التعاون يتغلب على المنافسة

مروحية روسية فوق دورية مشتركة مع الجيش التركي شمال شرقي سوريا أمس (أ.ف.ب)
مروحية روسية فوق دورية مشتركة مع الجيش التركي شمال شرقي سوريا أمس (أ.ف.ب)
TT

التعاون يتغلب على المنافسة

مروحية روسية فوق دورية مشتركة مع الجيش التركي شمال شرقي سوريا أمس (أ.ف.ب)
مروحية روسية فوق دورية مشتركة مع الجيش التركي شمال شرقي سوريا أمس (أ.ف.ب)

إذا لم نقل إن تاريخ العلاقات بين الدولتين الجارتين متعددتي القوميات والأديان، روسيا وتركيا، اللتين مرت كل منهما عبر حقبة الإمبراطورية (الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية العثمانية) لم يكن مستقيماً، ولم نقل إنه كانت فيه حروب عديدة ومراحل شراكة بناءة، وحتى صداقة، فهذا يعني أننا لم نقل شيئاً.
وإذا لم نقل إن ذاكرتهما التاريخية مثقلة بالمظالم، وفي الوقت نفسه إن علاقاتهما تستند إلى أساس قوي للتعايش بين الشعبين الروسي والتركي، فهذا أيضاً لن يكون مطابقاً للواقع.
لكن، من ناحية أخرى، هل كان تاريخ العلاقات بين دول تقع في فضاء واحد، حتى وإن كانت تفصلهم المياه، مستقيماً؟ يكفي أن نذكر هنا الحروب بين الولايات المتحدة وبريطانيا، اللتين تربطهما علاقات قرابة، تلك الحروب التي كانت في حينها تحريرية بالنسبة لأميركا.
إذا تحدثنا حصرياً عن تاريخ روسيا وتركيا في حقبة ما بعد الإمبراطورية وما بعد الثورة في القرنين العشرين والحادي والعشرين، فسنجد هنا أيضاً فترات من علاقات الصداقة والتعاون، وفترات من المواجهة والعداوة.
منذ بداية عشرينيات القرن الماضي وحتى عام 1939 (نقطة الانحدار الفعلية) كانت الدولتان في بعض الأحيان قريبتين جداً، لدرجة أنه من بين الشخصيات البطولية التي خُلِّدت في النصب التذكاري الرائع في ميدان تقسيم في إسطنبول، إلى جانب الشخصيات التركية التي تدين لها تركيا بالحفاظ على دولتها، تمثال المشير السوفياتي، ولاحقاً الرئيس الرسمي للاتحاد السوفياتي، كليمنت فوروشيلوف، وتمثال مؤسس المخابرات العسكرية السوفياتية، سيميون أرالوف.
العلاقات بين روسيا وتركيا تتعزز اليوم باطراد، مع أنها ليست خالية من المشاكل.
كان عام 2000 نقطة مرجعية لبداية مرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين، حَددت فيها المصالحُ الوطنية سلفاً انتصار التعاون على التنافس.
إن النمو الهائل للسياحة والتواصل الوثيق بين الناس (يكفي القول إن عدد الأسر المختلطة تجاوز 80 ألف شخص) أصبح عنصراً هاماً في تنمية العلاقات. ورغم التفاؤل الذي ساد في تقييم آفاق التعاون المتنامي بسرعة، لاحظ العديد من الخبراء أن هذا التعاون مجزأً وغير متناظر، وهو ما أود وصفه بأنه أفقي أو قطاعي، أي بمعنى الاختلاف في مستويات تطوره في مختلف مجالات الحياة.
بعبارة أخرى، حتى في الفترة الحديثة الحالية، أي في القرن الحادي والعشرين، لم تكن العلاقات بين البلدين مستقيمة أيضاً، حيث شهد الجو العام للاتفاق، وبشكل دوري، أزمات تم التغلب عليها، بفضل «كيمياء» العلاقات الشخصية بين الرئيسين بوتين وإردوغان، كان أشدها حادث إسقاط الطائرة الروسية الحربية من طراز «سو - 24 إم» في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 وقتل طيارها. لقد وجه هذا الحادث ضربة للروابط، ليس فقط في مجال الأمن، بل وحتى في مجال الاقتصاد، متقدماً بفارق كبير عن المجالات الأخرى، إذ تم بعده تجميد التجارة فعلياً، وبات مصير المشاريع العملاقة والمهمة في خطر.
ثم عاد قادة البلدين واتفقوا بعد اعتذار إردوغان في عام 2016. وتحسنت العلاقات مرة أخرى، لكن الأثر الذي خلفه هذا الحادث قوض الثقة المتبادلة، وسمح للمشاعر السلبية بالانتشار مرة أخرى بين جزء من السكان تجاه بعضهم البعض، حيث لا تزال هذه المشاعر تبرز بين الفينة والأخرى.
ويشير الخبير التركي حبيبي أوزدال في هذا الصدد، بحق، إلى أن نظام الإعفاء من التأشيرة الذي كان قائماً بين الدولتين قبل الحادث، بات وحتى بعد التطبيع، صالحاً على أساس متبادل، فقط لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية والخدمية، وكذلك لسائقي المركبات على الخطوط الدولية.
لكن المسألة هنا لا تكمن في أنها مجرد عواقب للحادث، إذ يتشكل انطباع، وكأن موسكو كانت مستعدة لإعادة قيود السفر جزئياً للمواطنين الأتراك في ضوء مخاوف متعلقة بالأمن القومي. فكما يقول المثل الروسي: «لم تكن هناك سعادة، لكن سوء الحظ ساعد».
أما فيما يتعلق بالمخاوف المذكورة أعلاه، فهي مرتبطة بتهديدات عبور أعضاء تنظيمات متطرفة إلى روسيا لارتكاب أعمال إرهابية على الأراضي الروسية، فضلاً عن ترويجهم للأفكار الإسلامية والقومية الراديكالية، وتجنيد المواطنين الروس. فلقد أعطى دعم تركيا لأنشطة الجماعات التي تخوض صراعاً مسلحاً في سوريا ضد الحكومة الشرعية، سبباً للاعتقاد بأن مخاوف الإدارات الروسية لم تكن من دون أساس. وثبت ذلك من خلال حادثة قتل السفير الروسي في تركيا، أندريه كارلوف، في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2016 على يد إرهابي كان سابقاً عنصراً في شرطة أنقرة. غير أنه تم نزع فتيل الموقف بسرعة من خلال رد الفعل الصحيح الذي جاء في الوقت المناسب من جانب السلطات التركية وإردوغان شخصياً، الذي كاد قبل ذلك بفترة قصيرة، في 15 - 16 يوليو (تموز) 2016، أن يقع ضحية انقلاب حاول عسكريون تنفيذه. وسهّل استعادة الثقة الموقف النشط للقيادة الروسية الداعم للزعيم التركي، والذي أدان محاولة الانقلابيين الاستيلاء على السلطة بطريقة غير قانونية. علاوة على ذلك، في حال تصديق الشائعات المتداولة في وسائل الإعلام، يُزعم أن الأجهزة الروسية الخاصة كانت قد حذرت إردوغان من الانقلاب الوشيك، مما ساعده على النجاة.
- مشاريع عملاقة
تعافت العلاقات التجارية والاقتصادية بين موسكو وأنقرة بسرعة، وواصلت المشاريع العملاقة المضي قدماً، واحتلت روسيا المرتبة الأولى من حيث عدد السياح الذين يزورون تركيا، والذي بلغ سبعة ملايين سائح بحلول عام 2019. وأكدت الخبيرتان الروسيتان إيرينا زفياغلسكايا وإرينا سفيستونوفا أن روسيا أصبحت ثالث أكبر شريك تجاري لتركيا. ففي ديسمبر 2020 بلغت حصتها 47 في المائة من إجمالي واردات الغاز السنوية إلى تركيا. وبات المشروعان العملاقان الرئيسيان، خط أنابيب الغاز «السيل الأزرق» بطاقة 16 مليار متر مكعب في السنة، و«السيل التركي» الذي تم إطلاقه في يناير (كانون الثاني) 2020. بطاقة 31.5 مليار متر مكعب في السنة، أهم المشاريع في قطاع الطاقة، حيث أصبحت تركيا مركزاً دولياً مهماً لتوزيع الطاقة، يتم من خلاله إمداد الغاز الروسي إلى بلغاريا واليونان وصربيا ورومانيا ومقدونيا الشمالية والبوسنة والهرسك. وفي الوقت الحالي، يجري بناء محطة «أكويو» النووية لتوليد الطاقة الكهربائية، جنباً إلى جنب مع تدريب الكوادر الوطنية للصناعة النووية، ويواصل مقاولو البناء الأتراك العمل بنشاط في روسيا.
كذلك، فإن صفقة شراء تركيا لأنظمة الصواريخ الروسية المضادة للطائرات من طراز «إس 400» تجاوزت الإطار الاقتصادي، نظراً لارتباطها بشكل مباشر بالمصالح الأمنية لتركيا وروسيا، الأمر الذي أثار استياءً حاداً لدى شركاء تركيا في حلف «الناتو»، إذ حاولوا التدخل لإعاقة إنجاز هذه الصفقة، من خلال التهديد بالعقوبات. وتلقى على إثرها مؤيدو التوجه الأوروآسيوي في تركيا حججاً إضافية لصالح برنامجهم. في الوقت نفسه، تدرك روسيا جيداً أن مسار أنقرة للوفاء بجميع التزاماتها في حلف «الناتو» ثابت، لكن القيادة التركية ستدافع دائماً عن الحق في اتخاذ القرارات المتعلقة بأمنها بشكل مستقل.
وعلى النسق نفسه، أدى قرار تركيا نشر طائرات من دون طيار من طراز «بيرقدار تي بي 2» (اثنتان حتى الآن) والتي بإمكانها نقل الرسائل إلى السفن الحربية التركية، في أراضي جمهورية شمال قبرص غير المعترف بها، وكذلك بدء العمل على تحديث قاعدة «جتشيكالة» الجوية، إلى بروز مخاوف لدى قيادات جمهورية قبرص واليونان ومصر (حيث، على ما يبدو، تجري تركيا مع الأخيرة حواراً جاداً وواعداً). وأبدت حكومات هذه الدول، ظاهرياً، ضبط النفس، انطلاقاً من عدم رغبتها في توتير العلاقات مع أنقرة، في انتظار رد فعل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. واتخذت روسيا إزاء هذا الأمر موقفاً مبنياً على احترام السيادة وعدم التدخل في العلاقات بين دول شرق البحر المتوسط. لكنها، في الوقت نفسه، وإدراكاً منها لأهمية المنطقة في ضمان المحيط الخارجي لأمنها الإقليمي وأمن قواعد قواتها في سوريا، واضطلاعاً بمسؤوليتها كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي، تتابع عن كثب التطورات في هذه المنطقة.
- سوريا... والجار
وهنا يلعب التعاون بين روسيا وتركيا دوراً كبيراً فيما يتعلق بالأزمة السورية على الصعيدين الثنائي والثلاثي (مع إيران)، والذي يتطور رغم الاختلافات في مواقف البلدين.
وعلى وجه الخصوص، ترى روسيا أن من الضروري أن تخضع محافظة إدلب لسيطرة الحكومة السورية، أما تركيا فهي قلقة على مصير الجماعات الموالية لها والموجودة تحت حمايتها في هذه المحافظة. فجزء كبير من المحافظة يخضع لسلطة «هيئة تحرير الشام»، التي صنّفها المجتمع الدولي بأنها منظمة إرهابية. وحتى الآن، فشلت أنقرة في الوفاء بالتزاماتها المنصوص عليها في المذكرة الروسية التركية، في تحديد وفصل الإرهابيين عن الجماعات الموالية لها.
في الوقت نفسه، تواصل روسيا وتركيا التعاون هناك. فعلى سبيل المثال، تقوم قوات البلدين بتسيير دوريات عسكرية روسية تركية مشتركة على الطريق السريع .M4
وحتى الآن، لا يزال موقف تركيا سلبياً بشكل حاد تجاه دمشق، وتعتبر الأكراد السوريين عموماً إرهابيين، باستثناء الجماعات الموالية لها. لكن روسيا لا تشاركها هذه المواقف. فهي وإن كانت تتفهم مخاوف تركيا، لكنها تنطلق من حقيقة أن وجود الأخيرة في شمال سوريا مؤقت، وفقاً لما قاله الرئيس إردوغان نفسه. ومن الصعب تحديد ما إذا كان يمكن حدوث تغير في موقف أنقرة تجاه دمشق في ظل الظروف الجديدة. وفي مطلع سبتمبر (أيلول)، تحدثت الصحافة التركية عن لقاء مرتقب في بغداد بين رئيس جهاز المخابرات التركية هاكان فيدان ورئيس مكتب الأمن الوطني السوري اللواء علي مملوك، وبدأت تركيا تتحدث عن بداية حقبة جديدة في العلاقات بين أنقرة ودمشق، التي لا تحتاج الآن إلى وساطة موسكو وطهران. وتعليقاً على النبأ، قال الرئيس السابق لإدارة الاستخبارات في الأركان العامة للقوات المسلحة التركية، الجنرال المتقاعد إسماعيل بكين، إنه سيتم مناقشة القتال ضد الجماعات الكردية المسلحة في شمال شرقي سوريا، وأزمة الهجرة، وكذلك مصير مناطق المتمردين في محافظة إدلب، والوضع في محافظة درعا. ووفقاً لما قاله الجنرال المتقاعد، فإن العملية التي انطلقت بقيادة هاكان فيدان تهدف إلى تفعيل «القنوات الدبلوماسية».
ورغم أن موقف تركيا السلبي الحاد تجاه دمشق لم يتغير، بات من الواضح أن الشائعات تبدو معقولة (لم يكن هناك إعلان رسمي عن الاجتماع المخطط له) على خلفية المحادثات حول قرار واشنطن سحب قواتها العسكرية من العراق، وحتى احتمال انسحاب الأميركيين من سوريا، وكذلك في ضوء تحسين علاقات تركيا مع السعودية ومصر والإمارات. بدورها، بدأت دوائر الخبراء الروس تتحدث عن احتمال معين لتحويل روسيا وتركيا إلى لاعبين خارجيين رئيسيين في بلاد الشام.
- حوار في ليبيا
فيما يتعلق بالأزمة الليبية، يبدو أن أنقرة وروسيا ما زالتا ملتزمتين بالحوار ولا تميلان إلى تعقيد تفاعلهما بشأن القضايا الإقليمية إثر الخلافات القائمة في الرأي حول التسوية الليبية، في انتظار الانتخابات البرلمانية والرئاسية في ديسمبر المقبل. فوفقاً لبعض المسؤولين، يُزعم أن عبد الحميد دبيبة، خلال اجتماعه في يونيو (حزيران) مع إيمانويل ماكرون، أعرب عن رأي ضد انتخابات ديسمبر، ثم أرسل إشارات مماثلة إلى لاعبين آخرين. ويعتقد الخبراء الروس والأتراك أن دبيبة يمكن أن يستفيد هو وغيره من المسؤولين الحكوميين من تأجيل الانتخابات والحفاظ على الوضع الراهن، وهو ما يصب أيضاً في مصلحة خليفة حفتر، الذي لا يمكنه الترشح كونه مواطناً أميركياً، إضافة إلى أن فرصه بالفوز ضئيلة. في الوقت نفسه، تهتم أوساط الخبراء الروس بإمكانية ترشح صدام، نجل حفتر، في الانتخابات الرئاسية، الذي يميل الإسرائيليون، بحسب الشائعات، إلى دعمه. أما سيف الإسلام القذافي، الذي لن تقبل ترشحه الجماعات المسلحة المرتبطة بالإسلاميين في طرابلس ومصراتة، فهو أيضاً بإمكانه أن يكون شخصية واعدة.
وتعير موسكو لاختلاف الرؤى في سياق العلاقات مع تركيا تجاه قضايا فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي، أهمية أكبر مما هو الحال عليه تجاه قضايا الشرق الأوسط. ومن بين هذه القضايا، على وجه الخصوص، عدم اعتراف أنقرة بشبه جزيرة القرم كجزء من الاتحاد الروسي، وكذلك التعاون العسكري التقني بين تركيا وأوكرانيا، فضلاً عن التعاون الروسي التركي في ناغورني قره باغ.
وكما كتب مؤلفو العمل الجماعي «عاصفة في القوقاز»، الذي نُشر مؤخراً تحت إشراف الخبير العسكري الروسي الشهير رسلان بوخوف، لا يمكن اعتبار الوضع الحالي في منطقة الصراع مستقراً. و«إذا لم تظهر فرص للانتقام الأرمني في المستقبل المنظور، فإن أذربيجان ستسعى إلى السيطرة الكاملة والنهائية على كامل أراضي ناغورني قره باغ». وبطبيعة الحال، لا غنى في هذه الحالة عن مساعدة تركيا، وهذا الأمر سيضع روسيا في موقف صعب، رغم أنها تمكنت حتى الآن من المناورة بنجاح كبير: فقد احتفظت بأرمينيا كحليف، وبأذربيجان كشريك. لكن، إلى متى يمكن أن يستمر هذا الوضع؟ وإلى متى ستكون أنقرة مستعدة لرؤية موسكو كحافظ رئيسي للسلام في جنوب القوقاز؟
ويلفت العديد من المحللين الروس الانتباه إلى استعدادات باكو لحرب جديدة، ويربط بعضهم ذلك بتقارب أذربيجان مع تركيا. ويمكن اليوم أن نجد في الصحف الروسية مقالات تدّعي أن الجانبين يخططان لإنشاء جيش مشترك في المستقبل تحت رعاية مجلس الدول التركية. ويجب الأخذ بعين الاعتبار، كما يقول المحلل التركي البارز كريم خاص، أن حرب قره باغ الثانية الأخيرة، اتسمت بالفعل بانخراط كبير من قبل روسيا وتركيا في الصراع.
والسؤال هو: ألا يمكن أن يتحول تطور هذا الاتجاه إلى خطورة كبيرة على الشريكين التركي والروسي؟ حينها قد يكون على حق أولئك المحللون السياسيون الذين يسمون التفاعل بين موسكو وأنقرة في مناطق الصراع «تعاوناً عدائياً»، أو «تنافساً متعاوناً».
- خاص بـ«الشرق الأوسط»



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.