مذاقات متعددة في وعاء واحد

اتجاه عصري يعيد ثقافة الأسلاف

من الأطباق التي يمكن طهيها في وعاء واحد
من الأطباق التي يمكن طهيها في وعاء واحد
TT

مذاقات متعددة في وعاء واحد

من الأطباق التي يمكن طهيها في وعاء واحد
من الأطباق التي يمكن طهيها في وعاء واحد

كل يوم، يقدم الطهاة حول العالم أطباقاً مبتكرة تثير الشهية، وتحرك الرغبة في التجربة، غير عابئين بالوقت والفوضى التي تتركها تجربة طهي ربما تكون مثيرة؛ وهذا ما دفعهم باتجاه ابتكار أطباق «الوعاء الواحد».
هذه الفكرة باتت اتجاهاً أو «تريند» لا يقاوم، فما أجمل من أن تمتزج مكونات طازجة وتتعانق روائحها في تجربة طهي على الأغلب يكتب لها النجاح، إذ يبدو الطهي في «وعاء واحد» مصمماً خصيصاً لهذا العصر، ولكن هذه النوعية من الأطباق تُعد منذ آلاف السنين في مطابخ، لتعكس ثقافات مختلفة في جميع أنحاء العالم.
فمصطلح «وعاء واحد» (one pot) يعني مزج جميع مكونات الطبق داخل وعاء، مثل «الصينية» أو «المقلاة»، واستخدام موقد واحد فقط، ما يعني توفيراً في الوقت والجهد والخامات. ووفقاً لخبراء الطهي، ندرك أن الإنسان البدائي كان يفكر بهذا النمط. ويدلل على ذلك مؤرخ الطعام مايكل تويتي، مؤلف كتاب «ذا كوكينج جين»، حيث يقول إن أسلافنا كانوا يطبقون هذه التقنية لأنها تلبي احتياجات البقاء الأساسية، وتوفر الوقت والماء والحطب، وهي ثلاثة من أهم العناصر في تحضير الطعام في الماضي.
ففي العصور الوسطى في أوروبا، كانت طريقة الطهي في وعاء واحد هي انعكاس طبيعي لشكل الحياة وقتذاك بسبب الطقس البارد، فقد اعتاد الأوروبيون على وضع قِدر كبير من الحديد الزهر على الموقد طيلة اليوم بهدف التدفئة، وكان القدر نفسه هو وعاء الطهي الوحيدة الذي توضع فيه الخضراوات والحبوب، وربما اللحوم، لتندمج وتتحول إلى أطباق. ومن هنا، ظهرت «العصيدة» التي ما زالت طبقاً أصيلاً في عدد من الثقافات، وفقاً لإيمي بنتلي الأستاذة بجامعة نيويورك مؤرخة الطعام، في تقرير سابق نشرته «واشنطن بوست» دلل على أصالة اتجاه الطهي بوعاء واحد في كل من المطبخ الياباني الذي استخدم أوعية «دونابي الطينية»، وكذلك المطبخ الهندي الذي يضم أكثر من وصفة تقليدية تحضر على هذه الشاكلة، مثل البرياني.
أما المطبخ الشرقي الذاخر بوصفات، فلم يخلو من اتجاه الطهي في وعاء واحد، وأبرز ما تبقى من هذا النمط هو طبق «المقلوبة» الشائع في المطبخ الشامي، المجهز من لحم الضأن والأرز والخضراوات ومكونات أخرى لذيذة.
وتقول الطاهية المصرية مدونة الطعام سارة نور الدين لـ«الشرق الأوسط» إن «الطهي في وعاء واحد يدحض فكرة أن الطبق الشهي يستلزم متسعاً من الوقت والجهد والتكاليف، لكن بالنسبة لي ثمة غرض آخر يدفعني لإعادة تقديم الأطباق التقليدية بهذه الطريقة السريعة، وهو عمق المذاق».
وتضيف: «تحريك المكونات داخل قدر واحد تنبعث منه روائح رائعة نتيجة امتزاج التوابل والدهون والخضراوات، وحين تتابع بعينيك مراحل تطور الأكلة، وتشاهدها تتشكل ببطء، وتتحول من قطع وألوان مختلفة إلى شيء موحد؛ هذه الحالة تعكس دفء الأسرة التي تجتمع في المساء أمام طبق يدون ذكرى جديدة».
وتذهب بنا الطاهية سارة إلى كثير من الأطباق الشرقية التي قد تشير إلى أن اتجاه الوعاء الواحد ربما نشأ في مطبخ إحدى دول الشرق الأوسط، إذ تقول: «من أشهى أطباق الوعاء الواحد الكبسة الخليجية التي شقت طريقها إلى العالم بمذاقها الشهي الذي يكمن سره في توليفة توابل المطبخ الخليجي».
وتجهز الكبسة، بحسب سارة، من شرائح اللحم الذي يُضاف أولاً إلى الزبدة الساخنة، ليتعرض إلى صدمة تبدل لونه على الفور بفعل الحرارة والدهون، ثم تأتي رشات التوابل الخليجية، مثل ورق الغار والقرفة والحبهان، لتغطي سطح اللحم منتظراً شرائح البصل المقطع والجزر المبشور مع الماء المغلي، وبعد نصف سواء يُضاف الأرز طويل الحبة مع المتبقي من توابل الكبسة الشهيرة.
وعن سبب صعود اتجاه «الوعاء الواحد» إلى واجهة مدونات الطهي، ترى الطاهية المصرية أن «الاحتياج البشري هو المحرك الرئيسي لاتجاهات جميع مناحي الحياة، فإذا كان أسلافنا بحاجة إلى توفير الخامات لندرتها، فالآن نحن في أمس الحاجة لتوفير الوقت والجهد، فالمرأة باتت عنصراً أساسياً في سوق العمل، ولم يعد لديها رفاهية قضاء ساعات بين الأواني والمكونات لتجمع عائلتها على الطاولة في المساء، بينما جزء من هدف الطهاة العصريين تقديم نمط يمزج بين البساطة والمذاق الشهي، فالأكل سعادة، وكلما سنحت الفرصة لتسخير الأدوات فلا مانع».
صحيح ثمة وصفات شرقية قُدمت على مر العصور في إناء واحد، لكن المطبخ العربي معروف بتفاصيله السخية، فهل يمكن الحفاظ على المذاق الأصيل، وتقديم حلول عصرية لتجهيز الأطباق؟
ترى الطاهية المصرية أنه «لا توجد أي صعوبة في إعادة تقديم الوصفات العربية بطرق أكثر مرونة، ما دام أنها لا تؤثر على المذاق، وهو ما أحاول تحقيقه من خلال مدونتي. صحيح أنني تعلمت الطهي في الأساس من والدتي، لكني أحاول تقديم الوصفات التي تناسب عصر مواقع التواصل الاجتماعي ومقاطع الفيديو السريعة. لذا، بات نمط الطهي في وعاء واحد خياراً مطلوباً من قبل المتابعين».
وعن الأطباق التي قدمتها الشيف سارة نور الدين، ونالت إعجاب متابعيها، تقول: «البرياني الهندي من أشهى الأطباق التي يمكن تحضيرها داخل وعاء واحد، ولكن يشترط اتباع الخطوات بدقة لضمان النتيجة. كذلك طبق المعكرونة بالنقانق (السجق)، وهو طبق إسباني، الذي شهد مشاركة واسعة من المتابعين».



«أبو حصيرة» من غزة إلى القاهرة

توابل  فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)
توابل فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)
TT

«أبو حصيرة» من غزة إلى القاهرة

توابل  فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)
توابل فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)

من غزة إلى القاهرة انتقل مطعم «أبو حصيرة» الفلسطيني حاملاً معه لمساته في الطهي المعتمد على التتبيلة الخاصة، وتنوع أطباقه التي تبدأ من زبدية الجمبري والكاليماري إلى الفسيخ بطريقة مختلفة.

وتعتبر سلسلة المطاعم التي تحمل اسم عائلته «أبو حصيرة» والمنتشرة بمحاذاة شاطئ غزة هي الأقدم في الأراضي الفلسطينية، لكن بسبب ظروف الحرب اتجه بعض أفراد العائلة إلى مصر؛ لتأسيس مطعم يحمل الاسم العريق نفسه، وينقل أطباق السمك الحارة المميزة إلى فضاء جديد هو مدينة القاهرة، وفق أحمد فرحان أحد مؤسسي المطعم.

«صينية السمك من البحر إلى المائدة»، عنوان إحدى الأكلات التي يقدمها المطعم، وهي مكونة من سمك الـ«دنيس» في الفرن بالخضراوات مثل البقدونس والبندورة والبصل والثوم والتوابل، وإلى جانب هذه الصينية تضم لائحة الطعام أطباق أسماك ومقبلات منوعة، تعتمد على وصفات قديمة وتقليدية من المطبخ الفلسطيني. وتهتم بالنكهة وطريقة التقديم على السواء، مع إضفاء بعض السمات العصرية والإضافات التي تناسب الزبون المصري والعربي عموماً؛ حيث بات المطعم وجهة لمحبي الأكلات البحرية على الطريقة الفلسطينية.

على رأس قائمة أطباقه السمك المشوي بتتبيلة خاصة، وزبدية الجمبري بصوص البندورة والتوابل وحبات القريدس، وزبدية الجمبري المضاف إليها الكاليماري، والسمك المقلي بدقة الفلفل الأخضر أو الأحمر مع الثوم والكمون والليمون، وفيليه كريمة مع الجبن، وستيك، وجمبري بصوص الليمون والثوم، وجمبري بالكريمة، وصيادية السمك بالأرز والبصل والتوابل.

فضلاً عن قائمة طواجن السمك المطهو في الفخار، يقدم المطعم قائمة متنوعة من شوربات السي فود ومنها شوربة فواكه البحر، وشوربة الكريمة.

يصف محمد منير أبو حصيرة، مدير المطعم، مذاق الطعام الفلسطيني لـ«الشرق الأوسط»، قائلاً: «هو أذكى نكهة يمكن أن تستمتع بها، ومن لم يتناول هذا الطعام فقد فاته الكثير؛ فالمطبخ الفلسطيني هو أحد المطابخ الشرقية الغنية في منطقة بلاد الشام، وقد أدى التنوع الحضاري على مر التاريخ إلى إثراء نكهته وطرق طبخه وتقديمه».

أطباق سي فود متنوعة يقدمها أبو حصيرة مع لمسات تناسب الذوق المصري (الشرق الأوسط)

وأضاف أبو حصيرة: «وفي مجال المأكولات البحرية يبرز اسم عائلتنا التي تتميز بباع طويل ومميز في عالم الأسماك. إننا نتوارثه على مر العصور، منذ بداية القرن الماضي، ونصون تراثنا الغذائي ونعتبر ذلك جزءاً من رسالتنا».

«تُعد طرق طهي الأسماك على الطريقة الغزاوية خصوصاً حالة متفردة؛ لأنها تعتمد على المذاق الحار المميز، وخلطات من التوابل، والاحتفاء بالطحينة، مثل استخدامها عند القلي، إضافة إلى جودة المكونات؛ حيث اعتدنا على استخدام الأسماك الطازجة من البحر المتوسط المعروفة»، وفق أبو حصيرة.

وتحدث عن أنهم يأتون بالتوابل من الأردن «لأنها من أهم ما يميز طعامنا؛ لخلطتها وتركيبتها المختلفة، وقوتها التي تعزز مذاق أطباقنا».

صينية أسماك غزوية يقدمها أبو حصيرة في مصر (الشرق الأوسط)

لاقت أطباق المطعم ترحيباً كبيراً من جانب المصريين، وساعد على ذلك أنهم يتمتعون بذائقة طعام عالية، ويقدرون الوصفات الجيدة، والأسماك الطازجة، «فنحن نوفر لهم طاولة أسماك يختارون منها ما يريدون أثناء دخول المطعم».

ولا يقل أهمية عن ذلك أنهم يحبون تجربة المذاقات الجديدة، ومن أكثر الأطباق التي يفضلونها زبدية الجمبري والكاليماري، ولكنهم يفضلونها بالسمسم أو الكاجو، أو خليط المكسرات، وليس الصنوبر كما اعتادت عائلة أبو حصيرة تقديمها في مطاعمها في غزة.

كما انجذب المصريون إلى طواجن السي فود التي يعشقونها، بالإضافة إلى السردين على الطريقة الفلسطينية، والمفاجأة ولعهم بالخبز الفلسطيني الذي نقدمه، والمختلف عن خبز الردة المنتشر في مصر، حسب أبو حصيرة، وقال: «يتميز خبزنا بأنه سميك ومشبع، وأصبح بعض الزبائن يطلبون إرساله إلى منازلهم بمفرده أحياناً لتناوله مع وجبات منزلية من فرط تعلقهم به، ونلبي لهم طلبهم حسب مدير المطعم».

تحتل المقبلات مكانة كبيرة في المطبخ الفلسطيني، وهي من الأطباق المفضلة لدى عشاقه؛ ولذلك حرص المطعم على تقديمها لزبائنه، مثل السلطة بالبندورة المفرومة والبصل والفلفل الأخضر الحار وعين جرادة (بذور الشبت) والليمون، وسلطة الخضراوات بالطحينة، وبقدونسية بضمة بقدونس والليمون والثوم والطحينة وزيت الزيتون.

ويتوقع أبو حصيرة أن يغير الفسيخ الذي سيقدمونه مفهوم المتذوق المصري، ويقول: «طريقة الفسيخ الفلسطيني وتحضيره وتقديمه تختلف عن أي نوع آخر منه؛ حيث يتم نقعه في الماء، ثم يتبل بالدقة والتوابل، ومن ثم قليه في الزيت على النار».

لا يحتل المطعم مساحة ضخمة كتلك التي اعتادت عائلة «أبو حصيرة» أن تتميز بها مطاعمها، لكن سيتحقق ذلك قريباً، حسب مدير المطعم الذي قال: «نخطط لإقامة مطعم آخر كبير، في مكان حيوي بالقاهرة، مثل التجمع الخامس، أو الشيخ زايد».