الصبيحي.. جنرال في مواجهة {الحوثي}

الصبيحي.. جنرال في مواجهة {الحوثي}
TT

الصبيحي.. جنرال في مواجهة {الحوثي}

الصبيحي.. جنرال في مواجهة {الحوثي}

مع تصاعد أحداث العنف وانهيار الجيش اليمني تسلط الأضواء حاليا على الجنرال الجنوبي محمود الصبيحي الذي أصبح قائد الجيش الموالي للرئيس عبد ربه منصور هادي، منذ نجاحه في الإفلات من إقامته الجبرية، التي فرضها عليه الحوثيون في صنعاء.
واستغل الحوثيون الوضع الهش لتركيبة الجيش اليمني القائمة على الولاء الشخصي، منذ 3 عقود، ليتمكنوا من استقطاب قيادات عسكرية وأمنية سهلت لهم الطريق للسيطرة على المدن والعاصمة صنعاء ومعسكرات الجيش والأمن، فأصبح الجيش بيد ميليشيات مسلحة بعد أن كان يخوض معارك عنيفة ضدهم قبل خمس سنوات.

لقد أثار الجنرال الصبيحي الجدل في أول يوم وصل فيه إلى الجنوب، حيث فضل الذهاب إلى مسقط رأسه في لحج، وليس إلى عدن حيث يقيم هادي، وكانت هناك تكهنات باعتزاله العمل العسكري ومتابعة حياته بعيدا عن الزي العسكري، لكن سرعان ما أرسل هادي إليه وفدا رئاسيا لإقناعه بالعودة لمنصبه وزيرا للدفاع، وقيادة القوات الموالية له، وقد وافق على ذلك بعد ضغوط أميركية تعرض لها الرجل، ثم بعدها بأيام ذهب إلى عدن، والتقى بهادي بالزي الشعبي، لكنه لم يرتدِ البزة العسكرية إلا بعد أسبوعين من خروجه من صنعاء عندما زار مطار عدن ومعسكرات للجيش في عدن.
تمكن الجنرال خلال بضعة أيام من إعادة تشكيل وترتيب بعض الوحدات العسكرية والأمنية، وفتح باب التجنيد، والاستعانة باللجان الشعبية التي شكلها هادي عام 2012، ليقود بعدها أولى معاركه منذ تعيينه وزيرا للدفاع داخل أسوار عدن، حيث تمكن من إنهاء التمرد العسكري داخل فرع قوات الأمن الخاصة التي حاولت السيطرة على مقرات حيوية من بينها مطار عدن.

مهمة صعبة
يعلم الصبيحي جيدا أن الجيش ووحداته المنتشرة في الشمال والجنوب لا تدين بالولاء له بشكل كامل، لهذا حرص على زيارة المعسكرات والألوية في عدن، خصوصا المعسكرات التي تضم جنودا موالين للرئيس السابق، كما قام بتعيين قيادات جديدة في قاعدة العند الجوية التي تعد أكبر قاعدة عسكرية في البلاد، والتقى بقيادات ما تسمى اللجان الشعبية الجنوبية وطالبهم بأن يبتعدوا عن رفع شعارات الانفصال واللغة المناطقية، مؤكدا لهم أن عدو اليمن في الشمال والجنوب واحد وهم جماعة الحوثيين.
بحسب الخريطة العسكرية للجيش اليمني، فإن أغلب قواته تتوزع في الجنوب، ينتمي معظم منتسبيها إلى الشمال، وخلال الأيام الماضية فر كثير من الجنود من معسكراتهم باتجاه الشمال بعد تهديدات تعرضوا لها من الجنوبيين، وتبدو مهمة الصبيحي في إخضاع جميع المناطق العسكرية في الجنوب لإمرته صعبة، فمن بين سبع مناطق عسكرية توجد أربع مناطق في الجنوب والشرق وهي لا تزال بعيدة عن سيطرة الحوثيين وصالح اللذين يسيطران بشكل مباشر على ثلاث في الشمال، فالجنوب تقع فيه المنطقة العسكرية الأولى ومقر قيادتها مدينة سيئون، والمنطقة العسكرية الثانية ومقر قيادتها في المكلا، والمنطقة العسكرية الثالثة ومقر قيادتها في مأرب، وتمتد إلى محافظة شبوة الجنوبية والجوف في الشمال الشرقي، أما المنطقة العسكرية الرابعة ومقر قيادتها في مدينة عدن فهي من أهم المناطق العسكرية الخاضعة لهادي ووزير دفاعه، وكان الصبيحي قائدها قبل أن يعين وزيرا للدفاع، وتضم المنطقة العسكرية عدة ألوية ومعسكرات تمتلك أقوى الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، لكن مصادر عسكرية تؤكد وجود كتائب خاصة تدين بالولاء التام للرئيس السابق، ما يجعلها مشكوكا في ولائها للصبيحي وخضوعها له.
ويبدو أن الأحداث التي عاشها الجنرال الصبيحي طوال فترة حياته العسكرية التي أمضى فيها 39 سنة شكلت شخصية الصبيحي المغامرة والشجاعة والنزيهة كما يصفه من عمل معه، ما جعله من أهم الشخصيات العسكرية التي تحظى باحترام وإجماع سواء في الجنوب أو الشمال، فالصبيحي عاصر المراحل التاريخية في الجنوب والشمال، فقد كان قائد عسكري شغل كثيرا من المناصب في وحدات الجيش قبل الوحدة اليمنية عام 1990، وبعدها عيّن أيضا في مناصب عسكرية، ومثلما كان الرجل آخر قائد عسكري رحل من عدن في حرب 1994، التي انتصرت فيها قوات الشمال على الجنوب في ما يعرف بحرب الانفصال، فإن الصبيحي أيضا عاد للخدمة العسكرية بعد توقف دام 15 عاما، ليعينه الرئيس السابق علي عبد الله صالح قائد محور العند وأحد مستشاريه، ثم عيّن عام 2013 قائدا للمنطقة العسكرية الجنوبية في عدن، وعيّن في 2014 وزيرا للدفاع في ظروف صعبة وأوضاع منهارة للجيش، وبعد استقالة حكومة خالد بحاح في مطلع العام الحالي حاول الحوثيون استغلال الجنرال الصبيحي وعينوه رئيسا للجنة الأمنية العليا، وطلبوا منه إصدار قرارات بتعيينات موالين لهم في الجيش، وهو ما رفضه الرجل بحسب شهادة المقربين منه، الذي أكدوا أن هذه الضغوطات كانت سببا في فراره من صنعاء وكسر الإقامة الجبرية عليه.

انتصارات وخذلان
يقول اللواء متقاعد صالح حربي لـ«الشرق الأوسط» إن الصبيحي عرف عنه أنه رجل عسكري بامتياز يمتلك الشجاعة والانضباط العسكري والجدية في العمل، كما أن يده نظيفة ولا يعرف أنه قام باستغلال الجيش لمصلحته الشخصية، لذا يحظى باحترام الجميع سواء من العسكريين الذين عملوا معه أو المدنيين الذين عرفوه عن قرب. ويلفت حربي إلى أن الصبيحي جاء من أسرة مناضلة شاركت مع الجبهة القومية في الجنوب، وتعتمد أسرته بشكل رئيسي على فلاحة الأرض البسيطة في قريته»، موضحا أن معارك الصبيحي تشهد له بجدارته في قيادة الجيش تحت أي ظروف، وقال: «لقد كان يتقدم الصفوف الأولى في المعارك التي خاضها ضد عناصر تنظيم القاعدة في بداية تأسيس ما تسمى جماعة أنصار الشريعة، ونجح في كسر شوكتهم وهزيمتهم، خصوصا في محافظة شبوة»، ويستدرك حربي: «لكن رغم هذه الانتصارات فقد كان الصبيحي يتعرض لخذلان من قبل القيادة السياسية والعسكرية المركزية سواء في صنعاء أو عدن، حيث كان يتلقى توجيهات بوقف انتصاراته ووقف الهجوم على مواقع (القاعدة)»، وأشار اللواء المتقاعد إلى أن الصبيحي تمكن خلال الفترة الماضية من توحيد مواقف الجنوبيين والوحدات العسكرية التي لا تزال في الجنوب».
وبسبب اندفاعه وتقدمه الصفوف الأولى في المعارك التي يخوضها فقد تعرض الصبيحي لسبع محاولات اغتيال، أسفرت عن مقتل وجرح كثير من مرافقيه. يقول المقربون من الصبيحي إن الحياة العسكرية طغت على حياته الشخصية، فأغلب وقته يقضيه داخل المعسكرات ومقرات القيادة العسكرية، يقول المحلل السياسي أنيس منصور الذي ينتمي إلى مسقط رأس الصبيحي في منطقة هويرب بمديرية المضاربة في لحج: «إن الصبيحي الذي له ستة أولاد، يعيش معظم وقته في وحدات الجيش وفي حل المشكلات في منطقته، وقبل شهرين توفي والده وكريمته»، موضحا لـ«الشرق الأوسط»: «إن كل الفصائل السياسية والاجتماعية في الجنوب تكن له الاحترام وهي راضية عنه»، وأشار منصور إلى أن الصبيحي يعيش حياة تقشف ويده نظيفة، فأسرته تنتمي إلى الطبقة المكافحة، ومنزله متواضع، وغالبا ما يصرف من جيبه، حرصا منه على أموال الدولة»، مؤكدا أنه ورغم أنه قائد عسكري فإنه لم يطلب من أبنائه الانخراط في الجيش كما يفعل كثيرون، فهناك من أولاده من يدرس في ماليزيا، ومنهم معلم في مدرسة، والبقية يعملون في فلاحة الأرض ورعاية الغنم».
لا يجيد الصبيحي السياسة، وكما هو معروف عن الحياة السياسية فقط طبعت الرجل بشخصية جريئة وجادة بعيدا عن التعاملات الدبلوماسية، وقد ظهر ذلك في أحد مقاطع الفيديو الذي صورته في اجتماع لقيادات عسكرية مع سلفه اللواء محمد ناصر أحمد، ويظهر المقطع الصبيحي الذي كان يشغل قائد المنطقة الرابعة، أثناء إلقاء كلمته وانتقاده لموقف السلطات المركزية من دعم وحدات عسكرية في الجنوب، ليقاطعه وزير الدفاع، ما أغضب الصبيحي الذي وبخه وطلب منه السكوت حتى يكمل كلامه.
من جانبه يقول المحلل السياسي عبد الله الوصابي لـ«الشرق الأوسط» إنه رغم اللحظات التي كان فيها الصبيحي لغزا كبيرا لدى اليمنيين، وعدم قدرتهم على تحليل مواقفه، فإن الرجل اكتسب كثيرا من الزخم والثقة وعلقت عليه آمال كبيرة عندما رفض الانصياع لوضعه لدى الحوثيين بعد البيان الانقلابي الذي على أساسه عينه الحوثيون رئيسا للجنتهم الأمنية، رغم ما يحمله ذلك من مزايا ووضع عسكري كبير، مشيرا إلى أن الصبيحي نجح في أن يكتسب بخروجه من مظلة الحوثيين والتحاقه بالرئيس الشرعي هادي كثيرا من الاحترام والتقدير، ويثبت أنه لن يقبل أن يكون أداة بيدهم لتمرير مشروعهم، وجعله محافظا للقسم العسكري الذي خانه كثير من قيادات الجيش قبله»، ويؤكد الوصابي أن «كثيرا من الآمال معلق عليه في لملمة ما تبقى من جيش وطني، وتنظيم اللجان الشعبية وتنقيتها وجعلها لجانا شبه رسمية منضبطة تؤسس لتكون جزءا من الجيش الوطني».
أما الصحافي الجنوبي فؤاد مسعد فيعتبر أن ما عمله الصبيحي خلال الفترة الماضية رفع رصيده الوطني، فخروجه المفاجئ من صنعاء وانتقاله إلى عدن شكّل ضربة موجعة لميليشيا الانقلاب الحوثية، وتبعها بضربة موجعة ثانية حين قاد معركة عسكرية خاطفة لإخماد التمرد الذي دعمه الحوثيون وصالح في عدن ولحج، ويؤكد مسعد أن «الثقة التي يحظى بها الصبيحي من القوى السياسية والعسكرية جعلته معظم اليمنيين يراهنون عليه، في قيادة المواجهات مع مسلحي الحوثي وصالح».

من هو محمود أحمد سالم الصبيحي؟

مواليد: هويرب مديرية المغاربة محافظة لحج 1948م، متزوج ولديه 6 أولاد.
المؤهلات:

- بكالوريوس علوم عسكرية – الكلية العسكرية عدن 1976م.
- ماجستير علوم عسكرية - أكاديمية فرونزا - الاتحاد السوفياتي 1978 - 1982م.
- دورة قيادة وأركان - أكاديمية فورنزا 1988م.
المناصب التي تقلدها:

- أركان حرب لواء ملهم 1982 - 1986م.
- قائد اللواء 25 ميكا 1986 - 1988م.
- قائد الكلية العسكرية عدن 1988 - 1990م.
- نائب مدير الكلية الحربية 1990 - 1993م.
- قائد اللواء 25 ميكا 1993 - 1994م.
- مستشار القائد الأعلى للقوات المسلحة 2010م.
- قائد محور العند قائد اللواء 201 ميكا مارس (آذار) 2011 - 2013م.
- قائد المنطقة العسكرية الرابعة، (2013 - 2014).
- وزير الدفاع في حكومة خالد بحاح، 7 نوفمبر (تشرين الثاني) 2014.
- عينه الحوثيون بعد انقلابهم على الرئيس هادي رئيسا للجنة الأمنية في فبراير (شباط) 2015.
- كسر الإقامة الجبرية وخرج من صنعاء إلى مسقط رأسه في لحج الجنوبية، في 8 مارس 2015.



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.