غرناطة... محاولات تزوير تاريخها لا تزال مستمرة حتى هذه اللحظة

مدينة تعيش على آثار عصرها الذهبي إبان العهد الإسلامي

قصر الحمراء في غرناطة
قصر الحمراء في غرناطة
TT

غرناطة... محاولات تزوير تاريخها لا تزال مستمرة حتى هذه اللحظة

قصر الحمراء في غرناطة
قصر الحمراء في غرناطة

يقول الشاعر المكسيكي فرانشيسكو دي إيكازا إنه «لا شيء يعدل حزناً كحزن أعمى في غرناطة». وتلك لعمري ليست بشطحة شاعر ذهب بعقله هوى الأندلس، فالمدينة التي تتربع على خلفيّة سلسلة جبال سييرا نيفادا الجليلة المغطاة رؤوسها بعمامة من ثلج أبيض وتضم قصر الحمراء الشهير وحيّ البيازين السكنيّ القريب تبدو كأنّها أقرب نموذج أرضي لما يمكن أن تكون عليه الجنّة الدّائمة.
على أنّ هذه المدينة التي اتخذت لها مكاناً دائماً على خرائط السياحة العالميّة ويقصدها ملايين الزائرين في كل عام - أقلّه في عالم ما قبل «كوفيد - 19» - تكتسب مزيداً من السحر اللامع يضفيه عليها غموض تاريخها الذي تتنازعه المجموعات البشريّة من أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث، كلّ يدّعي وصلاً بغرناطة وينسب إليه الفضل في تأسيسها.
تسجّل كتب التاريخ مثلاً أن منقباً عن الآثار يدعى خوان ديفلوريس شرع في عام 1754 بالحفر تحت شوارع حيّ البيازين السكني بحثاً عن تاريخ المدينة القديم قبل دولة الأندلس، وبدأ بالعثور على لقى من فخار وعملات وحليّ وقواعد أعمدة تعود للعصور الرومانيّة القديمة. وقد منحت تلك القطع سكّان المدينة شعوراً بالارتياح لأن غرناطتهم ليست مدينة إسلاميّة تسبح في بحر إسبانيا الكثلكة، وإنما موقع روماني سطا عليه العرب واتخذوه سكناً. لكن ذلك الشعور تبخّر سريعاً بعدما تبيّن أن ديفلوريس لم يكن سوى مزوّر كبير قام بزرع تلك اللقى الرومانيّة سراً تحت الحي العربيّ القديم قبل أن يشرع بالإعلان عن استخراجها قطعة قطعة أمام سكان المدينة المبتهجين، وقد حوكم وقتها من قبل السلطات، وساءت سمعته، وأُتلفت كل لقاه المزوّرة وأغلقت مواضع التنقيب بالكامل.
ويبدو بحسب المؤرخين المعاصرين أن ديفلوريس لم يكن أوّل سكان غرناطة في السعي لتلفيق تاريخ بديل للمدينة الساحرة، إذ قبل 150 عاماً من أيّام تنقيباته قررت مجموعة من الموريسكيين - الذين اضطروا لتحويل ديانتهم الرسميّة إلى الكثلكة بعد سقوط آخر ممالك العرب في غرناطة أو مواجهة الطرد أو الموت - تزوير مجموعة من النصوص القديمة من المفترض أنها مكتوبة بحروف عربيّة قديمة سابقة على الإسلام. وتشير خلاصة تلك النصوص إلى أنّ أوّل عربي وطئ شبه الجزيرة الأيبيريّة (إسبانيا والبرتغال) كان حواريّاً تنصّر على يد السيّد المسيح وفرّ بدينه إلى أبعد نقطة من الأراضي المقدسة شرق المتوسط خلال القرن الأوّل الميلادي، وأصبح لاحقاً يعرف باسم القديس كاسيليوس. وقد كان ذلك حلاً سياسياً عبقرياً لمحاولة تجنّب الطرد من غرناطة، فهم - أي الموريسكيين - وفق تلك النصوص ينحدرون من أصول مسيحيّة. وقد نشأت حول تلك الأوراق المزوّرة طائفة دينية ادعت لاحقاً بأنها عثرت على العظام المحترقة للحواريّ الشهيد كاسيليوس، ودفنتها بعد نقلها بعناية في قلب دير ساكرومنتي الشهير. ومع أن تلك المحاولة اليائسة لم تفلح في إنقاذ الموريسكيين الأندلسيين من الطرد والقتل المجاني - إذ تم إبعاد ما قد يصل إلى نصف مليون نسمة منهم بلا رحمة خارج الأراضي الإسبانيّة سوى الذين قتلوا - فإنّ طائفة القديس كاسيليوس بقيت حيّة بين سكان المدينة النصارى إلى عام 1682 عندما اعتبر الفاتيكان في تعميم له أن تلك النّصوص العربيّة القديمة مزورة ولا يعتد بها، مطيحاً بأحلام سكان غرناطة حينئذ بالتّخلص مما اعتبروه عار التاريخ العربي الإسلامي لمدينتهم.
أقدار المدينة وطموحات سكانها اختلفت جذرياً بعد أن عبرها جيش نابليون وأصبحت تالياً محجاً للفنانين الرومانتيكيين. إذ لم يعد تاريخ المدينة في العصر الإسلاميّ مصدراً للخجل بعد أن تبيّن أن السواح الجدد المتدفقين إلى غرناطة كانوا شغوفين باستكشاف بقايا الموريسكيين التعساء وشراء بقايا ما تركوه وراءهم، ولم يثِر اهتمامهم أيّ من الأساطير حول جذور مسيحيّة قد تكون للمدينة. وهكذا تحوّل السكان المحليّون إلى مزاج التغنيّ بالتراث العربي الإسلامي لمدينتهم والمتاجرة بذلك التراث. لكّن السعيّ المكثّف لتعديل صورة غرناطة كي تتطابق مع الصور الاستشراقيّة عن الشرق بدأ فعلاً في القرن التاسع عشر وأصبح شغل المدينة الشاغل.
والواقع فإن محاولات تزوير تاريخ هذه الجميلة وفق مفاهيم مسبقة وأمنيات عمّا يجب أن يكون عليه شكل المدينة كي يتوافق مع سرديّة معينة أو أخرى لا تزال مستمرة حتى اللحظة. وما يزيد الطين بلّة أنّ أغلب زوّار المدينة يمرون بها مروراً عابراً، فلا يمكنهم استيعاب معنى تجربة العيش في غرناطة على حقيقتها، وهي تجربة لا تكتمل إلا بتعاقب الأيّام والتأمل وتحليق الخيال. كما يهمل العمل السياحيّ المعاصر - المعني أساساً بتسويق المدينة كصورة مستشرقة عن نقطة تلاقي الشرق بالغرب من خلال الواجهات المعماريّة للفترة الإسلاميّة - رصيد 500 سنة من التاريخ اللاّحق الذي ترك بصمات لا تخفى على وجهها الحاليّ، بما فيها طريقة ترميم وتجديد آثارها الإسلاميّة. إنها مدينة بوجوه كثيرة، وتواريخ عديدة.
ومع القفزات الحاسمة التي شهدها علم الآثار الحديث مستفيداً من التطورات التكنولوجيّة والهندسية وأيضاً تقدّم بقيّة العلوم الشريكة، أجريت في غرناطة حفريّات تنقيب أكثر علميّة - أقلّه مقارنة بحفريات ديفلوريس - وتمخضت عن العثور على لقى وبقايا أثريّة من العصر الروماني تضم كتابات وفسيفساء وأجزاء من تمديدات صحيّة وقطع فخّاريّة، ما يقطع بصحّة افتراض ديفلوريس الأساس بوجود مستوطنة رومانيّة قديمة في الموقع الذي شيّد عليه المسلمون غرناطتهم الخالدة. على أنّ المنقبين فشلوا إلى الآن في العثور على ما يثبت صحّة الزّعم بأن سينودس إلفيرا المفصليّ في التاريخ الكاثوليكي قد انعقد خلال القرن الرابع الميلادي تحديداً في المكان الذي أسس عليه المسلمون مدينتهم بعد ذلك بـ400 عام تقريباً. ويميل الخبراء الآن إلى القبول بفرضيّة أن ذلك السينودس الذي أقرّ مجموعة من أهم القرارات بشأن أسس الإيمان المسيحيّ ربما يكون عقد في المنطقة المحيطة بغرناطة الإسلاميّة لاحقاً وليس بالضرورة داخل حدودها كما نعرفها اليوم. كما يحاول يهود غرناطة الاستفادة من إشارة في كتاب الرّازي (القرن العشر الميلادي) إلى أنّه وجد طائفة من اليهود كانت تعيش في جزء من حيّ البيّازين السكني بالمدينة للزّعم بأن يهود القرن العاشر الميلادي هؤلاء ينحدرون من سكان يهود كانوا يقيمون بالمنطقة وقت اختيار المسلمين لها موقعاً لبناء غرناطة.
ومهما يكن من أمر المدينة، فإنها بقيت محدودة في اتساعها، فيما نشأ إلى شمالها الغربي على بعد 10 كيلومترات تجمّع سكنيّ من السكان المحليين الذين كانوا مسيحيين واعتنق بعضهم الإسلام، كما قبائل البربر والعرب المهاجرة، لا سيّما أولئك الفارين من دمشق بعد سقوط الدّولة الأمويّة والذين وجدوا فيها شبهاً عجيباً بأجواء بلادهم. وقد تكاثرت أعداد هؤلاء خلال مائة عام حتى أصبح تجمّعهم عاصمة إقليميّة على تقاطع طرق التجارة والمواصلات وأطلقوا عليه اسم مدينة البيرة (أو إلفيرا بالإسبانيّة). وقد لعبت (مدينة البيرة) أدواراً مهمّة في السياسة الأندلسيّة بوصفها دارت غالباً في فلك عاصمة الخلافة بقرطبة، وغطّت بذلك على قيمة غرناطة نفسها في بعض الأوقات.
هذا الصّراع بين الأطراف والأجيال المتعددة على امتلاك سرديّة أحاديّة اللًون عن غرناطة لم يمنع بحال اتفاق الجميع دون استثناء على أنّ العصر الذّهبي للمدينة الجنّة كان خلال عهدها الإسلاميّ حصراً، وأنّ المدينة الحاليّة إنّما تعيش اليوم على المتاجرة بتاريخ تلك التّجربة الفذّة من تأسيس الدّول وإقامة العمران كأنها حفيد فاشل يكسب رزق يومه من اصطحاب السيّاح الفضوليين في جولات على تركة أجداده العظماء.



«الأبيقورية» و«الرواقية» على الشاشة الكبيرة

«الأبيقورية» و«الرواقية» على الشاشة الكبيرة
TT

«الأبيقورية» و«الرواقية» على الشاشة الكبيرة

«الأبيقورية» و«الرواقية» على الشاشة الكبيرة

الصورة المرئية هي أفضل وسيلة لنقل الأفكار الفلسفية مهما كانت صعبة، لقد كتبت من قبل عن الفنانين الذين استخدموا السينما - أو التلفزيون - لتبسيط أفكار «الوجودية» أو «الرواقية»، وأظن أن الصورة ليست محصورة بأنواع معينة من الفلسفات، بل بإمكانها تقريب أي فلسفة ولو كانت فلسفة هيغل نفسه.

في تحفة ريدلي سكوت الأخيرة «المُجالد 2» هناك عدة فلسفات تتحدث وتتنافس، ولعله مما يزيد استمتاعنا بالفيلم أن نتعرف على تلك الفلسفات، عندما تنقل الشخصية الرئيسة مقولة: «إذا كنا في الوجود فإن الموت لن يكون موجوداً، وإذا جاء فعلاً فإننا لن نكون في الوجود»، وبالتالي فلا حاجة إلى الخوف منه لأننا لن نلتقي به أبداً، فأحدنا سيكون حاضراً والآخر سيكون غائباً. هذه المقولة لأبيقور، ونحن نعلم أن أبيقور أحد الفلاسفة الرئيسيين في العصر الهلنستي، الذي امتد على مدى ثلاثة قرون بعد وفاة الإسكندر الأكبر في عام 323 قبل الميلاد، وأرسطو في عام 322 قبل الميلاد.

يبدو أننا عثرنا على مقولة أبيقورية في بيئة رواقية، فالفيلم بجزئيه يسبح في بحر «الرواقية».

لطالما كان أبيقور عرضة لسوء الفهم، خصوصاً عند الحديث عن مذهب اللذة ونظريته في السعادة. يتضح هذا عندما ندقق في مذهبه، فالسعادة عنده هي العيش في سلام بعيداً عن الألم، وطعامه الخبز والماء، في حياة زهد تشبه حياة المتصوفة. كل ما يُنسب إلى أبيقور مما يدعو إلى العبّ من الملذات هو في الحقيقة من كلام أرسطبوس، تلميذ سقراط. ذلك الفيلسوف المنسي الذي كان يعيش المتعة فعلاً في حياته نديماً للملوك، ولا يكترث بأي علم لا يزيد من استمتاعنا بالحياة، ويقرر أن الحكيم لا يقلق ولا يكترث بالأمور التافهة.

وقد ارتفعت أسهم نسخة أرسطبوس المنقحة (أبيقور) في العصر الروماني لتكون إحدى ثلاث فلسفات مهيمنة في تلك الفترة. الثانية هي «الرواقية»، والثالثة هي «الشكوكية». بينما تراجعت كل الفلسفات الأخرى لتبقى في دائرة اهتمام النخبة فقط، لأن الإنسان العامي لم يعد مشغولاً بالوجود والفلك ومراقبة الكواكب ودراسة الحيوان، بقدر ما هو مشغول بالتخلص من الخوف والألم والجوع في أزمنة مضطربة.

كان الصراع بين «الأبيقورية» و«الرواقية» شديداً، فلا تسلك واحدة طريقاً أو تتبنى رأياً حتى تسلك الأخرى طريقاً غيره. و«الشكوكيون» يرفضون الجميع، وإن كان عداؤهم أشد للرواقيين. إلا أن الجميع متفقون على أن الفلسفة ليست لعباً، بل هي فن يهدف إلى تحقيق الشفاء الروحي، قبل أي غاية أخرى. ولا شك أن المسيحية كانت تنافسهن في الخفاء، حتى جاء نصرها الكبير عندما عُمد قسطنطين مسيحياً في القرن الرابع وأصبحت دين الإمبراطورية الرسمي بعد قرون من الاضطهاد.

«المجالد 2» لا ينطلق من العصر الهلنستي، بل بعده، من عصر الإمبراطورية الرومانية الذي ابتدأ سنة 27 قبل ميلاد المسيح. لقد حُسمت الحروب الأهلية والصراعات السياسية بانتصار أوكتافيان على ماركوس أنطونيوس وكليوباترا في معركة أكتيوم في عام 31 قبل الميلاد، والغزو اللاحق لمملكة البطالمة في مصر. في عام 27 قبل الميلاد، منح مجلس الشيوخ الروماني أوكتافيان سلطة عسكرية شاملة، مما يعني توليه العرش كأول إمبراطور روماني.

وعاش الناس في أول قرنين من عمر الإمبراطورية فترة من الاستقرار والازدهار غير المسبوقين تعرف باسم «السلام الروماني»، ومن ضمن الأباطرة الذين حكموا كان الإمبراطور ماركوس أوريليوس الذي دعا للفلسفة الرواقية. يحاول الفيلم تصويره على أنه جمهوري أوصى بالحكم من بعده لمجلس الشيوخ. بينما الأقرب للصحة أن شيئاً من هذا لم يحدث، وأنه أوصى بالحكم من بعده لولده كومودوس، وأنه قد نكّل بالمسيحيين أشد تنكيل.

مع القرب بين الفلسفتين إلا أننا نلحظ بينهما اختلافاً. ففي «الأبيقورية» تتحقق السعادة بالسعي وراء المتعة الذي يُفهم على أنه غياب الألم والقلق، وتدافع عن الملذات البسيطة والصداقة، والفكر باعتباره مفتاح حياة الرضا. بينما ترى «الرواقية» أن السعادة تكمن في الفضيلة والعيش وفق الطبيعة والعقل، وتنمية السلام الداخلي بغض النظر عن الظروف الخارجية، ولا يعطون الأولوية للمتعة. بدلاً من ذلك، يؤكدون على أن الفضيلة، ويعنون بها الحكمة والشجاعة والعدالة والاعتدال، هي الخير الحقيقي الوحيد، وأن الملذات الخارجية ليست ضرورية لحياة جيدة.

إدارة العواطف وفهمها ضرورية عند «الأبيقورية» لأنها يمكن أن تؤدي إلى الألم والاضطراب. ولذا تشجع على تنمية المشاعر الإيجابية متوسلة بالصداقة والتأمل الفلسفي. بينما تدعو «الرواقية» إلى السيطرة على العواطف ولا تدعو إلى ابتداع مشاعر إيجابية، بل تدعو إلى قبول ما هو كائن. المشاعر السلبية تنشأ من الأحكام الخاطئة، ولذا يجب على المرء أن يسعى جاهداً للحفاظ على الاتزان وقبول ما لا يمكن تغييره.

وتؤمن «الأبيقورية» بمادية الكون، متأثرة بالمذهب الذري. يعتقدون أن كل شيء مصنوع من ذرات، وأن الآلهة لا تتدخل في شؤون الإنسان. بينما يؤمن الرواقيون بعالم عقلاني منظم تحكمه سببية إلهية (لوغوس). إنهم يرون أن الكون مترابط ويؤكدون على أهمية قبول الفرد لمصيره كجزء من خطة عقلانية أكبر.

التركيز الأخلاقي في «الأبيقورية» يقوم على تكثير المتعة وتقليل الألم. ويتضمن ذلك دراسة متأنية لنتائج الأفعال على رفاهية الفرد ورفاهية المجتمع. فيما يقوم التركيز الرواقي على العيش الفاضل وقيام الفرد بدوره في المجتمع، وبالتصرف وفقاً للعقل والفضيلة، بغض النظر عن النتائج، هل هي سعيدة أم لا، وإن أدّت إلى حرمان الأم من ابنها.