التعاون يتغلب على المنافسة

مروحية روسية فوق دورية مشتركة مع الجيش التركي شمال شرقي سوريا أمس (أ.ف.ب)
مروحية روسية فوق دورية مشتركة مع الجيش التركي شمال شرقي سوريا أمس (أ.ف.ب)
TT

التعاون يتغلب على المنافسة

مروحية روسية فوق دورية مشتركة مع الجيش التركي شمال شرقي سوريا أمس (أ.ف.ب)
مروحية روسية فوق دورية مشتركة مع الجيش التركي شمال شرقي سوريا أمس (أ.ف.ب)

إذا لم نقل إن تاريخ العلاقات بين الدولتين الجارتين متعددتي القوميات والأديان، روسيا وتركيا، اللتين مرت كل منهما عبر حقبة الإمبراطورية (الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية العثمانية) لم يكن مستقيماً، ولم نقل إنه كانت فيه حروب عديدة ومراحل شراكة بناءة، وحتى صداقة، فهذا يعني أننا لم نقل شيئاً.
وإذا لم نقل إن ذاكرتهما التاريخية مثقلة بالمظالم، وفي الوقت نفسه إن علاقاتهما تستند إلى أساس قوي للتعايش بين الشعبين الروسي والتركي، فهذا أيضاً لن يكون مطابقاً للواقع.
لكن، من ناحية أخرى، هل كان تاريخ العلاقات بين دول تقع في فضاء واحد، حتى وإن كانت تفصلهم المياه، مستقيماً؟ يكفي أن نذكر هنا الحروب بين الولايات المتحدة وبريطانيا، اللتين تربطهما علاقات قرابة، تلك الحروب التي كانت في حينها تحريرية بالنسبة لأميركا.
إذا تحدثنا حصرياً عن تاريخ روسيا وتركيا في حقبة ما بعد الإمبراطورية وما بعد الثورة في القرنين العشرين والحادي والعشرين، فسنجد هنا أيضاً فترات من علاقات الصداقة والتعاون، وفترات من المواجهة والعداوة.
منذ بداية عشرينيات القرن الماضي وحتى عام 1939 (نقطة الانحدار الفعلية) كانت الدولتان في بعض الأحيان قريبتين جداً، لدرجة أنه من بين الشخصيات البطولية التي خُلِّدت في النصب التذكاري الرائع في ميدان تقسيم في إسطنبول، إلى جانب الشخصيات التركية التي تدين لها تركيا بالحفاظ على دولتها، تمثال المشير السوفياتي، ولاحقاً الرئيس الرسمي للاتحاد السوفياتي، كليمنت فوروشيلوف، وتمثال مؤسس المخابرات العسكرية السوفياتية، سيميون أرالوف.
العلاقات بين روسيا وتركيا تتعزز اليوم باطراد، مع أنها ليست خالية من المشاكل.
كان عام 2000 نقطة مرجعية لبداية مرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين، حَددت فيها المصالحُ الوطنية سلفاً انتصار التعاون على التنافس.
إن النمو الهائل للسياحة والتواصل الوثيق بين الناس (يكفي القول إن عدد الأسر المختلطة تجاوز 80 ألف شخص) أصبح عنصراً هاماً في تنمية العلاقات. ورغم التفاؤل الذي ساد في تقييم آفاق التعاون المتنامي بسرعة، لاحظ العديد من الخبراء أن هذا التعاون مجزأً وغير متناظر، وهو ما أود وصفه بأنه أفقي أو قطاعي، أي بمعنى الاختلاف في مستويات تطوره في مختلف مجالات الحياة.
بعبارة أخرى، حتى في الفترة الحديثة الحالية، أي في القرن الحادي والعشرين، لم تكن العلاقات بين البلدين مستقيمة أيضاً، حيث شهد الجو العام للاتفاق، وبشكل دوري، أزمات تم التغلب عليها، بفضل «كيمياء» العلاقات الشخصية بين الرئيسين بوتين وإردوغان، كان أشدها حادث إسقاط الطائرة الروسية الحربية من طراز «سو - 24 إم» في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 وقتل طيارها. لقد وجه هذا الحادث ضربة للروابط، ليس فقط في مجال الأمن، بل وحتى في مجال الاقتصاد، متقدماً بفارق كبير عن المجالات الأخرى، إذ تم بعده تجميد التجارة فعلياً، وبات مصير المشاريع العملاقة والمهمة في خطر.
ثم عاد قادة البلدين واتفقوا بعد اعتذار إردوغان في عام 2016. وتحسنت العلاقات مرة أخرى، لكن الأثر الذي خلفه هذا الحادث قوض الثقة المتبادلة، وسمح للمشاعر السلبية بالانتشار مرة أخرى بين جزء من السكان تجاه بعضهم البعض، حيث لا تزال هذه المشاعر تبرز بين الفينة والأخرى.
ويشير الخبير التركي حبيبي أوزدال في هذا الصدد، بحق، إلى أن نظام الإعفاء من التأشيرة الذي كان قائماً بين الدولتين قبل الحادث، بات وحتى بعد التطبيع، صالحاً على أساس متبادل، فقط لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية والخدمية، وكذلك لسائقي المركبات على الخطوط الدولية.
لكن المسألة هنا لا تكمن في أنها مجرد عواقب للحادث، إذ يتشكل انطباع، وكأن موسكو كانت مستعدة لإعادة قيود السفر جزئياً للمواطنين الأتراك في ضوء مخاوف متعلقة بالأمن القومي. فكما يقول المثل الروسي: «لم تكن هناك سعادة، لكن سوء الحظ ساعد».
أما فيما يتعلق بالمخاوف المذكورة أعلاه، فهي مرتبطة بتهديدات عبور أعضاء تنظيمات متطرفة إلى روسيا لارتكاب أعمال إرهابية على الأراضي الروسية، فضلاً عن ترويجهم للأفكار الإسلامية والقومية الراديكالية، وتجنيد المواطنين الروس. فلقد أعطى دعم تركيا لأنشطة الجماعات التي تخوض صراعاً مسلحاً في سوريا ضد الحكومة الشرعية، سبباً للاعتقاد بأن مخاوف الإدارات الروسية لم تكن من دون أساس. وثبت ذلك من خلال حادثة قتل السفير الروسي في تركيا، أندريه كارلوف، في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2016 على يد إرهابي كان سابقاً عنصراً في شرطة أنقرة. غير أنه تم نزع فتيل الموقف بسرعة من خلال رد الفعل الصحيح الذي جاء في الوقت المناسب من جانب السلطات التركية وإردوغان شخصياً، الذي كاد قبل ذلك بفترة قصيرة، في 15 - 16 يوليو (تموز) 2016، أن يقع ضحية انقلاب حاول عسكريون تنفيذه. وسهّل استعادة الثقة الموقف النشط للقيادة الروسية الداعم للزعيم التركي، والذي أدان محاولة الانقلابيين الاستيلاء على السلطة بطريقة غير قانونية. علاوة على ذلك، في حال تصديق الشائعات المتداولة في وسائل الإعلام، يُزعم أن الأجهزة الروسية الخاصة كانت قد حذرت إردوغان من الانقلاب الوشيك، مما ساعده على النجاة.
- مشاريع عملاقة
تعافت العلاقات التجارية والاقتصادية بين موسكو وأنقرة بسرعة، وواصلت المشاريع العملاقة المضي قدماً، واحتلت روسيا المرتبة الأولى من حيث عدد السياح الذين يزورون تركيا، والذي بلغ سبعة ملايين سائح بحلول عام 2019. وأكدت الخبيرتان الروسيتان إيرينا زفياغلسكايا وإرينا سفيستونوفا أن روسيا أصبحت ثالث أكبر شريك تجاري لتركيا. ففي ديسمبر 2020 بلغت حصتها 47 في المائة من إجمالي واردات الغاز السنوية إلى تركيا. وبات المشروعان العملاقان الرئيسيان، خط أنابيب الغاز «السيل الأزرق» بطاقة 16 مليار متر مكعب في السنة، و«السيل التركي» الذي تم إطلاقه في يناير (كانون الثاني) 2020. بطاقة 31.5 مليار متر مكعب في السنة، أهم المشاريع في قطاع الطاقة، حيث أصبحت تركيا مركزاً دولياً مهماً لتوزيع الطاقة، يتم من خلاله إمداد الغاز الروسي إلى بلغاريا واليونان وصربيا ورومانيا ومقدونيا الشمالية والبوسنة والهرسك. وفي الوقت الحالي، يجري بناء محطة «أكويو» النووية لتوليد الطاقة الكهربائية، جنباً إلى جنب مع تدريب الكوادر الوطنية للصناعة النووية، ويواصل مقاولو البناء الأتراك العمل بنشاط في روسيا.
كذلك، فإن صفقة شراء تركيا لأنظمة الصواريخ الروسية المضادة للطائرات من طراز «إس 400» تجاوزت الإطار الاقتصادي، نظراً لارتباطها بشكل مباشر بالمصالح الأمنية لتركيا وروسيا، الأمر الذي أثار استياءً حاداً لدى شركاء تركيا في حلف «الناتو»، إذ حاولوا التدخل لإعاقة إنجاز هذه الصفقة، من خلال التهديد بالعقوبات. وتلقى على إثرها مؤيدو التوجه الأوروآسيوي في تركيا حججاً إضافية لصالح برنامجهم. في الوقت نفسه، تدرك روسيا جيداً أن مسار أنقرة للوفاء بجميع التزاماتها في حلف «الناتو» ثابت، لكن القيادة التركية ستدافع دائماً عن الحق في اتخاذ القرارات المتعلقة بأمنها بشكل مستقل.
وعلى النسق نفسه، أدى قرار تركيا نشر طائرات من دون طيار من طراز «بيرقدار تي بي 2» (اثنتان حتى الآن) والتي بإمكانها نقل الرسائل إلى السفن الحربية التركية، في أراضي جمهورية شمال قبرص غير المعترف بها، وكذلك بدء العمل على تحديث قاعدة «جتشيكالة» الجوية، إلى بروز مخاوف لدى قيادات جمهورية قبرص واليونان ومصر (حيث، على ما يبدو، تجري تركيا مع الأخيرة حواراً جاداً وواعداً). وأبدت حكومات هذه الدول، ظاهرياً، ضبط النفس، انطلاقاً من عدم رغبتها في توتير العلاقات مع أنقرة، في انتظار رد فعل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. واتخذت روسيا إزاء هذا الأمر موقفاً مبنياً على احترام السيادة وعدم التدخل في العلاقات بين دول شرق البحر المتوسط. لكنها، في الوقت نفسه، وإدراكاً منها لأهمية المنطقة في ضمان المحيط الخارجي لأمنها الإقليمي وأمن قواعد قواتها في سوريا، واضطلاعاً بمسؤوليتها كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي، تتابع عن كثب التطورات في هذه المنطقة.
- سوريا... والجار
وهنا يلعب التعاون بين روسيا وتركيا دوراً كبيراً فيما يتعلق بالأزمة السورية على الصعيدين الثنائي والثلاثي (مع إيران)، والذي يتطور رغم الاختلافات في مواقف البلدين.
وعلى وجه الخصوص، ترى روسيا أن من الضروري أن تخضع محافظة إدلب لسيطرة الحكومة السورية، أما تركيا فهي قلقة على مصير الجماعات الموالية لها والموجودة تحت حمايتها في هذه المحافظة. فجزء كبير من المحافظة يخضع لسلطة «هيئة تحرير الشام»، التي صنّفها المجتمع الدولي بأنها منظمة إرهابية. وحتى الآن، فشلت أنقرة في الوفاء بالتزاماتها المنصوص عليها في المذكرة الروسية التركية، في تحديد وفصل الإرهابيين عن الجماعات الموالية لها.
في الوقت نفسه، تواصل روسيا وتركيا التعاون هناك. فعلى سبيل المثال، تقوم قوات البلدين بتسيير دوريات عسكرية روسية تركية مشتركة على الطريق السريع .M4
وحتى الآن، لا يزال موقف تركيا سلبياً بشكل حاد تجاه دمشق، وتعتبر الأكراد السوريين عموماً إرهابيين، باستثناء الجماعات الموالية لها. لكن روسيا لا تشاركها هذه المواقف. فهي وإن كانت تتفهم مخاوف تركيا، لكنها تنطلق من حقيقة أن وجود الأخيرة في شمال سوريا مؤقت، وفقاً لما قاله الرئيس إردوغان نفسه. ومن الصعب تحديد ما إذا كان يمكن حدوث تغير في موقف أنقرة تجاه دمشق في ظل الظروف الجديدة. وفي مطلع سبتمبر (أيلول)، تحدثت الصحافة التركية عن لقاء مرتقب في بغداد بين رئيس جهاز المخابرات التركية هاكان فيدان ورئيس مكتب الأمن الوطني السوري اللواء علي مملوك، وبدأت تركيا تتحدث عن بداية حقبة جديدة في العلاقات بين أنقرة ودمشق، التي لا تحتاج الآن إلى وساطة موسكو وطهران. وتعليقاً على النبأ، قال الرئيس السابق لإدارة الاستخبارات في الأركان العامة للقوات المسلحة التركية، الجنرال المتقاعد إسماعيل بكين، إنه سيتم مناقشة القتال ضد الجماعات الكردية المسلحة في شمال شرقي سوريا، وأزمة الهجرة، وكذلك مصير مناطق المتمردين في محافظة إدلب، والوضع في محافظة درعا. ووفقاً لما قاله الجنرال المتقاعد، فإن العملية التي انطلقت بقيادة هاكان فيدان تهدف إلى تفعيل «القنوات الدبلوماسية».
ورغم أن موقف تركيا السلبي الحاد تجاه دمشق لم يتغير، بات من الواضح أن الشائعات تبدو معقولة (لم يكن هناك إعلان رسمي عن الاجتماع المخطط له) على خلفية المحادثات حول قرار واشنطن سحب قواتها العسكرية من العراق، وحتى احتمال انسحاب الأميركيين من سوريا، وكذلك في ضوء تحسين علاقات تركيا مع السعودية ومصر والإمارات. بدورها، بدأت دوائر الخبراء الروس تتحدث عن احتمال معين لتحويل روسيا وتركيا إلى لاعبين خارجيين رئيسيين في بلاد الشام.
- حوار في ليبيا
فيما يتعلق بالأزمة الليبية، يبدو أن أنقرة وروسيا ما زالتا ملتزمتين بالحوار ولا تميلان إلى تعقيد تفاعلهما بشأن القضايا الإقليمية إثر الخلافات القائمة في الرأي حول التسوية الليبية، في انتظار الانتخابات البرلمانية والرئاسية في ديسمبر المقبل. فوفقاً لبعض المسؤولين، يُزعم أن عبد الحميد دبيبة، خلال اجتماعه في يونيو (حزيران) مع إيمانويل ماكرون، أعرب عن رأي ضد انتخابات ديسمبر، ثم أرسل إشارات مماثلة إلى لاعبين آخرين. ويعتقد الخبراء الروس والأتراك أن دبيبة يمكن أن يستفيد هو وغيره من المسؤولين الحكوميين من تأجيل الانتخابات والحفاظ على الوضع الراهن، وهو ما يصب أيضاً في مصلحة خليفة حفتر، الذي لا يمكنه الترشح كونه مواطناً أميركياً، إضافة إلى أن فرصه بالفوز ضئيلة. في الوقت نفسه، تهتم أوساط الخبراء الروس بإمكانية ترشح صدام، نجل حفتر، في الانتخابات الرئاسية، الذي يميل الإسرائيليون، بحسب الشائعات، إلى دعمه. أما سيف الإسلام القذافي، الذي لن تقبل ترشحه الجماعات المسلحة المرتبطة بالإسلاميين في طرابلس ومصراتة، فهو أيضاً بإمكانه أن يكون شخصية واعدة.
وتعير موسكو لاختلاف الرؤى في سياق العلاقات مع تركيا تجاه قضايا فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي، أهمية أكبر مما هو الحال عليه تجاه قضايا الشرق الأوسط. ومن بين هذه القضايا، على وجه الخصوص، عدم اعتراف أنقرة بشبه جزيرة القرم كجزء من الاتحاد الروسي، وكذلك التعاون العسكري التقني بين تركيا وأوكرانيا، فضلاً عن التعاون الروسي التركي في ناغورني قره باغ.
وكما كتب مؤلفو العمل الجماعي «عاصفة في القوقاز»، الذي نُشر مؤخراً تحت إشراف الخبير العسكري الروسي الشهير رسلان بوخوف، لا يمكن اعتبار الوضع الحالي في منطقة الصراع مستقراً. و«إذا لم تظهر فرص للانتقام الأرمني في المستقبل المنظور، فإن أذربيجان ستسعى إلى السيطرة الكاملة والنهائية على كامل أراضي ناغورني قره باغ». وبطبيعة الحال، لا غنى في هذه الحالة عن مساعدة تركيا، وهذا الأمر سيضع روسيا في موقف صعب، رغم أنها تمكنت حتى الآن من المناورة بنجاح كبير: فقد احتفظت بأرمينيا كحليف، وبأذربيجان كشريك. لكن، إلى متى يمكن أن يستمر هذا الوضع؟ وإلى متى ستكون أنقرة مستعدة لرؤية موسكو كحافظ رئيسي للسلام في جنوب القوقاز؟
ويلفت العديد من المحللين الروس الانتباه إلى استعدادات باكو لحرب جديدة، ويربط بعضهم ذلك بتقارب أذربيجان مع تركيا. ويمكن اليوم أن نجد في الصحف الروسية مقالات تدّعي أن الجانبين يخططان لإنشاء جيش مشترك في المستقبل تحت رعاية مجلس الدول التركية. ويجب الأخذ بعين الاعتبار، كما يقول المحلل التركي البارز كريم خاص، أن حرب قره باغ الثانية الأخيرة، اتسمت بالفعل بانخراط كبير من قبل روسيا وتركيا في الصراع.
والسؤال هو: ألا يمكن أن يتحول تطور هذا الاتجاه إلى خطورة كبيرة على الشريكين التركي والروسي؟ حينها قد يكون على حق أولئك المحللون السياسيون الذين يسمون التفاعل بين موسكو وأنقرة في مناطق الصراع «تعاوناً عدائياً»، أو «تنافساً متعاوناً».
- خاص بـ«الشرق الأوسط»



السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.