وزير الثقافة العراقي لـ «الشرق الأوسط»: نخطط لشراكات حقيقية مع السعودية

أكد أن الثقافة هي المظلة الكبرى التي تجمع البلدان العربية

وزير الثقافة والسياحة والآثار العراقي
وزير الثقافة والسياحة والآثار العراقي
TT

وزير الثقافة العراقي لـ «الشرق الأوسط»: نخطط لشراكات حقيقية مع السعودية

وزير الثقافة والسياحة والآثار العراقي
وزير الثقافة والسياحة والآثار العراقي

قال وزير الثقافة والسياحة والآثار العراقي الدكتور حسن ناظم، إن مشاركة بلاده ضيف شرف معرض الرياض الدولي للكتاب هذا العام، تأتي في أجواء متنامية بين العراق والسعودية، وعمل دبلوماسي دؤوب لبناء شراكات حقيقية على مختلف المستويات. وقال ناظم، إن مشاركة العراق في معرض الرياض الدولي للكتاب «تأتي في ظرف استثنائي يعزز الشراكات بين البلدين ويعزز الصلات بين الثقافتين». وقال في حوار مع «الشرق الأوسط»، إن العلاقات الدبلوماسية بين العراق ومحيطه العربي تمثل مرحلة جديدة من التواصل، مضيفاً أن «الثقافة العراقية مقبلة على ظروف نوعية تعيد صلاتها، خاصة بالثقافة العربية، حيث هي المظلة الكبرى التي تجمع البلدان العربية، والعراق باعتباره فاعلاً في هذه الثقافة عبر قرن من الزمان يعود الآن بوضع جديد في صلاته مع العالم العربي، ولا سيما مع السعودية».
كما أوضح وزير الثقافة العراقية، أن زيارة الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، وزير الثقافة السعودي، للعاصمة العراقية بغداد في أبريل (نيسان) 2019 كانت لها أصداء إيجابية رائعة لدى الأوساط العراقية، واصفاً الزيارة بأنها «غير تقليدية»، وكانت بداية لتعاون ثقافي حقيقي بين البلدين.
تحدث الوزير العراقي لـ«الشرق الأوسط» من واشنطن، حيث كان يحضر تسلم «لوح جلجامش» إحدى النفائس الاثرية التي تمّ تهريبها من العراق... وذلك قبيل افتتاح معرض الرياض الدولي للكتاب، حيث يشارك في فعالياته:

> كيف تصفون مشاركة العراق هذا العام في معرض الرياض الدول للكتاب؟
- مشاركة العراق هذا العام في معرض الرياض الدولي للكتاب، هي مشاركة حيوية وتأتي في ظروف استثنائية؛ فالعلاقات مع المملكة العربية السعودية تتصاعد وتتزايد على صُعد كثيرة في جانبها الثقافي وفي جانبها الاقتصادي. هذه المشاركة هي أيضاً تتويج لكل الجهود التي بذلتها المملكة والعراق من أجل استعادة هذه الصلات المحورية والأساسية بين البلدين. نحن نعلم أن الصلات الثقافية هي صلات أساسية لصياغة علاقات بين المجتمعات. وأنا أحسب أن الصلات الثقافية لم تنقطع أساساً لأن المثقفين والفنانين والأساتذة الجامعيين في كلا البلدين ظلوا يعملون في حقول الثقافة والفن، وبينهم صلات متواصلة. أنا عن نفسي لي علاقات مميزة في الوسط الأكاديمي السعودي والوسط الثقافي السعودي، وكانت لنا زيارات قبل هذه المشاركة في المعرض. إذن، تأتي مشاركة العراق في معرض الرياض الدولي للكتاب في ظرف استثنائي يعزز الشراكات بين البلدين ويعزز الصلات بين الثقافتين، ويعزز أيضاً الأنشطة الفنية، ويتيح مزيداً من الأعمال المشتركة في ضوء مذكرة التفاهم التي وُقّعت بين البلدين قبل فترة قريبة.
> ماذا يعني لكم هذا التواصل الثقافي بين البلدين... وبين التراث الثقافي والأدبي في كلا البلدين؟
- التواصل الثقافي بين البلدين هو أمرٌ حتمي؛ لأن البلدين ينطويان على ثقافة مشتركة، لسنا في حاجة إلى أدلة لإثبات هذه الصلات التراثية والتاريخية والثقافية. المملكة العربية السعودية والعراق بلدان متجاوران؛ هناك امتدادات ثقافية، وامتدادات أسريّة وعشائرية، وهناك تشارك في كثير من ظواهر الثقافة بين البلدين، وبالتالي ليس هناك غرابة في أن تجد سماتٍ مشتركة بين البلدين. الثقافة في المملكة العربية السعودية لها جذور في العراق على مستوى الشعر وعلى مستوى الأدب إجمالاً وحتى الفكر، وبالتالي العراق بوصفه بلداً أساسياً من أعمدة الثقافة العربية، يجد أيضاً له وجهاً في المملكة العربية السعودية، لنا تاريخ من أولئك الأساتذة الكبار الذين عملوا في المملكة منذ السبعينات، وما زالت إلى الآن تجاربهم في المملكة لها صدى مشهود، وأيضاً التأثير الثقافي للمثقفين السعوديين الذين أثروا الثقافة العربية، وتركوا تأثيراً في الثقافة العراقية. هذا التبادل والاشتراك هو أساس كبير لتطوير العلاقات بين البلدين.
> يحتفي معرض الرياض هذا العام برموز الأدب والفكر والفن العراقي، حيث يلتقي على ضفافه محمد مهدي الجواهري وبدر شاكر السياب مع علي جواد الطاهر، على إيقاع موسيقى نصير شمة، وأغاني سعدون جابر، وأطلال مدن «أور، بابل، النمرود»... كيف تقيّمون هذا الحضور العراقي الباذخ؟
- البرنامج الذي هيأه معرض الرياض الدولي للكتاب لجمهورية العراق بوصفها ضيف شرف على هذا المعرض، برنامج واسع وكريم ومنظّم، يشمل أماسي شعرية، وندوات فكرية، ومحاضرات؛ ولذلك فالوفد الكبير الذي نصطحبه معنا يضم مثقفين وفنانين وشعراء عراقيين لهم إسهامات. المعرض أيضاً احتفى بالراحلين من كبار الأدباء والنقاد العراقيين، مثل شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، وشاعر الحداثة الشعرية العربية بدر شاكر السياب، وأيضاً الناقد الكبير علي جواد الطاهر، الذي له خصوصية في المملكة العربية السعودية؛ لأنه قضى سنوات يدرس في الجامعات السعودية.هذا برنامج غني ويشمل الفنّ أيضاً بحضور الموسيقار نصير شمة وسعدون جابر، وهناك محاضرات عن الآثار في العراق... إذن، هناك شمولية في تنظيم الأنشطة العراقية، وهذه مناسبة لأن نشكر فريق العمل السعودي الذي بذل جهوداً كبيرة في متابعة وتنظيم المشاركة العراقية.

الثقافة عابرة للحدود

> كيف يمكن للثقافة والتراث أن يعيدا إحياء ما يجمع بين المملكة العربية والسعودية والعراق من أواصر؟
- الحقيقة، حتى في تلك السنوات التي وضعت فيها ظروف سياسية معينة حقبة من الانقطاع - للأسف – لم تتمكن أن تقطع الأواصر الثقافية... خاصة أن تلك الحقبة من الانقطاع لم تمثل انقطاعاً كاملاً على المستوى الثقافي والتراثي؛ المثقفون العراقيون والأساتذة الجامعيون في كلا البلدين كانوا على تواصل. لأن الحقول الفكرية والحقول النقدية وحقول الفلسفة والترجمة وعلم اللغة هي مستمرة لا تنقطع... الباحث في المملكة العربية السعودية يتطلع لإنتاج العرب جميعاً وليس العراق فقط، والباحث في العراق يتطلع إلى الإنتاج الثقافي والتراثي في المملكة وفي غيرها من البلدان العربية. فالحقيقة أن الثقافة عابرة للحدود، وليس شرطاً أن تتأثر بالظروف السياسية ومما تحتمه – أحياناً - من انقطاعات بين البلدان.
> هذا يضع مسؤولية إضافية على الثقافة والمثقفين؟
- نعم، أمام الثقافة مهمة أكبر الآن، في ضوء ملاءمة الظروف لاستعادة صلات أساسية بين الثقافة السعودية والثقافة العراقية. بالتأكيد، حقبة الانقطاع تؤثر بنحوٍ ما، لكن نحن الآن أمام حقبة فيها إقبال رائع، وفيها قرار سياسي شجاع، يؤسس إلى ترك الماضي وراءنا، والانطلاق في علاقات جديدة وعلى مستويات عديدة، ومن خلال المجلس التنسيقي السعودي – العراقي، الذي يمثل إطاراً للتعاون في مجالات متعددة، بينها الثقافة، والمذكرات التي وُقّعت بين البلدين؛ سنشهد في الحقبة المقبلة تلاحماً وتوطيداً للصلات الثقافية أكبر، وفيها بشائر خير لكلا الشعبين ولكل البلدين.
> كانت هناك زيارات متبادلة، بينكم وبين وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان... كيف تقيّمون التعاون الثقافي بين البلدين... وإلى أين يتجه؟
- وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، زار العراق قبل مدة، ورأى بعينيه أثر الثقافة العراقية، وزار شارع المتنبي - وكثيراً ما أشار إلى ذلك - وهو شارع «الأيقونة» للثقافة العراقية، وفي لقائي معه عبر برنامج «زووم» كان هناك تبادل للأفكار بأريحية عالية وبجوٍ إيجابي ورائع، خططنا فيه (الحوار) لمشاركتنا في هذا المعرض، وخططنا فيه للقيام بتنظيم أسابيع ثقافية وفنية في بغداد والرياض، وهناك انفتاح لدى وزير الثقافة على كل ما يمكن أن نفعله في هذه المدة وفي هذه الظروف، بمعنى آخر؛ إن الأساسات أقيمت، وإن العجلة تقدمت إلى الأمام، ولن يكون هناك حاجة إلى الالتفات إلى الوراء.
في العراق، نحن أيضاً في وزارة الثقافة والسياحة والآثار، لدينا رغبة وانفتاح شديدان على العمل مع الحاضنة العربية، ومع إخواننا العرب والبلدان العربية جميعاً، ناهيك عن العمل مع المملكة العربية السعودية؛ التي لها معنى كبير لحضورها في بلدنا، وصلاتها التاريخية بنا.
> ماذا بشأن معرض الكتاب؟
- في معرض الرياض للكتاب كان هناك عناية فائقة، وخاصة من الأمير بدر، بالجناح العراقي والأنشطة العراقية، للتخطيط لحضور ثقافي عراقي في معرض الرياض، واستثمار وجودنا كضيف شرف للمعرض، هناك أنشطة عديدة أخرى وعروض موسيقية ومحاضرات خاصة، وبرنامج واسع ولمسنا حسن التنظيم ودقته والتشجيع على طرح المزيد من الفعاليات... وقد أبدت وزارة الثقافة السعودية استعدادها لإقامتها خلال معرض الرياض الدولي للكتاب، وهذا أمر يدعو للبهجة والتفاؤل لمستقبل هذه العلاقات وتنميتها.
> هل هناك مشاريع ثقافية وأدبية وفنية عراقية - سعودية يجري تنفيذها الآن؟ وما هي المشاريع التي تدرسونها مع الجانب السعودي للسنوات المقبلة؟
- هناك عمل مشترك ضمن أعمال المجلس التنسيقي العراقي - السعودي، ففي الآثار هناك جهد مشترك لتسجيل «درب زبيدة» طريق الحج القديمة على لائحة التراث العالمي، أيضاً هناك مشتركات آثارية لهذا الامتداد الجغرافي والثقافي بين البلدين، كذلك هناك تفكير في وضع خطط لإنجاز مشروعات فنية، وعلى المستوى الثقافي كان هناك اتفاق مبدئي في إقامة أسابيع ثقافية وفنية في بغداد والرياض.
> كم عدد دور النشر العراقية والعناوين المشاركة في معرض الرياض للكتاب؟
- أعداد دور النشر العراقية في معرض الرياض الدولي للكتاب قد تبلغ 20 داراً، ضمنها الدور الحكومية لوزارة الثقافة والسياحة والآثار، وهي دار الشؤون الثقافية العامة المسؤولة عن طباعة الكتب، ودار المأمون للترجمة، ودار ثقافة الأطفال، ودار النشر الكردية، المسؤولة عن جسر وربط الثقافتين الكردية والعربية، إضافة إلى الهيئة العامة للآثار والتراث التي تشارك بإنتاجها من الكتب والمجلات، مثل مجلة «سومر» ذات الصيت الذائع وغيرها، وستبلغ العناوين التي تقدمها الدور العراقية في معرض الرياض ما يقرب من 500 عنوان.

آثار العراق

> أنتم حالياً في واشنطن بعد تسلم «لوح جلجامش» إحدى النفائس الاثرية التي تمّ تهريبها من العراق... هل لديكم إحصاء بهذه الآثار وأماكن وجودها؟
- فيما يتعلق بالآثار المنهوبة من العراق، فأعدادها كبيرة جداً. لا نتحدث هنا عن تلك الآثار التي سُرقت من المتحف العراقي، فهذه مسجلة، وهناك فيها إحصاء ووثائق، ونحن نلاحقها. استرددنا بعضاً منها، ونعمل على استرداد الباقي والهيئة العامة للآثار والتراث تساعدنا في ذلك، كما تساعدنا وزارة الخارجية العراقية، عبر صلاتها وسفاراتها في العالم. وأيضاً تساعدنا قوانين الدول الصديقة التي تمنع تهريب الآثار العراقية وتجرّم التعامل بها.
بقية الآثار المسروقة هي مسروقة نتيجة للنبش العشوائي في الأراضي العراقية. تعلم أن العراق يضم مساحة جغرافية كبيرة وفيه حضارات متنوعة عبر التاريخ، وأينما ذهبت وحفرت تجد آثاراً لحضارات آشور وحضارات بابل وسومر وأكد وكيش، وغيرها من الحضارات التي تعاقبت على العراق. فالعراق كله آثار وبالتالي تصعب السيطرة على أراضيه لا بالشرطة الآثارية ولا حتى بالتكنولوجيا، ونحن نتعرض إلى هجمات كثيرة في هذا الصدد، وهي خفّت الآن، وليست كما كانت مستعرة في الأيام الأولى بعد العام 2003، لكن الآن هناك سيطرة نوعاً ما على أراضينا.
> ما هي الجهود الإقليمية المبذولة لحماية الآثار في هذه المنطقة عموماً؟
- دعاني أوضح، أولاً على الصعيد العراقي المحلي، هناك وعي يتنامى الآن أكثر من السابق في مسألة معنى هذه الآثار ومعنى استردادها، حيث بدأ كثير من الذين حصلوا على بعض الآثار يعيدونها طوعاً إلى وزارة الثقافة والآثار. هذا الوعي ضروري أن ينتشر أيضاً في البلدان المجاورة. حيث شكلت البلدان المجاورة للعراق محطات لتهريب الآثار العراقية. تلك الآثار التي وصلت إلى الولايات المتحدة وإلى أوروبا لم تخرج من العراق مباشرة، بل ذهبت عبر بلدان الجوار؛ ولذلك نحن نهيب بهذه الدول التي هي دول صديقة وغيورة على تراث المنطقة أن تمنع تهريب الآثار، وأن تصدر قوانين تجرّم الاتجار بهذه الآثار؛ حفظاً لتراث المنطقة التي تضم تراثاً عظيماً، لا يقتصر على العراق فحسب، فكل هذه الدول كالسعودية وسوريا وتركيا وإيران غنية بالآثار، ومن الصالح للجميع أن يحافظوا عليها، وأن يصدروا قوانين تحول دون تسهيل عمليات تهريب وسرقة الآثار.
> برأيكم، متى ستكون مناطق الآثار العراقية جاهزة لاستقبال الزوار من مختلف العالم؟
- السياحة الأثرية في العراق لم تكن منتعشة في أي يوم من الأيام، ويجب أن نعترف بهذه الحقيقة! إذا أخذنا بالحسبان سياسات الديكتاتوريات قبل عام 2003 نجد الأنظمة المستبدة عموماً لا تشجع على السياحة؛ لأن نظرتها إلى السياح وإلى كل زائر هي نظرة مريبة، فالسياحة الآثارية لم تكن منتعشة في العراق قبل 2003، فقد كانت مقتصرة على الآثاريين الدارسين والمنقبين وعلى البعثات التنقيبية الأجنبية التي تأتي باتفاق مع الحكومة.
بعد التغيير وانفتاح البلد مرّ العراق بظروف أمنية، وبموجة عاتية من الإرهاب، هذه الأحداث خلقت بيئة غير آمنة للسياحة عموماً وليس فقط للسياحة الآثارية. لكن هناك تصميماً الآن بعد كل الإنجازات التي تحققت في القضاء على الإرهاب، وبعد توفير بيئة آمنة نسبياً، هناك عمل حثيث وهناك خطط لإنعاش السياحة الآثارية وعدم الاقتصار على البعثات التنقيبية وعلى الدارسين الآثاريين الأجانب... هناك تشجيع، خاصة بعد زيارة البابا لمحافظة «ذي قار» في الناصرية وزيارة «بيت إبراهيم» الذي يقع في المنطقة الأثرية المهمة (أور)، لدينا خطة لإنعاش السياحة الآثارية في العراق، وخاصة تلك الأماكن التي تمثل قدسية لبعض الديانات، وأيضاً الآثار في بابل وآشور التي دخلت لائحة التراث العالمي (اليونيسكو)... على الصعيد الاقتصادي، يلزمنا شيء من التعافي؛ لأن إنعاش المواقع السياحية يقتضي القيام بصيانات للمواقع الاثرية ويقتضي إقامة بنى تحتية في هذه المواقع لكي تكون في خدمة الزائرين والسائحين؛ ولذلك نحن نضع خطة لذلك - وإن شاء الله - يتعافى الاقتصاد فتتعافى معه السياحة الآثارية.

المشهد الثقافي

> بصفتكم أستاذاً وباحثاً وناقداً ومؤلفاً كيف تقيمون المشهد الثقافي في العراق؟
- أنا أرى أن الثقافة في العراق ما زالت منتجة وفاعلة، واعتقادي، أن الظواهر الثقافية في البلدان لا تنهار بانهيار الأنظمة السياسية. نعم، كانت هناك لدينا مشاكل ومعضلات وظروف عصيبة. بعد العام 2003 تعرّض البلد للغزو والاحتلال، فضلاً عن الصعوبات والتحديات التي خلفها النظام الديكتاتوري... وكل هذا بالتأكيد خلّف آثاراً على الثقافة العراقية وعلى إنتاجها... لكن أنا أقول إن الدول تنهار، والحضارات تنهار، والثقافة تستمر!
ما زال العراق ولّاداً للمثقفين والأساتذة الجامعيين، وما زالت المبادرات الفردية لدى مثقفينا موجودة هنا وهناك؛ مبادرات في الفكر والفن... كل ما هنالك نحن نحتاج إلى مزيد من البنى التحتية التي تؤهل المثقفين والفنانين للاستمرار في عملهم، ولدعم عملهم.
> تتحدثون عن توجه الحكومة نحو التواصل مع المحيط، كيف تعملون لتحقيق هذه الغاية؟
- نعم، المرحلة الراهنة ترسم مرحلة جديدة من التواصل مع المحيط والعالم، هي هذه الظروف التي نراها هذه الأيام، وخاصة عبر السنتين الأخيرتين، وهناك جهود تبذلها الحكومة العراقية التي أسمت العام الحالي بعام الدبلوماسية، هذا الانفتاح الذي تقوده الحكومة يمثل وجهة نظر جديدة في العلاقات مع دول الجوار الإقليمي، فعودة العراق إلى دوره الفاعل في المنطقة؛ كونه نقطة لقاء حتى للمتصارعين في الشرق الأوسط، والرحلات المكوكية التي تبذلها الحكومة بشخص رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي، سواء رحلاته باتجاه المملكة العربية السعودية أو زياراته إلى الإمارات العربية المتحدة أو القمة الثلاثية مع الأردن ومصر، خلقت بيئة ملائمة جداً، ليس فقط لإنعاش الثقافة العراقية وإعادة صلتها بالعالم، بل بإنعاش بلادنا عموماً على المستوى الاقتصادي والاجتماعي..
الثقافة العراقية مقبلة على ظروف نوعية تعيد صلاتها، خاصة بالثقافة العربية، حيث هي المظلة الكبرى التي تجمع البلدان العربية، والعراق باعتباره فاعلاً في هذه الثقافة عبر قرن من الزمان يعود الآن بوضع جديد في صلاته مع العالم العربي ولا سيما في البلدان العربية المجاورة وخاصة المملكة العربية السعودية.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي