نور الدين الدقي، المدير العام السابق للتعليم العالي في الوزارة، خلال تصريح لـ«الشرق الأوسط»، بالخبرة العلمية والأكاديمية لـ«بودن»، مشدداً على خبراتها ومستعرضاً مناصبها التي شغلتها بكفاءتها، مديرة للتدريب في مدرسة المهندسين في 2004، ثم نائبة مدير، فمديرة ثم مستشارة بامتيازات مدير عام في مكاتب عدد من الوزراء قبل «ثورة 2011» وبعدها.
- استقلالية عن الأحزاب
في المقابل، في حين شكك البعض في فرص نجاح رئيسة الحكومة المعينة في تأدية مهمتها بسبب استقلاليتها عن الأحزاب الكبرى والنقابات المتحكمة في المشهد السياسي بتونس، ناهيك عن مؤسسات الدولة منذ 2011، أثنى عدد كبير من الحقوقيين والناشطات السياسيات على استقلاليتها. بل رأى هؤلاء في هذه الاستقلالية الميزة و«الورقة الرابحة» التي راهن عليها الرئيس قيس سعيد المستقل بدوره عن كل الأحزاب عند اختيارها.
وفي هذا السياق، شبّهت كلثوم كنو، رئيسة جمعية القضاة السابقة، رئيسة الحكومة المعينة بالمستشارة الألمانية المودعة أنجيلا ميركل... مع التذكير بتشابه الأسماء والأحرف بين «نجلاء» و«أنجيلا»... وسارت في هذا المنحى عديد صفحات المواقع الاجتماعية التي أطلقت حملة «نجلاء التونسية تخلف أنجيلا الألمانية».
من جانب ثانٍ يجمع مؤيدو نجلاء بودن وخصومها على أن كفاءتها العلمية والمهنية وحيادها السياسي والحزبي واستقلاليتها حقائق تفسر وتؤكد نجاحها في مسيرتها الإدارية رغم التغيرات وإبعاد عدد من المسؤولين السابقين في الوزارة والدولة بعد 2011، وهنا تحدث شكري النفطي، المستشار السابق لوزير التعليم العالي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، عن «السمعة الطيبة» التي تحظى بها نجلاء بودن وبما عُرفت به من «مثابرة في العمل صباحاً ومساءً»، وهو ما فسّر تكليفها برئاسة قطاعات استراتيجية في قطاعات التعليم العالي والبحث العلمي والتعاون الدولي، من بينها: «مراقبة الجودة» وتنفيذ مشاريع إصلاح التعليم العالي والشراكة مع المؤسسات الدولية كالبنك الدولي، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم «اليونيسكو»، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «الألكسو»، وهيئة المسح الجيولوجي الأميركية، والمركز الأوروبي المتوسطي لرصد الزلازل.
وفي الاتجاه ذاته، تكلم عدد من زملاء الرئيسة المعينة السابقين في ديوان وزارة التعليم العالي لـ«الشرق الأوسط»، منهم المدير العام للتعليم العالي نور الدين الدقي، ومدير عام ديوان قطاع الخدمات الجامعية سعيد بحيرة، وبالأخص، عن التزامها و«مثابرتها على العمل من دون كلل من الثامنة صباحاً إلى الثامنة مساءً».
- خبرة دولية
وفضلاً عما تقدم، ووفق شهادات عدد من الوزراء والمسؤولين السابقين في وزارة التعليم العالي ممن عملوا مع نجلاء بودن قبل مفصل 2011 وبعده، مما يميز رئيسة الحكومة المعينة إتقانها اللغات الأجنبية وبطلاقة، خاصة الفرنسية والإنجليزية، وهو ما أهّلها لأن تُعين على رأس قطاع العلاقات مع البنك الدولي والمؤسسات الأجنبية المعنية بالشراكة مع تونس في العديد من القطاعات مثل التربية والتعليم، والبحث العلمي، والتدريب. مع أن هذا الاختصاص دفع عدداً من خصومها ومعارضي تعيينها إلى شن حملة ضدها في المواقع الاجتماعية. كذلك، شنّت بعض المجموعات التي تصف نفسها بـ«المستقلة» حملة ضدها، متهمة إياها بسوء التصرف في منحة حصلت عليها الوزارة سابقاً من البنك الدولي قيمتها 60 مليون دولار أميركي (أي نحو 180 مليون دينار تونسي) بهدف تحسين مستوى التعليم والدراسات في جامعات تونس!
وذهب أشرف العيادي، رئيس منظمة «أنا يقظ»، غير الحكومية التونسية المدعومة مالياً من مؤسسات أميركية وأوروبية، إلى حد الكلام عن «وجود ملف تحقيق ضد نجلاء بودن» في تلميح عن «شبهة فساد» مزعومة. وكانت تقارير هذه المنظمة تسببت سابقاً في إسقاط حكومة إلياس الفخفاخ عام 2020 بعدما اتهمته بالتورط في «شبهة تضارب مصالح». وادعى العيادي أن رئيسة الحكومة المعينة شخصية «لقيت دعماً من قِبل السيدة الأولى حرم رئيس الجمهورية القاضية إشراف شبيل سعيد رغم معارضة محيط الرئيس». وأعرب عن «تخوفه» من أن يكون مصيرها مثل مصير رئيس الحكومة السابق هشام المشيشي الذي عُزل بعد «الإجراءات الاستثنائية» التي قررها الرئيس التونسي يوم 25 يوليو (تموز) الماضي، رغم الدعم القوي الذي لقيه أول الأمر من قبل قصر قرطاج عند تعيينه وزيراً للداخلية، ثم رئيساً للحكومة.
- وزيرة أم رئيسة حكومة؟
في المقابل، إلى جانب تنويه عدد من خصوم الرئيس سعيد وأنصاره بقراره تعيين نجلاء بودن على رأس الحكومة، فإنهم تساءلوا عما إذا كان سيسمح لها بأن تلعب دور «رئيس الحكومة» حسب الصلاحيات التي ينص عليها دستور البلاد الصادر في 2014، أم ستكون مجرد «وزيرة أولى» في «فريق حكومي» يرأسه رئيس الجمهورية شخصياً، حسب المرسوم 117 الذي أصدره يوم 22 سبتمبر (أيلول) الماضي.
إذ قال وليد الجلاد، البرلماني والقيادي في حزب «تحيا تونس»، إن رئيسة الحكومة المعينة «شخصية جامعية محترمة سبق أن كرمها من قبل الرئيس الأسبق الباجي قائد السبسي»، لكنه استطرد قائلاً: «... ولكن لا بد من التراجع عن المرسوم 117 الذي جعل من رئيس الدولة رئيساً فعليا للحكومة، وألغى الفصل بين السلطات والسلطة الرقابية للسلطة التشريعية المنتخبة على الحكومة والسلطة التنفيذية». كذلك رحب غازي الشواشي، زعيم حزب «التيار الديمقراطي» المعارض، بتعيين امرأة رئيسة للحكومة، ولكن مع مطالبة الرئيس سعيد بالتراجع عن المرسوم 117 وعن كل القرارات التي ألغت دور البرلمان والمؤسسات المنتخبة والدستور.
وفي المقابل، مع ثناء الوزير السابق والقيادي المنشق عن «حركة النهضة» سمير ديلو على مبدأ تعيين امرأة على رأس الحكومة، فإنه أعرب عن «أسفه» لأن هذه الخطوة جاءت في مرحلة تواجه فيها كل مؤسسات الدولة أزمة شرعية قانونية ودستورية «داخلياً وخارجيا» منذ القرارات الرئاسية الصادرة يوم 22 سبتمبر الماضي.
هذا، بينما وقع عشرات من أعضاء البرلمان الذي علق الرئيس التونسي أشغاله، لوائح تطالب بـ«استئناف العمل البرلماني والمسار الديمقراطي» في رد على هذه القرارات، رحّب أعضاء في الكونغرس الأميركي وسياسيون أوروبيون بارزون بتعيين بودن. إلا أن هؤلاء اعتبروا في تصريحات جديدة أن نجاحها مشروط بمعالجة الملفات الاقتصادية الاجتماعية المتراكمة وبأن تكون الحكومة «خاضعة لرقابة مؤسسة تشريعية منتخبة». فهل يؤدي تعيين حكومة نجلاء بودن إلى إخراج تونس من أزمتها... أم يعمق الأزمات المتراكمة منذ سنوات؟



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.