نور الدين الطبوبي... «آخر القياديين» في أقوى النقابات العربية

يلعب دوراً محورياً في الأزمة التونسية الحالية

نور الدين الطبوبي... «آخر القياديين» في أقوى النقابات العربية
TT

نور الدين الطبوبي... «آخر القياديين» في أقوى النقابات العربية

نور الدين الطبوبي... «آخر القياديين» في أقوى النقابات العربية

برز نور الدين الطبوبي، أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل، منذ 2017 بدوره الاجتماعي والسياسي الكبير في تونس وخارجها، باعتباره زعيماً لأقوى نقابات العمال التونسية والعربية، التي فازت بجائزة نوبل للسلام عام 2015، ولعبت ولا تزال تلعب منذ استقلال تونس عن فرنسا عام 1956 دوراً «تعديلياً» بين الفرقاء السياسيين والاجتماعيين، وبين رجال الأعمال والحكومة والعمال في البلاد.
ولقد ساهمت الصراعات بين الرئيس التونسي السابق الباجي قائد السبسي ورئيس حكومته يوسف الشاهد، ثم بين الرئيس قيس سعيّد ورئيسي الحكومة هشام المشيشي والبرلمان راشد الغنوشي، في مضاعفة الدور السياسي للطبوبي والمركزية النقابية، رغم كل الانتقادات الموجهة إليها. وأوشكت وساطات الطبوبي وجهوده المبذولة منذ أشهر في احتواء الأزمة السياسية بين الرؤساء الثلاثة وكبار صناع القرار الوطني، عبر «مبادرة حوار وطني» أطلقها الطبوبي ورفاقه في اتحاد الشغل، ورحّب بها الرئيس سعيّد وخصومه وقادة معظم الأحزاب، لكن وقع التراجع عن دعمها.
نعم، أوشكت التحركات الماراثونية التي قام بها الطبوبي بين رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان أن تفرز «خريطة طريق توافقية» جديدة، على غرار ما حصل في أزمة 2013. لكن تلك «الوساطات» فشلت في آخر المطاف، وتسارعت الأحداث في اتجاه القطيعة والصدام، ما أدى إلى قرارات 25 يوليو (تموز) الرئاسية، وبينها إسقاط الحكومة وتعليق عمل البرلمان وإلحاق كل السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية «مؤقتاً» بقصر رئاسة الجمهورية، بحجة «إنقاذ البلاد من خطر داهم».
نوّه نور الدين الطبوبي وقيادة نقابات العمال التونسية بالقرارات الرئاسية الأخيرة، واعتبرها «تفاعلاً مع غضب الشعب على الحكومات المتعاقبة التي فشلت اقتصادياً واجتماعياً». بيد أن القيادي النقابي البارز طالب الرئيس التونسي قيس سعيّد وفريقه بإعداد «خريطة طريق وطنية جديدة لإخراج البلاد من أزمتها»، تساهم في صياغتها «كل الأطراف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية».
الرئيس سعيّد رحّب أول الأمر بالشراكة مع زعيم النقابات العمالية ورفاقه رؤساء نقابات رجال الأعمال والفلاحين والمحامين والصحافيين. غير أنه تراجع عن ذلك، في وقت أورد مقربون منه وقياديون في النقابات أن «مسار التغيير ومحاسبة الفاسدين والمنظومة السياسية القديم» يجب أن يشمل كل الأطراف، بما في ذلك بعض الهيئات النقابية والسياسية «التي كانت جزءاً من المشهد السياسي خلال الأعوام العشرة الماضية وقبل ثورة 2011».
في الواقع، ضعف تأثير نور الدين الطبوبي وزعماء النقابات والأحزاب بعد 25 يوليو بسبب توقف الرئيس قيس سعيّد عن دعوتهم لجلسات الحوار والتفاوض معه أو مع أحد مستشاريه أو مع الوزراء «المؤقتين». بيد أن مكتب زعيم نقابات العمال ظل «قبلة للزوار». إذ توافد عليه البرلمانيون والسياسيون المعارضون والوزراء السابقون ورؤساء البعثات الدبلوماسية الأجنبية، بضمنهم سفراء فرنسا والاتحاد الأوروبي وبريطانيا.
ورغم الانتقادات التي وجّهتها عدة أطراف لظاهرة «تدويل الأزمة التونسية» واجتماعات بعض الزعماء السياسيين والنقابيين مع سفراء ومبعوثي دول أجنبية، أورد بيان توضيحي عن مكتب زعيم النقابات التونسية أن «الفرق بين بعض السياسيين وقيادة اتحاد الشغل أن السفراء والضيوف الأجانب يزورون مقر الاتحاد، وليست القيادة النقابية هي التي تنقلت إلى مقراتهم».
وللعلم، انتقد الرئيس التونسي خلال اجتماعه بوفد من الكونغرس الأميركي أخيراً مقابلات بعض الزعماء النقابيين والسياسيين مع شخصيات أجنبية، من دون تسميتهم، واتهمهم بـ«تشويه صورة وطنهم وصورة رئيسهم». لكن مكتب الطبوبي بقي يستقطب الزوار من كل التيارات السياسية والنقابية التي تلتقي معه ومع مساعديه في مطالبة رئيس الجمهورية بالتعجيل في تشكيل حكومة جديدة تتفاوض مع النقابات والقوى الوطنية حول «خريطة طريق» المرحلة المقبلة.
في المقابل، ردّ سعيّد على الطبوبي والقيادات النقابية والسياسية، متهكماً: «مَن يبحث عن الخرائط فليبحث عنها في كتب الجغرافيا»، وتابع القول إن أولويته المطلقة مواصلة «الحرب على الفساد» والضغط على الأسعار وتحسين ظروف عيش الشعب. ومن ثم، اتهم النخب السياسية و«مسؤولين في كل المواقع» بالانقلاب على ثورته ووصفهم بـ«الخطر الداهم» و«الخطر الجاثم» فوق صدور الشعب. وهنا، ردّ بعض مساعدي الطبوبي، بينهم الزعيم اليساري سامي الطاهري، على تصريحات رئيس الجمهورية، فأعلن الطاهري أن المركزية النقابية تطالب رئيس الدولة بـ«خريطة طريق سياسية، وليس خريطة بمفهوم كتب الجغرافيا».

حق المعارضة
ومن جانبه، عاد الطبوبي عند إشرافه على مؤتمر نقابة عمال قطاع التربية والتعليم خلال الأسبوعين الأخيرين إلى مطالبة رئاسة الجمهورية بـ«الكشف عن برنامج عملها الإصلاحي». واعتبر الأمين العام أن من حقه ومن حق كل الأطراف النقابية والسياسية أن تسانده أو أن تعارضه أو تقترح تعديلات. كذلك شدد الطبوبي على علوية صناديق الاقتراع وواجب احترام الرأي والرأي المخالف وحق المعارضة في التعبير عن رأيها والمطالبة بحرية التعبير والتنقل والتظاهر، بما يكشف إصراراً منه على لعب دور وطني أكبر في المرحلة المقبلة أيضاً.
ومن ناحية ثانية، ذهب محمد المسلمي، أحد نواب الطبوبي في المركزية النقابية، بعيداً، إذ أعلن في مؤتمر نقابة قطاع الكهرباء والغاز، فقال: «(الرئيس) قيس سعيّد يعتبر القيادة النقابية والمنظمات العمالية جزءاً من المنظومة القديمة» التي يجب تغييرها، وهو لا يكتفي بنقد الأحزاب والبرلمان والحكومات السابقة.

حوار وخلافات قديمة
في أي حال، إذ نجح الزعيم النقابي نور الدين الطبوبي في تصدر المشهد السياسي والاجتماعي على غرار أغلب زعماء اتحاد الشغل منذ محمد الفاضل بن عاشور وفرحات حشاد قبل 1952، ثم أحمد بن صالح وأحمد التليلي والحبيب عاشور في عهد الحبيب بورقيبة، فإن مؤشرات كثيرة توحي بأن قصر قرطاج يسعى للحد من التأثير المباشر لزعيم «أقوى النقابات التونسية والعربية منذ 75 سنة» في قرارات الدولة.
هنا، نشير إلى أن الرئيس سعيّد كان قد حافظ منذ دخوله قصر قرطاج في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 على تقليد ورثه عن الرئيس الباجي قائد السبسي، يتمثل في عقد جلسات حوار وتفاوض دورية مع أمين عام نقابات العمال. ثم إنه استقبل في بداية دورته كل أعضاء المركزية النقابية، وفتح بالمناسبة حواراً مفتوحاً مع رموزها «اليسارية والقومية» التي كان بعضها انتقد مواقف سعيد السابقة المعارضة للمساواة في الإرث بين الجنسين ولحقوق المثليين وللاجتهاد فيما فيه نص قرآني واضح.
أيضاً، نجح سعيّد، على غرار سلفه قائد السبسي، في توظيف علاقته بزعيم النقابات لإضعاف بعض خصومه، وخاصة رئيسي البرلمان والحكومة راشد الغنوشي وهشام المشيشي. ثم سعى إلى توظيفها لإضعاف «حزامهما السياسي»، وخاصة حزب «حركة النهضة» والكتل البرلمانية المتحالفة معه، بينها حزب «تحيا تونس» بزعامة رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد وحزب «ائتلاف الكرامة» بزعامة المحامي سيف الدين مخلوف وحزب «قلب تونس» بزعامة رجل الأعمال والإعلام نبيل القروي. لكن يبدو أن المقرّبين من الرئيس سعيّد لم يغفروا للطبوبي وبعض القريبين منه، وبينهم نائبه الأول كمال سعد، الأمين العام المساعد المكلف بالهياكل، والناطق الرسمي سامي الطاهري، انتقاداتهم للرئيس قبل أسابيع لـ«تعطيله» مشروع الحوار الوطني الذي اقترحته المركزية النقابية منذ أواخر العام الماضي. كذلك، لم يغفروا لهم تلويحهم بـ«تنظيم حوار وطني مستقل» عن رئاسة الجمهورية أو «موازٍ» له.
وبلغت أزمة الثقة أقصاها عندما أعلن مساعدا الطبوبي «سحب مشروع الحوار الوطني من رئاسة الجمهورية»، ثم عندما دعا الطبوبي نفسه في يونيو (حزيران) الرئيس التونسي ورئيسي الحكومة والبرلمان إلى الاستقالة و«إرجاع الأمانة إلى الناخبين» بحجة عجزهم عن معالجة مشكلات البلاد الاقتصادية والاجتماعية والصحية المتراكمة. وبينما يعتقد بعض الخبراء والمتابعين أن أزمة الثقة تعمقت بين الرئيس سعيّد وزعيم نقابات العمال منذ أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي ومصادقة البرلمان على حكومة هشام المشيشي الثانية، رفض الطبوبي الانخراط في مسار دعوة سعيّد لإسقاطها... وطالب بعقد عدة جلسات عمل في قصر قرطاج وفي قصري الحكومة والبرلمان لدعمها، مقابل تعويض 4 وزراء اتهمهم الرئيس والمقربون منه بـ«شبهات فساد».

سيرة شخصية
ولد نور الدين الطبوبي يوم 8 فبراير (شباط) 1961، في محافظة باجة بريف الشمال الغربي التونسي (100 كيلومتر غرب العاصمة تونس). وهو متزوج وله 4 أولاد.
بعدما تجاوز الـ30 من عمره، خاض الطبوبي عدة تجارب في نقابة العمال، وترأس لأول مرة نقابة أساسية محلية في شركة اللحوم الحكومية بضاحية الوردية، جنوب غربي العاصمة. وعلى الرغم من استقلاليته الحزبية، فإنه ساند خلال عقد التسعينات مَن تبقى من القيادات النقابية الوفية للزعيم النقابي الحبيب عاشور. وكان عاشور قد سُجن مراراً إبان حكم الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، بعدما اتهمه بالمشاركة في «معركة خلافته» مع عدد من كبار الوزراء ومع زوجته وسيلة بن عمار والزعيم الليبي معمر القذافي ومعارضين للحكم.
هذا الانحياز لـ«النقابيين العاشوريين» و«اليسار الوسطي المعتدل»، بزعامة علي رمضان، الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل والمسؤول السابق عن قطاع الفلاحة والصيد البحري، ساعد الطبوبي على تحمل مسؤوليات في النقابة العامة لقطاع الفلاحة.
ومع أن الطبوبي بقي لبعض الوقت في الصف الثاني للمسؤوليات النقابية، فإنه تلقى الدعم من عدد من القياديين المحسوبين على الحبيب عاشور الذين دعموه، لعل أبرزهم عبد النور المداحي الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل، وعبد الجليل البدوي، وكمال سعد، وعلي رمضان (الزعيم النقابي العاشوري منذ إضرابات 1978). وكذلك الطيب الورايري الكاتب العام لنقابة الكهرباء والغاز.
بعدها شغل نور الدين الطبوبي مسؤوليات كثيرة، بينها عضوية المكتب التنفيذي لاتحاد الشغل في جهة العاصمة، التي كانت تضم بمفردها نحو 100 ألف عضو، وكانت فعلياً تتحكم في سير العمل والإضرابات والمفاوضات مع كبريات الشركات الاقتصادية ومع الحكومة. ولقد أسهم وصول الطبوبي إلى هذا الموقع، الذي يتميز بثقله الانتخابي والسياسي الكبير، بتقريبه أكثر من زعماء النقابة «العاشوريين» عبد السلام جراد وعلي رمضان وعبد النور المداحي ورشيد النجار وحلفائهم من «اليسار المعتدل» مثل محمد الطرابلسي وحسين العباسي.
ومن ثم، عمل الطبوبي أميناً عاماً مساعداً للمكتب الجهوي بتونس. وعندما قرر الأمين العام لاتحاد الشغل عبد السلام جراد عام 2009 «تجميد» النقابي الكبير توفيق التواتي من منصب الكتابة العامة، فإنه أسند هذا المنصب إلى الطبوبي. وبعد سنتين، انتخب الطبوبي عضواً في المكتب التنفيذي الوطني للاتحاد، مستفيداً من قرار انسحاب أغلب أعضاء القيادة المتخلية بحجة أنهم أمضوا 10 سنوات فيها. وكان بين المنسحبين القيادي النقابي المخضرم علي رمضان، فخلفه في مسؤولية «النظام الداخلي» وهي أهم موقع بعد موقع الأمين العام.
وجاء مؤتمر عام 2017، الذي كان فيه على غالبية القياديين الانسحاب، بينهم الأمين العام حسين العباسي (وهو شيوعي سابق أمضى 10 سنوات في القيادة). وخلال المؤتمر، انتخب الطبوبي أميناً عاماً جديداً إثر فوز قائمة «الوحدة النقابية» التي ترأسها بجميع مقاعد المكتب الجديد.

التوازن الصعب
لقد نجح نور الدين الطبوبي منذ توليه القيادة النقابية في تحقيق قدر لافت من التوازن في علاقاته بمختلف التوجهات الفكرية والسياسية العاملة داخل الاتحاد العام التونسي للشغل، ما جعل منه أحد آخر «الزعماء الكاريزميين» في أقوى نقابة عمال تونسية وعربية، إلا أن مصيره ومصير غيره من «القادة النقابيين والسياسيين» في تونس يظل رهين تطورات المشهد السياسي والأوضاع الأمنية والاجتماعية الاقتصادية... ولا سيما بعد «زلزال 25 يوليو» الماضي الذي أطاح بالحكومة والبرلمان، ويوشك أن يطيح بمزيد من الرؤوس والمؤسسات.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.