أولاف شولتز... الرجل المرشح لإعادة منصب المستشارية في ألمانيا إلى الاشتراكيين

خاض المعركة بالتقرب من سياسات ميركل

أولاف شولتز... الرجل المرشح لإعادة  منصب المستشارية في ألمانيا إلى الاشتراكيين
TT

أولاف شولتز... الرجل المرشح لإعادة منصب المستشارية في ألمانيا إلى الاشتراكيين

أولاف شولتز... الرجل المرشح لإعادة  منصب المستشارية في ألمانيا إلى الاشتراكيين

«ليس سيئاً أبداً مقارنة رجل بمستشارة ناجحة»، هي جملة قالها أولاف شولتز مرشح الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) لمنصب المستشارية في ألمانيا، عندما اتُّهم بتقليد أنجيلا ميركل لكسب أصوات الناخبين. وعلى الرغم من أن الرجل لا ينتمي لحزب ميركل المحافظ، فإنه لا يتردد بتصوير نفسه على أنه امتداد لسياستها العامة.
خلال الحملة الانتخابية، نشر الاشتراكيون صوراً دعائية لشولتز وهو يجلس مبتسماً وينظر إلى الكاميرا، مع جملة عريضة تقول: «يمكن أن أكون مستشارة» مع تأنيث كلمة «مستشار» في إشارة إلى ميركل. بل إنه وقف أمام عدسة كاميرا مجلة «سود دويتشه تزايتونغ»، التي كانت تلتقط له صورة لنشرها إلى جانب مقابلة أجرتها معه، وحرص على أن تبدو يداه مجموعتين بشكل الماسة الشهيرة التي تجمع فيها ميركل يديها وتحولت إلى علامتها الخاصة.
هذه الاستراتيجية التي اعتمدها الاشتراكيون بتقديم مرشحهم الذي يشغل حالياً منصب وزير المالية ونائب المستشارة على أنه امتداد لميركل، يبدو أنها لاقت صدى إيجابياً لدى الناخبين الألمان. فهي استراتيجية نجحت في إعادة حزب عريق كان يغرق قبل أشهر قليلة، إلى طليعة السباق الانتخابي، وحوّلت حظوظه التي كانت شبه معدودة بالمشاركة في الحكم، إلى حظوظ وافرة بقيادة الحكومة المقبلة.
ومع ذلك فإن صعود شولتز، البالغ من العمر 63 سنة، فاجأ كثيرين، ودفع بالمحللين للتساؤل عن سر «سحر» هذا الرجل الذي لا يتمتع بأي «كاريزما»... حتى إنه اكتسب لقب «شولتز – أومات» ما يعني «الرجل الآلي» اقتباساً من كلمة «أوتومات» التي تعني في الألمانية الـ«آلي».

تلاحق أولاف شولتز طبعة «المرشح المملّ» الذي ينقصه البريق، والذي يقول القليل وينطق باللازم فقط. وحقاً، خلال المناظرات التي جمعته بالمرشحين المنافسين، كان هو دائماً الأقل كلاماً، ومع ذلك كان هو دائماً الفائر، حسب تقييم المشاهدين. لذا كان الأكثر إقناعاً وأكثر من يبعث على الثقة برأيهم.
المرشحان الآخران، أرمين لاشيت عن حزب ميركل، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وأنالينا بيربوك عن حزب «الخضر»، جربا في الواقع تكتيكات متعددة في كل مناظرة لكسب الأصوات التي خسراها. وانتقلا من اعتماد سياسة عرض أجندتيهما إلى الهجوم على شولتز، في حين بقي شولتز على ثباته ورصانته.
كان يعرض أفكار حزبه بالقليل من الكلام، من دون أن يتهجم على منافسيه، ويتحدث بثقة من خبرة اكتسبها كوزير للمالية قاد ألمانيا في واحدة من أصعب المراحل الاقتصادية وسط جائحة «كوفيد - 19» والفيضانات التي اجتاحت البلاد. وفي كل مرة بعد انتهاء المناظرة، كانت النتيجة إخفاق لاشيت وبيربوك في سحب أصوات من شولتز.
ثم إن شولتز لم يستفد فقط من منصبه كوزير للمالية لتقديم نفسه على أنه المرشح الذي يبعث على الثقة، بل استفاد أيضاً من إخفاقات منافسيه ومن الهفوات التي ارتكباها في بداية الحملة الانتخابية ودفعت الناخبين إلى فقدان الثقة بهما. ولقد جاء اعتماد شولتز على سياسة تصوير نفسه على أنه امتداد لميركل، بهدف سحب الناخبين المستائين من مرشح الديمقراطيين المسيحيين... إليه.

- «فضائح» قليلة التأثير
وقد نجح بذلك بالفعل ورفع درجة التأييد لحزبه إلى مستوى غير مسبوق منذ 16 سنة، ولم تفلح «الفضائح» التي ارتبط اسم شولتز بها في زعزعة ثقة الناخبين به. ذلك أنه خلال الأسبوع الماضي، نفذ عشرات من عناصر الشرطة مداهمة استهدفت وزارته بحثاً عن وثائق تتعلق بتبييض أموال يزعم مكتب المدعي العام أن الوزارة لم تمرّرها للسلطات التنفيذية للتحرك بناءً عليها. وطبعاً، أثار التوقيت استغراب البعض، بل دفع الاشتراكيين للكلام عن «دوافع سياسية» خلف المداهمات وتوقيتها.
مع هذا، لم يكترث كثيراً بهذه العملية على الرغم من أنها تأتي على خلفية فضيحة مالية أخرى تُعرف باسم «فضيحة وايركارد»، وهي أكبر فضيحة مالية تواجه ألمانيا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. ولقد فتح مجلس النواب الألماني (بوندستاغ) تحقيقاً في الفضيحة مطلع العام لمعرفة مدى تورّط شولتز بالقضية، نظراً لكون وزارته مسؤولة عن هيئة الرقابة المالية التي أخفقت في كشف عمليات الاحتيال الدائرة داخل الشركة، أو ساهمت بالتغطية عليها.
وللعلم، شركة «وايركارد» كانت شركة تؤمّن خدمات مالية أعلنت إفلاسها عام 2019 بعدما تبين أن قرابة ملياري يورو من أموال المودعين «مفقودة»، وأن الشركة واقعة في دين كبير. غير أن شولتز رفض اتهامه بالمسؤولية عن الفضيحة، وقال إنه تسلّم وزارة المالية فقط عام 2018 بينما كانت الشركة متورّطة بعمليات فساد قبل سنوات طويلة. وتابع في معرض دفاعه عن نفسه أنه أدخل إصلاحات على عمل الهيئة بعد «فضيحة وايركارد» لتعزيز دورها وعملها.
قد يكون تعقيد هذه الرواية سبباً في قلة اكتراث الناخبين بها. ثم إنها، في النهاية، لم تؤدِّ إلى استقالة شولتز من منصبه رغم اتهامه بالمسؤولية. والواقع أنها ليس المرة الأولى التي «يفلت» فيها شولتز من فضيحة مالية توجّه أصابع الاتهام بتورطه بها. فعندما كان عمدة مدينة هامبورغ بين عامي 2011 و2018 واجه كذلك اتهامات بالتغطية على فضيحة مالية أخرى تُعرف بـ«كام إكس» وهي احتيال ضريبي طال دولاً أوروبية أخرى ولم يقتصر فقط على ألمانيا.
يومها اتُّهم شولتز باستخدام تأثيره السياسي لكسب خدمات ضريبية لمصرف من مصارف هامبورغ متورط بالفضيحة. ولقد اجتمع شولتز بمدير المصرف كريستيان أولياريوس 3 مرات في عامي 2016 و2017 عندما كان يخضع للتحقيق بالتهرب الضريبي. ومع أن شولتز يقول إنه «لا يتذكر» ما الذي دار بينه وبين مدير المصرف خلال هذه الاجتماعات، إلا أن قرار حكومة هامبورغ بعد هذه اللقاءات بألا تسعى لاستعادة 47 مليون يورو من المصرف كان يدين بها له، هو ما سلّط الضوء على أن شولتز ربما يكون متورطاً في الفضيحة بشكل أو بآخر. ولكن بعد أشهر قليلة استعادت حكومة هامبورغ (وهي ولاية – مدينة) 43 مليون يورو من الأموال المفقودة من المصرف إثر تدخل وزارة المالية الفيدرالية. واليوم لا يذكر الكثير من الألمان فضيحة «كام إكس» كذلك، أو أنهم لا يكترثون.
ثم إن الأمر نفسه، ينطبق على فضيحة أخرى تطارد شولتز من أيام عمله عمدة لهامبورغ، وتتعلّق هذه الفضيحة بـ«قمة العشرين» التي استضافتها المدينة، وانتهت بمظاهرات عنيفة لأفراد من اليسار المتطرف أحرقوا سيارات ودمروا واجهات المحال واعتدوا على رجال الشرطة. وفي حينه، اضطر شولتز للاعتذار لسكان هامبورغ بعد الذي حصل، فيما اتهمه معارضوه بأنه لم يأخذ مسألة الأمن إبان «قمة العشرين» بشكل جدّي... ما أدى إلى الشغب الذي حصل.

- إنجازات ومشاريع مستقبلية
بينما يرفض أولاف شولتز استعادة هذه الأمور «المحرجة»، أو يرفض اتهامه به عندما يسأل عنها، فإنه يفضل عوضاً عن ذلك التركيز على إنجازاته المالية ومشاريعه المستقبلية. وكمثال، يكرّر شولتز القول إنه يريد حل مشكلة السكن من خلال بناء آلاف الوحدات السكنية الجديدة.
ويذكّر بأن تاريخه في هامبورغ يساعده في ذلك، فهو نجح ببناء آلاف الوحدات السكنية هناك بأسعار زهيدة، ومن دون أن يوقِع المدينة في ديون. ويكرّر أيضاً التطرق إلى مساعيه لرفع الحد الأدنى للأجور وزيادة الاستثمار العام في المشاريع الخضراء لمكافحة التغير المناخي.
من جانب آخر، مع أن شولتز ينتمي إلى حزب اشتراكي، فهو يُعد من تيار المحافظين داخل الحزب وليس من الجناح اليساري المتطرف. ولذلك فإن سياساته المالية ليست راديكالية. وعلى الرغم من أنه لا يؤمن بمبدأ الاقتراض للاستثمار، فهو كان من الأساسيين الذين أعدوا الحزمة المالية الأوروبية لمساعدة دول الاتحاد الأوروبي التي تعاني بسبب أزمة «كورونا».

- سيرة ذاتية
وُلد أولاف شولتز في مدينة أوزنابروك، بولاية سكسونيا السفلى في شمال غربي ألمانيا، يوم 14 يونيو (حزيران) 1958. وبدأ شولتز -المتزوج منذ عام 1998- حياته بعيداً عن السياسة، إذ درس الحقوق في جامعة هامبورغ، ومن ثم مارس مهنة المحاماة لعدة سنوات كمحامي شركات قبل الانتقال إلى السياسة.
انتُخب عام 1998 عندما كان في الأربعين من العمر، للمرة الأولى نائباً في البرلمان المحلي في هامبورغ، حيث نشأ وكبر مع والديه. واستقال من المقعد عام 2001 بعدما قبِل بمنصب وزير داخلية الولاية. غير أنه لم يدم أكثر من بضعة أشهر في المنصب الذي غادره بعد خسارة حزبه في الانتخابات.
وفي العام التالي، أي في 2002 نجح في دخول البرلمان الفيدرالي الاتحادي (بوندستاغ) الألماني في برلين، وأصبح أيضاً السكرتير العام في حزبه الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي)، وظل في المنصب لمدة سنتين حتى 2004 حين استقال إثر تقديم زعيم الحزب (آنذاك) غيرهارد شرودر استقالته من المنصب أمام انقسام الحزب عليه وتدني شعبيته.
عام 2007 انضم شولتز للمرة الأولى لحكومة المستشارة ميركل كوزير للعمل والشؤون الاجتماعية وبقي في منصبه حتى عام 2009، وبعد ذلك انتُخب نائباً لرئيس الحزب وبقي في منصبه سنتين قبل أن يعود إلى هامبورغ عام 2011 ليصبح عمدة للمدينة حتى عام 2018، وخلاله عندما عاد إلى برلين ليشغل منصب وزير المالية الفيدرالي ونائب المستشارة.

- طموح قديم
منذ سنوات يطمح أولاف شولتز إلى قيادة حزبه الاشتراكي العريق، وقد رأى فرصة سانحة له في عام 2019 عندما استقالت السيدة الأولى التي تشغل المنصب، آندريا ناهليس، بسبب عجزها عن انتشال الحزب من الحضيض. بيد أنه لم ينجح يومذاك، وانتخب الحزب في حينه زعيمين مشتركين، سيدة ورجلاً، يعدّان من الجناح اليساري المتطرف بداخله. ولكن على الرغم من ذلك، وقع الاختيار على شولتز لكي يكون مرشح الاشتراكيين لمنصب المستشار، بشكل أساسي كونه معروفاً على الصعيد الوطني بخلاف الرئيسين الآخرين المجهولين تقريباً.
لقد أدرك الحزب أن اختيار مرشح وسطي معتدل بعيد عن الراديكالية، قد يعطيه فرصة لرفع حظوظه في الانتخابات. وبالفعل، تظهر «وسطية» شولتز بشكل كبير عندما يتحدث عن ائتلاف محتمل بعد الانتخابات لتشكيل الحكومة، ويقول إن التحالف مع حزب «دي لينكا» اليساري المتشدد، فيما لو حصل، سيُبنى على شروط محددة وواضحة، تفادياً لقرارات راديكالية في الاقتصاد والسياسة الخارجية.
هذا، وساعدت خبرة شولتز في الحكومة على إقناع أعضاء الحزب بالتصويت له للترشح لمنصب المستشارية. فهو منذ دخوله الحكومة الفيدرالية قبل 3 سنوات، نجح في بناء علاقات قوية مع زعماء أوروبيين ودوليين التقاهم غير مرة بسبب منصبه. أيضاً، كان شولتز المرشح الأول الذي استقبله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه بباريس قبل أسابيع، فيما قرأه البعض مؤشراً إلى دعم ماكرون له. وكان شولتز قد عمل مع فرنسا خلال السنوات الثلاث الماضية على مجموعة من القوانين المالية المهمة في أوروبا، أبرزها المتعقلة بتبني قواعد ضريبية أساسية تُفرض على كبرى شركات التكنولوجيا مثل «غوغل» و«أبل» وغيرها.
قد تكون «الكاريزما» العنصر الذي يعوزه أولاف شولتز، لكنه من دون شك يتمتع بمزايا أخرى تبعث على الثقة به بالنسبة إلى الناخبين. وعلى أي حال، فإن منافسيه لا يتفوقون عليه في هذا المجال، وهو ما دفع ببعض الصحف الألمانية مثل صحيفة «دي فيلت» للتساؤل عما إذا كانت هذه الانتخابات هي «الأكثر إثارة للملل أم لا». ودفع بالصحف الأميركية أيضاً، مثل «نيويورك تايمز»، إلى التعليق بأن «الألمان يفضّلون الساسة المملين... لأن التجربة الأخيرة مع سياسي كان يتمتع بالكاريزما لم تنتهِ بشكل جيد»، في إشارة إلى أدولف هتلر.
ختاماً، إذا نجح شولتز فعلاً في الانتخابات، وتمكّن من تشكيل حكومة ائتلافية، فهو سيكون الزعيم الرابع فقط من الاشتراكيين الذي يقود البلاد بعد الحرب العالمية الثانية. إذ سبقه فيلي براندت وهيلموت شميدت وغيرهارد شرودر الذين كانوا يتمتعون بسحر ينقص شولتز. ومع هذا، فإنه اليوم يبدو الرجل الذي تحتاج إليه ألمانيا لطمأنتها إلى أن الاستقرار الذي عرفته طوال السنوات الـ16 الماضية، باقٍ وراسخ.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.