رواية الانشطار الدامي بين جحيم المنفى ولعنة المكان الأصلي

«عين حمورابي» للكاتب الجزائري عبد اللطيف ولد عبد الله

رواية الانشطار الدامي بين جحيم المنفى ولعنة المكان الأصلي
TT

رواية الانشطار الدامي بين جحيم المنفى ولعنة المكان الأصلي

رواية الانشطار الدامي بين جحيم المنفى ولعنة المكان الأصلي

قليلون جداً في العالم العربي هم الروائيون الذين يمتلكون ناصية السرد، المشوق والمحكم، كما هو حال الكاتب الجزائري الشاب عبد اللطيف بن عبد الله في عمله المميز «عين حمورابي». إذ لا يكاد قارئ ولد عبد الله يفرغ من قراءة الصفحات الأولى من الرواية، حتى يشعر أنه أمام عمل محكم السبك وبالغ الإتقان، وأن عليه أن يتابع القراءة حتى نهاية العمل. كما أن قدرة المؤلف على إبقاء الحدث الروائي في حالة توتر وإبهام دائمين، لا يترك أمام القارئ أي فرصة للتراخي أو التقاط الأنفاس. وفي أفق ملبد بالتوتر والخوف والمنعطفات غير المتوقعة، يظهر المؤلف قدرة عالية على الجمع الحاذق بين عناصر التشويق والحبكة البوليسية، وتوظيف الأساطير والخرافات، والمعتقدات الشعبية المترسخة عبر الزمن في النفوس والأذهان.
يعمد ولد عبد الله في «عين حمورابي» إلى إيلاء مهمة السرد لبطل الرواية وحيد حمراس، اللائذ بإحدى الثكنات العسكرية، هرباً من غضب الحشود التي راحت تطارده بدعوى اعتدائه على ضريح الولي الصالح «المجدوب» وسرقته وتخريبه. أما العرض اللافت الذي قدمه الضابط المسؤول عن الثكنة للبطل المطارد، والذي قضى بتوفير الحماية لهذا الأخير مقابل تزويد السلطة بالرواية الكاملة للأحداث، فقد وفر للمؤلف الحيلة الملائمة لتنفيذ مخططه السردي، بقدر ما وفر للراوي الفرصة الموازية لإعادة تركيب حياته المخلعة وانتشالها من عهدة النسيان. ولعلهم لم يجانبوا الحقيقة في شيء أولئك الذين أشاروا إلى النسب «الشهرزادي» لرواية ولد عبد الله، ليس فقط لأن أحداث هذه الرواية يتناسل بعضها من البعض الآخر، كما هو حال الرواية المشرقية المؤسسة، ولا لأنها تجمع بشكل شديد التداخل بين الواقعي والمتخيل، بل لأن قاعدة «تكلم أو مت» التي انبنت على أساسها «ألف ليلة وليلة»، هي ذاتها القاعدة الأساس التي أعطت للرواية الثانية مسوغها، بحيث بدا الضابط المسؤول معادلاً لشهريار، بقدر ما بدا وحيد حمراس بمثابة النسخة الذكورية المعاصرة من شهرزاد. ولأن بطل ولد عبد الله هو نفسه الراوي، فقد أمكن لضمير المتكلم أن يكسب العمل قدراً عالياً من الحرارة والتوهج، بقدر ما أتاح للقارئ فرصة التماهي مع البطل، والتعاطف الوجداني مع ما يواجهه من مخاطر ومكابدات. وإذا كانت الرواية، رغم طابعها الملتبس وأحداثها المعقدة، تبتعد عن التعسف التأليفي، فإن ذلك لا يتنافى مع الدلالات المقصودة للأسماء، بحيث يعيدنا عنوان الرواية إلى شريعة الملك البابلي المعروف، القائمة على القصاص المتناسب مع العمل الجرمي، لا المسامحة والإفلات من العقاب. كما أن اختيار اسم البطل لم يكن وليد الصدفة، بل أراده المؤلف أن يكون تعبيراً رمزياً عن المعاناة المزدوجة للإنسان العربي، المتناهب بين الوحدة القاتلة و«الاستحمار» التام.
لم يكتف وحيد حمراس خلال التحقيق معه بإعطاء المعنيين ما يفيدهم من شهادته الشخصية حول ما حدث له مع مطارديه، بل بدا كما لو أنه وجد الفرصة الملائمة لاستعادة حياته بكاملها، ولتصفية الحساب مع الماضي، ومع المكان الذي ظل يطارده كاللعنة أينما ذهب. فقد روى حمراس بتدفق متواصل، لم تقطعه سوى استفسارات المحققين وتنبيهاتهم المتفرقة، قصة هجرته إلى فرانكفورت وإقامته هناك لثماني سنوات كاملة، متخصصاً في علم الآثار، قبل أن يطلب إليه صديقه دونالد هاردي، أن يعود إلى وطنه الأم ضمن البعثة التي أنيط بها الكشف عن اللقى الثمينة التي كان عالم الآثار الألماني هاينريش والتسان قد أشار إلى وجودها في أحد الأضرحة «المقدسة» في مسقط رأسه المهاجر الجزائري. وخلال السرد يكشف الراوي عن أن الحراق والمجدوب اللذين أعطيا اسميهما لقريتين متقابلتين أقيمتا هناك، قبل أن تباعد بينهما المشاحنات والأسلاك الشائكة، لم يكونا وليين صالحين في حقيقة الأمر، بل هما اسمان مختلقان اخترعتهما مخيلة العالم الألماني والتسان للحيلولة دون اكتشاف الكنوز واستخراجها. وهو أمر لا تنحصر دلالاته بالكشف عن تحويل التفوق الثقافي والفكري الغربي إلى أداة للسيطرة وإحكام النفوذ، بل يتعدى ذلك إلى النفخ في أبواق المشاعر الدينية، واختلاق «مقدسات» لا وجود لها، لتأبيد حالة التخلف والجهل، ولصرف الناس عن التصدي لمشكلاتهم الحقيقية.
منذ لحظة عودة حمراس إلى مسقط رأسه، الخاوي سوى من كوابيس الماضي، تأخذ أحداث الرواية وتائر معقدة وصادمة وبالغة القسوة. أما شخصيات العمل فتكاد تبدو على اختلاف وجوهها، تجليات لوجه واحد محكوم بالاضطراب واللاسوية والانحراف السلوكي. فإلى الانشطار الفصامي لشخصية وحيد حمراس، هناك «أ» القاتل المتخفي الذي يطارد الشاب العائد إلى قريته من مكان إلى مكان مرتكباً العديد من الجرائم. وهناك الألمانية هيلين بلانك التي تعترف لوحيد، رغم إعجابها به وزيارتها له في بيته، بأنها اختارت مرافقة البعثة لتعلقها العاطفي بـ«ك»، رئيس البعثة الذي يتابع مع حمراس مغامرة نبش الضريحين والعثور على الكنز، قبل ملاحقتهما الشرسة من قبل الأهالي. وهناك فاطمة، الجارة التي تقطن مع ابنتها وابنها الطفلين إلى جانب منزل حمراس العائلي، والتي استقبلته في بيتها دون تحرج، ولم تتردد في اطلاعه على تعرض أمه المتكرر للإهانة والعنف الجسدي من قبل أبيه، وصولاً إلى هربها واختفائها اللاحقين. وفي عالم القسوة هذا، ما يلبث وحيد أن يحاط علماً بشأن الجريمة التي ارتكبها والده «الافتراضي» بحق أمه، وبتهمة خيانتها له، قبل أن يعمد شيخ القرية عبد الوهاب القرشي إلى إلباس الجريمة لبوسها «الشرعي» وتزويج القاتل من إحدى بناته. كما يلتقي حمراس بنجاة عزرا، حبيبته السابقة، التي أثارت ريبة أهل القرية بسبب إقامتها في منزل الحمداوي، المتخصص بشؤون الرقى والتعاويذ والتداوي بالأعشاب، والذي أكد لوحيد علاقته العاطفية بأمه المقتولة، مؤكداً له أنه والده الحقيقي، قبل أن تتسارع الأحداث بشكل دراماتيكي، حيث يتم رجم الحمداوي وعزرا حتى الموت بتهمتي الشعوذة والزنا. وفي هذه الأثناء يقوم قاتل مجهول بتنفيذ العديد من الجرائم الأخرى، مقتلعاً بشكل وحشي الأعضاء التناسلية لضحاياه الذكور.
على أن الأمور ما تلبث أن تختلط على القارئ في القسم الأخير من الرواية، ليجد نفسه مرة أخرى إزاء مسار مغاير للأحداث، حيث تظهر له الطبيعة الفصامية لشخصية البطل الراوي، وحيث نكتشف أن فاطمة التي ادعى حمراس زيارته لها مع ولديها، لم تكن سوى زوجته التي تعرضت للاغتصاب والقتل قبل سنوات عدة، وأن الزيارة تلك كانت واحدة من بنات أوهامه. أما هيلين بلانك فكانت من جهتها ثمرة تشوشه الذهني الذي جعله يخلط بينها وبين صديقته الألمانية ماتيلدا، التي ربطته بها علاقة عاطفية سابقة، وكذلك الأمر بالنسبة لـ«ك» الذي لم يتأكد وجوده الفعلي، وللقاتل الغامض الذي يشير اختزاله بالحرف «أ» إلى هويته الملتبسة والمتأرجحة بين «أنا» الأب غير البيولوجي، والساعي إلى الانتقام لـ«شرفه المطعون»، وبين «أنا» الابن المنفصمة إلى حدود التشظي.
لقد نجح عبد اللطيف ولد عبد الله، أخيراً، في تسليط الضوء على الحقبة الأشد هولاً من حقب التاريخ الجزائري، حيث بلغت المواجهة الدامية بين السلطة الحاكمة وبين قوى الظلام التكفيري حدودها القصوى، بقدر ما بدا أفق الخروج من النفق مسدوداً تماماً. وقد استطاع المؤلف أن يطرح بمهارة وحذق أكثر الأسئلة المتعلقة بالواقعين الجزائري والعربي إشكاليةً وعمقاً. إذ ثمة ما يتعلق بالهوية المثلومة التي تحاول ترميم نفسها في مرآة الغرب الاستحواذي. وثمة ما يتعلق بالأساليب العنفية وغير الأخلاقية التي لجأ إليها كل من الطرفين الرسمي والتكفيري، بهدف الانتصار على الآخر، ولو تطلب الأمر ارتكاب الكثير من المجازر وعمليات السرقة والنهب المنظم. وثمة ما يتعلق برسم الحدود المفتعلة بين الدول، لحماية المصالح الخاصة وشبكات التهريب. وثمة ما يتعلق باختراع مقدسات وأولياء مزورين لتوفير خطوط آمنة للصوص الداخل والخارج. وثمة ما يتعلق بالصراع الأبدي والضاري بين الهوية المتحققة والهوية العصية على التحقق، بين لعنة المكان الأصلي وجحيم المنفى. وهو ما حول عمل عبد اللطيف ولد عبد الله إلى سلسلة متواصلة من الألغاز، وحول بالقدر نفسه شخصية بطلها الرئيسي إلى بؤرة من الضياع وحفنة من الهلوسات.



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.