ألعاب أطفال غزة تأسر قلوب الجمهور المصري

عبر معرض يضم 66 قطعة من ملابس ودمى ضحايا القصف

زوّار معرض «66 لعبة» يتابعون القطع المعروضة (الشرق الأوسط)
زوّار معرض «66 لعبة» يتابعون القطع المعروضة (الشرق الأوسط)
TT

ألعاب أطفال غزة تأسر قلوب الجمهور المصري

زوّار معرض «66 لعبة» يتابعون القطع المعروضة (الشرق الأوسط)
زوّار معرض «66 لعبة» يتابعون القطع المعروضة (الشرق الأوسط)

بعيداً عن المفاهيم القياسية للمعارض الفنية، لم يقدم معرض «66 لعبة» القاهري، أعمالاً فنية فريدة وسط ألحان الموسيقى الكلاسيكية، أو لوحات تشكيلية مفعمة بالبهجة والمرح، لكنه ضم ألعاباً وأغراضاً ودمى خرجت بأعجوبة من تحت أنقاض بنايات سقطت خلال العدوان الإسرائيلي على غزة، في شهر مايو (أيار) الماضي، في محاولة لرسم صورة حسية تجمد لحظة يجب أن تتوقف عندها الإنسانية، حيث كان من بين ضحايا القصف البالغ عددهم 250 فلسطينياً نحو 66 طفلاً.
ربما يُخيّل لزائر المعرض سماعه صوت بكاء طفل خائف، مع ضجيج طائرات تستعد للقصف، لكن ما يبعث على الصدمة أكثر، هي الجدران الحالكة التي صُمم منها المعرض في إشارة لمستقبل مظلم يعيشه ضحايا تلك المجزرة. ولكن، ثمة أمل يأتي من قلب الألم انعكس في رسوم مضيئة على الحوائط السوداء تبدو غير احترافية، وكأنها بأنامل طفل يخطو نحو مستقبل مجهول، وبين هذه التفاصيل التي اختيرت بعناية شديدة أتى المعرض بألعاب وحقائب وملابس تعود جميعها لـ66 طفلاً قتلوا خلال القصف.
صحيح أن المعرض يحمل كثيراً من الألم، لكن هناك هدف آخر تنشده المصممة شُشّة كمال، صاحبة الفكرة ومنظمة المعرض، والتي روت لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل هذه التجربة بصوت تملأه الدموع: «أتت فكرة المعرض عندما كنت أطالع أخبار العدوان الإسرائيلي على غزة لمدة 11 يوماً إذ نقلت وسائل الإعلام خبر استشهاد 66 طفلاً فلسطينياً، من دون مبالاة أو اكتراث بحجم الكارثة، فأنا رأيت 66 روحاً ومستقبلاً وحلماً، كُتبت عليهم النهاية قبل الأوان».
مشيرة إلى أن صور الضحايا الأطفال ظلت عالقة في ذهنها حتى راودتها فكرة إقامة معرض يضم مقتنياتهم، لا سيما الألعاب الصغيرة وحقائب المدرسة، تقول: «حاولت في البداية البحث عما تبقى من ذوي الأطفال أملاً في العثور على أي متعلقات يمكن أن تروي للعالم حكاياتهم، لكن المهمة لم تفلح، لأن الهيئات الرسمية والدولية المعنية بالقضايا الإنسانية كانت منشغلة وقتئذ بإنقاذ الأرواح التي كُتبت لها النجاة من المجزرة، لذلك لجأت إلى أصدقائي الفلسطينيين وجنسيات أخرى في شتى أنحاء العالم حتى أصل إلى أسر الأطفال الضحايا وبالفعل تواصلنا معهم بمجهودات فردية مباشرة».
معرض «66 لعبة»، الذي أقيم ليوم واحد بأحد فنادق وسط القاهرة، حضره بعض نجوم الفن على غرار الممثلة التونسية درة وزوجها رجل الأعمال المصري هاني أسعد، وكذلك الممثلة المصرية بسمة، فضلاً عن محمد الصاوي مؤسس «ساقية الصاوي» وعدد من مشاهير السوشيال ميديا، وبعض أبناء الجالية الفلسطينية بالقاهرة.
بدورها، تقول المصممة نورهان النمر، التي لعبت دوراً مهماً في تسهيل مهمة جلب الألعاب من غزة إلى القاهرة، لـ«الشرق الأوسط»: «اكتشفت أن الواقع كان أكثر ألماً مما تناقلته وسائل الإعلام، فغزة محاصرة بكل ما تحمله الكلمة من عراقيل وقيود، ومع كل قصف تزداد حدة هذا الألم وتتسع رقعته، لا تتخيل قسوة أن تتحدث إلى أب فقد أبناءه لتطلب منه قطعة من مقتنيات صغيره».
وتؤكد أن أصعب رد تلقته كان من أب قال لها: «لم يتبق من ولدي حتى ألعابه، القصف سرق روحه ودمر منزلنا بالكامل». وتردف: «رغم قسوة الموقف على الأسر الفلسطينية فإنهم في نهاية المطاف توحدوا على الأقل وراء رسالة متماسكة، مفادها صرخة يطلقها المعرض في وجه العالم بما تبقى من صغارهم».
يقدم المعرض صورة حسية تخاطب الحواس كافة، فلا يذهب نظرك إلى أغراض الأطفال فحسب، بينما الرسوم المصممة من خيوط الضوء المرتعشة، والموسيقى المصاحبة للعرض التي تم تصميمها بدقة لتعكس حالة بين الألم والأمل، وتقول عنها شُشة كمال: «يعود الفضل في اختيار الموسيقى إلى نورهان النمر، التي وضعت ملامح عامة ثم ذهبت للموسيقار هشام خرما ليخرج بمقطوعة جديدة لهذا الحدث».
وتختتم شُشة كمال حديثها قائلة: «الهدف الوحيد من المعرض هو ألا تلهينا ديناميكية الحياة اليومية عن دورنا الإنساني، عسى أن تساهم خطواتنا في تجاوز أسر الضحايا لعثراتهم».



موسيقى تحت النار تصدح في «مترو المدينة» لإعلان الحياة

مقابل الصدمة والاهتزاز واليأس... موسيقى ونغمات وأمل (مترو المدينة)
مقابل الصدمة والاهتزاز واليأس... موسيقى ونغمات وأمل (مترو المدينة)
TT

موسيقى تحت النار تصدح في «مترو المدينة» لإعلان الحياة

مقابل الصدمة والاهتزاز واليأس... موسيقى ونغمات وأمل (مترو المدينة)
مقابل الصدمة والاهتزاز واليأس... موسيقى ونغمات وأمل (مترو المدينة)

وصلتْ إلى هاتف صاحبة السطور رسالة تعلن عودة أمسيات «مترو المدينة». كان كلُّ ما حول المتلقّية هولاً وأحزاناً، فبدا المُرسَل أشبه بشعاع. يبدأ أحد مؤسّسي «مترو» ومديره الفنّي، هشام جابر، حديثه مع «الشرق الأوسط» بترسيخ الفنون بوصفها احتمالاً للنجاة. ينفض عنها «مفهوماً قديماً» حصر دورها بالترفيه وتمضية الوقت، ليحيلها على ما هو عميق وشامل، بجَعْلها، بأصنافها وجمالياتها، مطلباً مُلحّاً لعيش أفضل، وحاجة لتحقيق التوازن النفسي حين يختلّ العالم وتتهدَّد الروح.

موسيقيون عزفوا للمحاربين في هذه الاستراحة (مترو المدينة)

في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، أنار المسرح البيروتي أضواءه واستقبل آتين إلى سهراته المميّزة بفرادة الطابع والمزاج. أُريد للموسيقى خَلْق فسحة تعبيرية لاحتواء المَعيش، فتُجسّد أرضية للبوح؛ مُنجزةً إحدى وظائفها. تُضاف الوظيفة الأخرى المُمثَّلة بالإصرار على النجاة لمَنْح الآتي إلى الأمسية المُسمَّاة «موسيقى تحت النار» لحظات حياة. موسيقيون على البزق والدرامز والإيقاع والكمنجة... عزفوا للمحاربين في هذه الاستراحة. يُعلّق هشام جابر: «لم يكن ينقصنا سوى الغبار. جميعنا في معركة».

لشهر ونصف شهر، أُغلق «مترو». شمَلَه شلل الحياة وأصابته مباغتات هذه المرارة: «ألغينا برنامجاً افترضنا أنه سيمتدّ إلى نهاية السنة. أدّينا ما استطعنا حيال النازحين، ولمّا لمسنا تدهور الصحّة النفسية لدى المعتادين على ارتياد أمسيات المسرح، خطرت العودة. أردنا فسحة للفضفضة بالموسيقى».

لم يَسْلم تاريخ لبنان من الويل مما لقَّن أبناءه فنّ التجاوُز (مترو المدينة)

يُشبّه المساحة الفنية التي يتيحها «مترو» بـ«علبة خارج الزمن». ذلك لإدراكه أنّ لبنان امتهن الصعاب ولم يَسْلم تاريخه من الويل، مما لقَّن أبناءه فنّ التجاوُز. وامتهن اجتراح «العُلب»، وهي الفسحات الرقيقة. منها يُواجه أقداره ويُرمّم العطب.

استمرّت الحفلات يومَي 20 و21 الحالي، وسلّمت «موسيقى تحت النار» أنغامها لعرض سُمِّي «قعدة تحت القمر»، لا يزال يتواصل. «هذا ما نجيده. نعمل في الفنّ»، يقول هشام جابر؛ وقد وجد أنّ الوقت لا ينتظر والنفوس مثقلة، فأضاء ما انطفأ، وحلَّ العزفُ بدل الخوف.

يُذكِّر بتاريخ البشرية المضرَّج بالدماء، وتستوقفه الأغنيات المولودة من ركام التقاتُل الأهلي اللبناني، ليقول إنّ الحروب على مرّ العصور ترافقت مع الموسيقى، ونتاج الفنّ في الحرب اللبنانية تضاعف عمّا هو في السلم. يصوغ المعادلة: «مقابل الصدمة والاهتزاز واليأس، موسيقى ونغمات وأمل». ذلك يوازي «تدليك الحالة»، ويقصد تليينها ومدّها بالاسترخاء، بما يُشبه أيضاً إخضاع جهاز لـ«الفرمتة»، فيستعيد ما تعثَّر ويستردّ قوةً بعد وهن.

أنار المسرح البيروتي أضواءه واستقبل آتين إلى سهراته المميّزة (مترو المدينة)

يتمسّك «مترو المدينة» بحقيقة أنّ الوقت الصعب يمضي والزمن دولاب. أحوالٌ في الأعلى وأحوال في الأسفل. هذه أوقات الشدائد، فيشعر الباحثون عن حياة بالحاجة إلى يد تقول «تمسّك بها»، ولسان يهمس «لا تستسلم». أتاح المسرح هذا القول والهَمْس، ففوجئ هشام جابر بالإقبال، بعد الظنّ أنه سيقتصر على معارف وروّاد أوفياء. يقول: «يحضر الناس لكسر الشعور بالعزلة. يريدون مساحة لقاء. بعضهم آلمته الجدران الأربعة وضخّ الأخبار. يهرعون إلى المسرح لإيجاد حيّز أوسع. ذلك منطلقه أنّ الفنّ لم يعد مجرّد أداة ترفيهية. بطُل هذا الدور منذ زمن. الفنون للتعافي وللبقاء على قيد الحياة. أسوةً بالطعام والشراب، تُغذّي وتُنقذ».

كفَّ عن متابعة المسار السياسي للحرب. بالنسبة إليه، المسرح أمام خيارَيْن: «وضع خطّة للمرحلة المقبلة وإكمال الطريق إن توقّف النار، أو الصمود وإيجاد مَخرج إن تعثَّر الاتفاق. في النهاية، المسارح إيجارات وموظّفون وكهرباء وتكاليف. نحاول أن يكون لنا دور. قدّمنا عروضاً أونلاين سمّيناها (طمنونا عنكم) ترافقت مع عرض (السيرك السياسي) ذائع الصيت على مسرحنا. جولته تشمل سويسرا والدنمارك وكندا...».

ترسيخ الفنون بوصفها احتمالاً للنجاة (مترو المدينة)

ويذكُر طفولة تعمَّدت بالنار والدخان. كان في بدايات تفتُّح الوعي حين رافق والده لحضور حفل في الثمانينات المُشتعلة بالحرب الأهلية. «دخلنا من جدار خرقته قذيفة، لنصل إلى القاعة. اشتدّ عودنا منذ تلك السنّ. تعلّقنا بالحياة من عزّ الموت. لبنان حضارة وثقافة ومدينة وفنّ. فناء تركيبته التاريخية ليست بهذه البساطة».

يرى في هذه المحاولات «عملاً بلا أمل». لا يعني إعلان اليأس، وإنما لشعورٍ بقسوة المرحلة: «يخذلني الضوء حيال الكوكب بأسره، ولم يعُد يقتصر غيابه على آخر النفق. حين أردّد أنني أعمل بلا أمل، فذلك للإشارة إلى الصعوبة. نقبع في مربّع وتضيق بنا المساحة. بالفنّ نخرج من البُعد الأول نحو الأبعاد الثلاثة. ومن الفكرة الواحدة إلى تعدّدية الأفكار لنرى العالم بالألوان. كما يُحدِث الطبيب في الأبدان من راحة وعناية، يحتضن الفنّ الروح ويُغادر بها إلى حيث تليق الإقامة».