التعاون يتغلب على المنافسة

مروحية روسية فوق دورية مشتركة مع الجيش التركي شمال شرقي سوريا أمس (أ.ف.ب)
مروحية روسية فوق دورية مشتركة مع الجيش التركي شمال شرقي سوريا أمس (أ.ف.ب)
TT

التعاون يتغلب على المنافسة

مروحية روسية فوق دورية مشتركة مع الجيش التركي شمال شرقي سوريا أمس (أ.ف.ب)
مروحية روسية فوق دورية مشتركة مع الجيش التركي شمال شرقي سوريا أمس (أ.ف.ب)

إذا لم نقل إن تاريخ العلاقات بين الدولتين الجارتين متعددتي القوميات والأديان، روسيا وتركيا، اللتين مرت كل منهما عبر حقبة الإمبراطورية (الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية العثمانية) لم يكن مستقيماً، ولم نقل إنه كانت فيه حروب عديدة ومراحل شراكة بناءة، وحتى صداقة، فهذا يعني أننا لم نقل شيئاً.
وإذا لم نقل إن ذاكرتهما التاريخية مثقلة بالمظالم، وفي الوقت نفسه إن علاقاتهما تستند إلى أساس قوي للتعايش بين الشعبين الروسي والتركي، فهذا أيضاً لن يكون مطابقاً للواقع.
لكن، من ناحية أخرى، هل كان تاريخ العلاقات بين دول تقع في فضاء واحد، حتى وإن كانت تفصلهم المياه، مستقيماً؟ يكفي أن نذكر هنا الحروب بين الولايات المتحدة وبريطانيا، اللتين تربطهما علاقات قرابة، تلك الحروب التي كانت في حينها تحريرية بالنسبة لأميركا.
إذا تحدثنا حصرياً عن تاريخ روسيا وتركيا في حقبة ما بعد الإمبراطورية وما بعد الثورة في القرنين العشرين والحادي والعشرين، فسنجد هنا أيضاً فترات من علاقات الصداقة والتعاون، وفترات من المواجهة والعداوة.
منذ بداية عشرينيات القرن الماضي وحتى عام 1939 (نقطة الانحدار الفعلية) كانت الدولتان في بعض الأحيان قريبتين جداً، لدرجة أنه من بين الشخصيات البطولية التي خُلِّدت في النصب التذكاري الرائع في ميدان تقسيم في إسطنبول، إلى جانب الشخصيات التركية التي تدين لها تركيا بالحفاظ على دولتها، تمثال المشير السوفياتي، ولاحقاً الرئيس الرسمي للاتحاد السوفياتي، كليمنت فوروشيلوف، وتمثال مؤسس المخابرات العسكرية السوفياتية، سيميون أرالوف.
العلاقات بين روسيا وتركيا تتعزز اليوم باطراد، مع أنها ليست خالية من المشاكل.
كان عام 2000 نقطة مرجعية لبداية مرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين، حَددت فيها المصالحُ الوطنية سلفاً انتصار التعاون على التنافس.
إن النمو الهائل للسياحة والتواصل الوثيق بين الناس (يكفي القول إن عدد الأسر المختلطة تجاوز 80 ألف شخص) أصبح عنصراً هاماً في تنمية العلاقات. ورغم التفاؤل الذي ساد في تقييم آفاق التعاون المتنامي بسرعة، لاحظ العديد من الخبراء أن هذا التعاون مجزأً وغير متناظر، وهو ما أود وصفه بأنه أفقي أو قطاعي، أي بمعنى الاختلاف في مستويات تطوره في مختلف مجالات الحياة.
بعبارة أخرى، حتى في الفترة الحديثة الحالية، أي في القرن الحادي والعشرين، لم تكن العلاقات بين البلدين مستقيمة أيضاً، حيث شهد الجو العام للاتفاق، وبشكل دوري، أزمات تم التغلب عليها، بفضل «كيمياء» العلاقات الشخصية بين الرئيسين بوتين وإردوغان، كان أشدها حادث إسقاط الطائرة الروسية الحربية من طراز «سو - 24 إم» في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 وقتل طيارها. لقد وجه هذا الحادث ضربة للروابط، ليس فقط في مجال الأمن، بل وحتى في مجال الاقتصاد، متقدماً بفارق كبير عن المجالات الأخرى، إذ تم بعده تجميد التجارة فعلياً، وبات مصير المشاريع العملاقة والمهمة في خطر.
ثم عاد قادة البلدين واتفقوا بعد اعتذار إردوغان في عام 2016. وتحسنت العلاقات مرة أخرى، لكن الأثر الذي خلفه هذا الحادث قوض الثقة المتبادلة، وسمح للمشاعر السلبية بالانتشار مرة أخرى بين جزء من السكان تجاه بعضهم البعض، حيث لا تزال هذه المشاعر تبرز بين الفينة والأخرى.
ويشير الخبير التركي حبيبي أوزدال في هذا الصدد، بحق، إلى أن نظام الإعفاء من التأشيرة الذي كان قائماً بين الدولتين قبل الحادث، بات وحتى بعد التطبيع، صالحاً على أساس متبادل، فقط لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية والخدمية، وكذلك لسائقي المركبات على الخطوط الدولية.
لكن المسألة هنا لا تكمن في أنها مجرد عواقب للحادث، إذ يتشكل انطباع، وكأن موسكو كانت مستعدة لإعادة قيود السفر جزئياً للمواطنين الأتراك في ضوء مخاوف متعلقة بالأمن القومي. فكما يقول المثل الروسي: «لم تكن هناك سعادة، لكن سوء الحظ ساعد».
أما فيما يتعلق بالمخاوف المذكورة أعلاه، فهي مرتبطة بتهديدات عبور أعضاء تنظيمات متطرفة إلى روسيا لارتكاب أعمال إرهابية على الأراضي الروسية، فضلاً عن ترويجهم للأفكار الإسلامية والقومية الراديكالية، وتجنيد المواطنين الروس. فلقد أعطى دعم تركيا لأنشطة الجماعات التي تخوض صراعاً مسلحاً في سوريا ضد الحكومة الشرعية، سبباً للاعتقاد بأن مخاوف الإدارات الروسية لم تكن من دون أساس. وثبت ذلك من خلال حادثة قتل السفير الروسي في تركيا، أندريه كارلوف، في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2016 على يد إرهابي كان سابقاً عنصراً في شرطة أنقرة. غير أنه تم نزع فتيل الموقف بسرعة من خلال رد الفعل الصحيح الذي جاء في الوقت المناسب من جانب السلطات التركية وإردوغان شخصياً، الذي كاد قبل ذلك بفترة قصيرة، في 15 - 16 يوليو (تموز) 2016، أن يقع ضحية انقلاب حاول عسكريون تنفيذه. وسهّل استعادة الثقة الموقف النشط للقيادة الروسية الداعم للزعيم التركي، والذي أدان محاولة الانقلابيين الاستيلاء على السلطة بطريقة غير قانونية. علاوة على ذلك، في حال تصديق الشائعات المتداولة في وسائل الإعلام، يُزعم أن الأجهزة الروسية الخاصة كانت قد حذرت إردوغان من الانقلاب الوشيك، مما ساعده على النجاة.
- مشاريع عملاقة
تعافت العلاقات التجارية والاقتصادية بين موسكو وأنقرة بسرعة، وواصلت المشاريع العملاقة المضي قدماً، واحتلت روسيا المرتبة الأولى من حيث عدد السياح الذين يزورون تركيا، والذي بلغ سبعة ملايين سائح بحلول عام 2019. وأكدت الخبيرتان الروسيتان إيرينا زفياغلسكايا وإرينا سفيستونوفا أن روسيا أصبحت ثالث أكبر شريك تجاري لتركيا. ففي ديسمبر 2020 بلغت حصتها 47 في المائة من إجمالي واردات الغاز السنوية إلى تركيا. وبات المشروعان العملاقان الرئيسيان، خط أنابيب الغاز «السيل الأزرق» بطاقة 16 مليار متر مكعب في السنة، و«السيل التركي» الذي تم إطلاقه في يناير (كانون الثاني) 2020. بطاقة 31.5 مليار متر مكعب في السنة، أهم المشاريع في قطاع الطاقة، حيث أصبحت تركيا مركزاً دولياً مهماً لتوزيع الطاقة، يتم من خلاله إمداد الغاز الروسي إلى بلغاريا واليونان وصربيا ورومانيا ومقدونيا الشمالية والبوسنة والهرسك. وفي الوقت الحالي، يجري بناء محطة «أكويو» النووية لتوليد الطاقة الكهربائية، جنباً إلى جنب مع تدريب الكوادر الوطنية للصناعة النووية، ويواصل مقاولو البناء الأتراك العمل بنشاط في روسيا.
كذلك، فإن صفقة شراء تركيا لأنظمة الصواريخ الروسية المضادة للطائرات من طراز «إس 400» تجاوزت الإطار الاقتصادي، نظراً لارتباطها بشكل مباشر بالمصالح الأمنية لتركيا وروسيا، الأمر الذي أثار استياءً حاداً لدى شركاء تركيا في حلف «الناتو»، إذ حاولوا التدخل لإعاقة إنجاز هذه الصفقة، من خلال التهديد بالعقوبات. وتلقى على إثرها مؤيدو التوجه الأوروآسيوي في تركيا حججاً إضافية لصالح برنامجهم. في الوقت نفسه، تدرك روسيا جيداً أن مسار أنقرة للوفاء بجميع التزاماتها في حلف «الناتو» ثابت، لكن القيادة التركية ستدافع دائماً عن الحق في اتخاذ القرارات المتعلقة بأمنها بشكل مستقل.
وعلى النسق نفسه، أدى قرار تركيا نشر طائرات من دون طيار من طراز «بيرقدار تي بي 2» (اثنتان حتى الآن) والتي بإمكانها نقل الرسائل إلى السفن الحربية التركية، في أراضي جمهورية شمال قبرص غير المعترف بها، وكذلك بدء العمل على تحديث قاعدة «جتشيكالة» الجوية، إلى بروز مخاوف لدى قيادات جمهورية قبرص واليونان ومصر (حيث، على ما يبدو، تجري تركيا مع الأخيرة حواراً جاداً وواعداً). وأبدت حكومات هذه الدول، ظاهرياً، ضبط النفس، انطلاقاً من عدم رغبتها في توتير العلاقات مع أنقرة، في انتظار رد فعل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. واتخذت روسيا إزاء هذا الأمر موقفاً مبنياً على احترام السيادة وعدم التدخل في العلاقات بين دول شرق البحر المتوسط. لكنها، في الوقت نفسه، وإدراكاً منها لأهمية المنطقة في ضمان المحيط الخارجي لأمنها الإقليمي وأمن قواعد قواتها في سوريا، واضطلاعاً بمسؤوليتها كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي، تتابع عن كثب التطورات في هذه المنطقة.
- سوريا... والجار
وهنا يلعب التعاون بين روسيا وتركيا دوراً كبيراً فيما يتعلق بالأزمة السورية على الصعيدين الثنائي والثلاثي (مع إيران)، والذي يتطور رغم الاختلافات في مواقف البلدين.
وعلى وجه الخصوص، ترى روسيا أن من الضروري أن تخضع محافظة إدلب لسيطرة الحكومة السورية، أما تركيا فهي قلقة على مصير الجماعات الموالية لها والموجودة تحت حمايتها في هذه المحافظة. فجزء كبير من المحافظة يخضع لسلطة «هيئة تحرير الشام»، التي صنّفها المجتمع الدولي بأنها منظمة إرهابية. وحتى الآن، فشلت أنقرة في الوفاء بالتزاماتها المنصوص عليها في المذكرة الروسية التركية، في تحديد وفصل الإرهابيين عن الجماعات الموالية لها.
في الوقت نفسه، تواصل روسيا وتركيا التعاون هناك. فعلى سبيل المثال، تقوم قوات البلدين بتسيير دوريات عسكرية روسية تركية مشتركة على الطريق السريع .M4
وحتى الآن، لا يزال موقف تركيا سلبياً بشكل حاد تجاه دمشق، وتعتبر الأكراد السوريين عموماً إرهابيين، باستثناء الجماعات الموالية لها. لكن روسيا لا تشاركها هذه المواقف. فهي وإن كانت تتفهم مخاوف تركيا، لكنها تنطلق من حقيقة أن وجود الأخيرة في شمال سوريا مؤقت، وفقاً لما قاله الرئيس إردوغان نفسه. ومن الصعب تحديد ما إذا كان يمكن حدوث تغير في موقف أنقرة تجاه دمشق في ظل الظروف الجديدة. وفي مطلع سبتمبر (أيلول)، تحدثت الصحافة التركية عن لقاء مرتقب في بغداد بين رئيس جهاز المخابرات التركية هاكان فيدان ورئيس مكتب الأمن الوطني السوري اللواء علي مملوك، وبدأت تركيا تتحدث عن بداية حقبة جديدة في العلاقات بين أنقرة ودمشق، التي لا تحتاج الآن إلى وساطة موسكو وطهران. وتعليقاً على النبأ، قال الرئيس السابق لإدارة الاستخبارات في الأركان العامة للقوات المسلحة التركية، الجنرال المتقاعد إسماعيل بكين، إنه سيتم مناقشة القتال ضد الجماعات الكردية المسلحة في شمال شرقي سوريا، وأزمة الهجرة، وكذلك مصير مناطق المتمردين في محافظة إدلب، والوضع في محافظة درعا. ووفقاً لما قاله الجنرال المتقاعد، فإن العملية التي انطلقت بقيادة هاكان فيدان تهدف إلى تفعيل «القنوات الدبلوماسية».
ورغم أن موقف تركيا السلبي الحاد تجاه دمشق لم يتغير، بات من الواضح أن الشائعات تبدو معقولة (لم يكن هناك إعلان رسمي عن الاجتماع المخطط له) على خلفية المحادثات حول قرار واشنطن سحب قواتها العسكرية من العراق، وحتى احتمال انسحاب الأميركيين من سوريا، وكذلك في ضوء تحسين علاقات تركيا مع السعودية ومصر والإمارات. بدورها، بدأت دوائر الخبراء الروس تتحدث عن احتمال معين لتحويل روسيا وتركيا إلى لاعبين خارجيين رئيسيين في بلاد الشام.
- حوار في ليبيا
فيما يتعلق بالأزمة الليبية، يبدو أن أنقرة وروسيا ما زالتا ملتزمتين بالحوار ولا تميلان إلى تعقيد تفاعلهما بشأن القضايا الإقليمية إثر الخلافات القائمة في الرأي حول التسوية الليبية، في انتظار الانتخابات البرلمانية والرئاسية في ديسمبر المقبل. فوفقاً لبعض المسؤولين، يُزعم أن عبد الحميد دبيبة، خلال اجتماعه في يونيو (حزيران) مع إيمانويل ماكرون، أعرب عن رأي ضد انتخابات ديسمبر، ثم أرسل إشارات مماثلة إلى لاعبين آخرين. ويعتقد الخبراء الروس والأتراك أن دبيبة يمكن أن يستفيد هو وغيره من المسؤولين الحكوميين من تأجيل الانتخابات والحفاظ على الوضع الراهن، وهو ما يصب أيضاً في مصلحة خليفة حفتر، الذي لا يمكنه الترشح كونه مواطناً أميركياً، إضافة إلى أن فرصه بالفوز ضئيلة. في الوقت نفسه، تهتم أوساط الخبراء الروس بإمكانية ترشح صدام، نجل حفتر، في الانتخابات الرئاسية، الذي يميل الإسرائيليون، بحسب الشائعات، إلى دعمه. أما سيف الإسلام القذافي، الذي لن تقبل ترشحه الجماعات المسلحة المرتبطة بالإسلاميين في طرابلس ومصراتة، فهو أيضاً بإمكانه أن يكون شخصية واعدة.
وتعير موسكو لاختلاف الرؤى في سياق العلاقات مع تركيا تجاه قضايا فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي، أهمية أكبر مما هو الحال عليه تجاه قضايا الشرق الأوسط. ومن بين هذه القضايا، على وجه الخصوص، عدم اعتراف أنقرة بشبه جزيرة القرم كجزء من الاتحاد الروسي، وكذلك التعاون العسكري التقني بين تركيا وأوكرانيا، فضلاً عن التعاون الروسي التركي في ناغورني قره باغ.
وكما كتب مؤلفو العمل الجماعي «عاصفة في القوقاز»، الذي نُشر مؤخراً تحت إشراف الخبير العسكري الروسي الشهير رسلان بوخوف، لا يمكن اعتبار الوضع الحالي في منطقة الصراع مستقراً. و«إذا لم تظهر فرص للانتقام الأرمني في المستقبل المنظور، فإن أذربيجان ستسعى إلى السيطرة الكاملة والنهائية على كامل أراضي ناغورني قره باغ». وبطبيعة الحال، لا غنى في هذه الحالة عن مساعدة تركيا، وهذا الأمر سيضع روسيا في موقف صعب، رغم أنها تمكنت حتى الآن من المناورة بنجاح كبير: فقد احتفظت بأرمينيا كحليف، وبأذربيجان كشريك. لكن، إلى متى يمكن أن يستمر هذا الوضع؟ وإلى متى ستكون أنقرة مستعدة لرؤية موسكو كحافظ رئيسي للسلام في جنوب القوقاز؟
ويلفت العديد من المحللين الروس الانتباه إلى استعدادات باكو لحرب جديدة، ويربط بعضهم ذلك بتقارب أذربيجان مع تركيا. ويمكن اليوم أن نجد في الصحف الروسية مقالات تدّعي أن الجانبين يخططان لإنشاء جيش مشترك في المستقبل تحت رعاية مجلس الدول التركية. ويجب الأخذ بعين الاعتبار، كما يقول المحلل التركي البارز كريم خاص، أن حرب قره باغ الثانية الأخيرة، اتسمت بالفعل بانخراط كبير من قبل روسيا وتركيا في الصراع.
والسؤال هو: ألا يمكن أن يتحول تطور هذا الاتجاه إلى خطورة كبيرة على الشريكين التركي والروسي؟ حينها قد يكون على حق أولئك المحللون السياسيون الذين يسمون التفاعل بين موسكو وأنقرة في مناطق الصراع «تعاوناً عدائياً»، أو «تنافساً متعاوناً».
- خاص بـ«الشرق الأوسط»



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!