عيسى جرابا: المؤسسات الثقافية عاجزة عن استيعاب الإبداع

الامير خالد الفيصل وإلى جانبه الشاعر عيسى الجرابا بعد أن ألبسه بردة «شاعر عكاظ» مساء الثلاثاء الماضي في حفل إطلاق مهرجان سوق عكاظ الذي يقام حاليا في الطائف
الامير خالد الفيصل وإلى جانبه الشاعر عيسى الجرابا بعد أن ألبسه بردة «شاعر عكاظ» مساء الثلاثاء الماضي في حفل إطلاق مهرجان سوق عكاظ الذي يقام حاليا في الطائف
TT
20

عيسى جرابا: المؤسسات الثقافية عاجزة عن استيعاب الإبداع

الامير خالد الفيصل وإلى جانبه الشاعر عيسى الجرابا بعد أن ألبسه بردة «شاعر عكاظ» مساء الثلاثاء الماضي في حفل إطلاق مهرجان سوق عكاظ الذي يقام حاليا في الطائف
الامير خالد الفيصل وإلى جانبه الشاعر عيسى الجرابا بعد أن ألبسه بردة «شاعر عكاظ» مساء الثلاثاء الماضي في حفل إطلاق مهرجان سوق عكاظ الذي يقام حاليا في الطائف

ذهبت جائزة «شاعر عكاظ»، في موسم عكاظ السابع، لشاب سعودي هو عيسى جرابا، الذي قلده الأمير خالد الفيصل مساء الثلاثاء بردة عكاظ. والجرابا متحدر من مدينة جازان، وكان زميله إياد الحكمي فاز العام الماضي بجائزة شباب عكاظ.
للجرابا ثلاثة دواوين شعرية مطبوعة حملت عناوين: (لا تقولي وداعا)، و(وطني والفجر الباسم)، و(يورق الخريف). وله ثلاث مخطوطات لم تر النور بعد.
التقينا عيسى الجرابا عشية تسلمه جائزة عكاظ وأجرينا معه الحوار التالي، الذي تحدث فيه عن دلالة فوزه بالجائزة، ودور المؤسسات الثقافية القائمة في دعم المبدعين، وهو دور يراه دون المطلوب:
* نلت عددا من الجوائز ولكن أين تجد موقع جائزة «سوق عكاظ» منها؟
- أول جائزة حصلت عليها وأنا طالب في جامعة «الإمام» وكانت الجائزة من قبل الرئاسة العامة لرعاية الشباب. قدمت قصيدة وقتها وفزت بالمركز الأول على مستوى السعودية، فكان هذا من العوامل الجميلة والمؤثرة في حياتي ولا أنساها. وبعدها توالت الجوائز من هنا ومن هناك، ومنها جائزة النادي الأدبي بالرياض العام الماضي التي كانت باسم «شاعر الوطن» في مناسبة اليوم الوطني. ولكن المحطة الأكبر والأكمل والأجمل هي محطة سوق عكاظ ولقب «شاعر عكاظ» بما يحمله من إرث تاريخي وأدبي مديد ولا شك أنها مطمح كل شاعر.
* قصيدة «زفرات سجين» قصيدة تمتلئ بالأسى، وكأنها بكاء على الحالة الإنسانية في المنطقة العربية، أو على حرية مفقودة.
- هناك سجن خارجي وآخر داخلي، ولكن في نظري أن أصعب السجون على النفس هي السجون الداخلية وأشدها وطأة على الإطلاق. السجون نحملها أحيانا في ذواتنا ونحن نمشي طلقاء أحرار.. نحن نحمل شجوننا وسجوننا ونحن نمشي في الأسواق ونأكل ونشرب، ونجول في هذه الأرض وفي العالم المترامي ونحن طلقاء وأحرار دون أن نكون خلف القضبان. ولذلك فإن هذه القصيدة ترمز إلى الغربة التي نعيشها باختصار، غربة المثقف أو المبدع داخل نفسه وخارجها سواء في موطنه أو بيئته أو عالمه العربي نظرا لعدم الاهتمام بالمبدعين في كل مجالات الحياة، فهناك كثير منهم كسرت مجاديفهم لأنهم لم يجدوا من يهتم بهم.
* جاء ديوانك الثاني بعنوان «لا تقولي وداعا».. لمن تقول وداعا؟
- أنا أقول لا تقولي وداعا لكل شيء جميل في حياتنا وليس يشترط فيها أن تكون فقط الأنثى وحدها هي الجميلة في حياتنا ولا يشترط في العنوان أن يكون غزليا حتى لو كانت القصيدة التي تحمل العنوان قصيدة غزلية. «لا تقولي وداعا» لا يشترط فيها أن تكون خطابا غزليا، فنحن نصرخ دائما بأعلى أصواتنا ونقول لا تقولي وداعا لكل لأشياء الجميلة.
* «وطني والفجر الباسم».. ديوان شعر ثالث تغني فيه عظمة الوطن والدفء والأهل والفجر الباسم، على عكس بكائياتك في قصائد أخرى..
- إن وطني مهبط الوحي، ولو اختزلنا كل الأضواء والأنوار لهذا الوطن في مهبط الوحي فقط لكفى، فمكة المكرمة والمدينة المنورة وما تحملهما من قدسية تجعل لهذا الوطن خصوصية ليس لدى السعوديين فقط بل لدى العالم أجمع كنقطة ارتكاز، كحقيقة تفرض نفسها.
* و«يورق الخريف».. ما حيثيات هذا الديوان؟
- ليست هناك من حيثيات تذكر وإنما لربما جاءت نصوص المجموعة في أغلبها في وقت متأخر يشعر فيه الإنسان أن خريف العمر وخريف الإحساس بدأ يمر سريعا وقد يذبل، وخريف الأشياء كذلك. كل هذا يجعل الإنسان يفكر مليا في تلك الحزمة من السنين التي خلفها وراءه، وماذا له وماذا عليه.. ولذلك نقول يورق الخريف ولكن هل هو يورق فعلا؟
* مخطوطتك «صهيل البقايا».. لم تر النور بعد ما السبب؟
- ليست مخطوطة «صهيل البقايا» فقط وإنما لدي ثلاث مخطوطات أو تزيد غير الدواوين الثلاثة المطبوعة، ولكن ليس هناك اهتمام بالإصدار الورقي في أمة لا تقرأ، حيث يتسابق الآن الكثيرون من الشعراء على الإصدارات المسموعة والمرئية والنشر عبر الشبكة العنكبوتية من خلال مواقع ومنتديات، والتي تحظى بنسبة عالية من القراء أكثر من الإصدارات الورقية، ومع مرور الزمن تكون المسألة أكثر تعقيدا وتحتاج لشيء من المعالجة التي تمكن الإصدار الورقي من أن يحتفظ بموقعه مع إيقاع الحياة السريع والتقدم التقني والتكنولوجي في مجال الاتصال والتواصل، خصوصا وأنها أصبحت مكلفة، ولذلك تلحظ أن الشعر العامي عندما نفذ لقلوب كثير من الناس لأنه من سمع من خلال الإصدارات المرئية والمسموعة فضلا عن قنوات أخرى أكثر شعبية.
* قرية «الخضراء» بجازان، حيث مولدك، تكتنز بكثير من عناصر البيئة والتراث.. إلى أي حد انعكس ذلك في قصيدتك؟
- كان في القرية كثير من عوامل الطبيعة الخلابة. وأكاد أقول ليس لها نصيب الآن بعد الاحتطاب الجائر. لقد تخلى البعض عن إنسانيته وأصبح عدوا لبيئته. كانت منطقة جازان تنعم بكل أجوائها وطبيعتها وريفيتها. لكن حينما بدأت «المدنية» تدخلها شيئا فشيئا سلبت منها ومنا الكثير ولم تبق سوى الذكريات التي نعيشها.
* ترجمت لك بعض الأعمال إلى لغات أخرى.. هل تحسست من خلالها طريقك للعالمية؟
- الترجمة ضرورية فكما وصل أدب غيرنا إلينا من خلال الترجمة، لا بد من إيصال أدبنا للآخر من خلال الترجمة أيضا، ولذلك يحصل التأثير والتأثر عبر هذه الترجمة ونقل العلوم الإنسانية ولغاتها.
* ما رأيك في السجال الدائر الآن في الساحة الثقافية حول ريادة الرواية أو الشعر؟
- هذا النوع من هذا الجدال بين الأدباء والمثقفين يظل جدالا عقيما، لا طائل منه. ما الذي يعنيه إذا تقدمت الرواية على الشعر أو العكس؟ إذا وضعنا في الحسبان أن كليهما جنس أدبي له شعبيته وكلاهما يؤدي رسالته. إذا عدنا إلى العصور القديمة.. ألم يكن الشعر يتقدم على النثر؟ والسبب واضح، لأن الشعر كان وقتها مطلوبا، ثم أتت فترة أخرى تقدم النثر فيها حينما أصبح مطلوبا. من هنا، لا يتقدم جنس على آخر من الأجناس الأدبية إلا بمقدار ما يضخ فيه من إبداع وبمقدار الحاجة إليه في الوقت المعين، فيتقدم أحدهما على الآخر وهكذا دواليك، وطبعا نحن نضع الرواية في عمق النثر لأن الشعر والنثر جنسان رئيسيان في الأدب ولا يتقدم أحدهما على الآخر إلا بقدر ما يتفوق أحدهما إبداعيا.
* وكيف تجد المشهد الثقافي بشكل عام؟
- المشهد الثقافي في ظل سهولة التواصل الاجتماعي الآن أصبح يبشر بخير، فهناك أصوات شعرية وروائية كثيرة، فضلا عن حقول كتابية أخرى. ومن شأن ذلك أن يحفز بيئة التنافس بين الأدباء والمثقفين. لكني ألاحظ، في الوقت نفسه، أن بعض شعراء السعودية ينطوون على أنفسهم، إذ لا توجد سبل تواصل جيدة، وربما كذلك في كل الدول الأخرى، مع أنه يوجد تواصل على كل المستويات المحلية والإقليمية والدولية على مستوى الأفراد والجماعات والكيانات.
* هل أنت راض عن حركة النقد بالنسبة للشعر الآن؟
- لحد ما. لكن المشكلة تكمن في كثرة الشعراء وشح النقاد أو عددهم قليل جدا بموازاة الشعراء. العملية الشعرية تحتاج معها إلى عملية نقدية، وتصحيحية لتصحيح مسار الشعر، فحينا يتدفق الشعر في عدم وجود ناقد تكون العملية قاصرة إبداعيا وتحتاج إلى مكمل. والشعراء من الشباب في حاجة ماسة لمن يأخذ بأيديهم ويهديهم سواء السبيل نحو تصحيح ومراجعة كتاباتهم بشكل تكتمل فيه العملية الإبداعية مع رصيفتها الفنية. ولكن للأسف لا يوجد نقاد حاذقون وهذا ما يفرز ما يسمى بالشللية القاتلة، لأنه هناك نقادا محصورين في منطقة ويكتبون عن شخصيات شعرية محددة.
* هل تعتقد أن المؤسسات الثقافية لا سيما الأندية الأدبية لا تزال هي الوعاء المناسب لاستيعاب الإبداع والمبدعين؟
- أقولها بملء فمي: لا، إذ إنه باستطاعة كل أديب روائي أو شاعر أن ينشر ما ينتج في أي وقت وعبر أكثر من قناة تواصل ويصنع معجبين من دون الحاجة إلى الالتزام بالحضور في المؤسسات الثقافية، وللأسف فإن الأخيرة دخلت في أحاديث وأقاويل وجدل بيزنطي وأخرتها المهاترات والمشكلات عن رسالتها المنوطة بها، ولكن سهولة الاتصال ووفرة قنواته أغنى الكثيرين من المبدعين عن الانتظار لما تقدمه لهم مثل هذه المؤسسات، وذلك بأن يجعلوا له مواقع أو نوافذ يطلون من خلالها على المتلقين وهم بالآلاف فيسمعونها وينشرونها ويتبادلونها عبر الـ«يوتيوب» أو الـ«فيس بوك» وغيره من قنوات التواصل الاجتماعي الأخرى.



العصر العباسي الأول... المفارقة بين نزق السطوح وتراجيديا الأعماق

 تمثال أبو نواس في بغداد
تمثال أبو نواس في بغداد
TT
20

العصر العباسي الأول... المفارقة بين نزق السطوح وتراجيديا الأعماق

 تمثال أبو نواس في بغداد
تمثال أبو نواس في بغداد

لم يكن التغزل الصريح بالمرأة والاحتفاء بالملذات ظاهرةً عباسيةَ النشأة والتبلور، بل كانت نسخته الأولى قد تشكلت في الحقبة الأموية، متخذة ملامح عربية لا لبس في نقائها، إلا أن ما نلاحظه من فوارق في الجرأة والأسلوب بين النسختين، كان يتصل بتبدل الظروف وبتطورالبيئة السياسية والاجتماعية الحاضنة لكل منهما. ففي حين نهض بالتجربة الأولى شعراء ونخب مثقفة ينتمون بمعظمهم إلى أشراف قريش، وتمنعهم عراقة محتدهم وأمكنة عيشهم من البذاءة والإسفاف، ظهرت التجربة الثانية في ساحات نائية عن مركز الدعوة، وقادتها في ظروف أكثر ملاءمة جمهرة واسعة من الشعراء والكتاب والمغنين، المحتفين بالحياة الجديدة، أو الهاربين من أزماتهم باتجاه اللهو والمتعة الخالصة. وهكذا احتشد في الآونة ذاتها شعراء عبثيون من أمثال أبو نواس وبشار بن برد ووالبة بن الحباب والحسين بن الضحاك الخليع ومطيع بن إياس ومسلم بن الوليد وعلي بن الجهم وحماد عجرد، فيما احتشد في الموسيقى والغناء كل من زرياب وإسحق وإبراهيم الموصلي وعريب وإبراهيم بن المهدي وابن جامع وكثيرين غيرهم.

ولعل أكثر ما يلفتنا في هذا السياق هو السلوكيات «الفصامية» لبعض الخلفاء الذين كانوا يمارسون الشيء ونقيضه في آن. فهم بانخراطهم في مناخ المتعة واللهو، محولين قصورهم إلى حانات يؤمها شعراء ومغنون وندماء، بدوا وكأنهم يريدون الإيحاء برسوخ الحكم واستقراره. إلا أن ظاهر الأمور لم يكن متطابقاً مع باطنها، بل كان تظاهرهم بالطمأنينة يخفي وراءه قلقاً عميقاً على المصير، سواء بفعل الثورات المتلاحقة لأبناء العمومة العلويين والأشراف، أو بفعل التغلغل المتفاقم للفرس، ومن بعدهم الأتراك، في مفاصل الدولة وهياكلها المختلفة.

كما أن تداخل الدنيوي بالديني، الذي يُوجب عليهم حماية الإسلام وشعائره، جعلهم يحرصون على عدم إغضاب المتشددين من الفقهاء والعامة، والاحتفاظ بمظهر الورع والتقى، وصولاً إلى معاقبة المفرطين في الفسق والمجون، الأمر الذي أبقى المشتغلين بالأدب والفن في خانة التوتر، مع ملاحظة أن تهمة الزندقة والمروق تحولت إلى سيف مسلط على رقاب المعارضين السياسيين، وصولاً إلى قتل البعض منهم على نحو مأساوي.

ومع أن بعض هؤلاء لم يكن بريئاً من تهم الشعوبية والزندقة والعداء للعرب، فإن ثمة دوافع وأسباباً أخرى، حملت هؤلاء على ملازمة الحانات والارتماء في أحضان الجواري واستمراء السلوكيات الشاذة، من بينها النشأة المتواضعة والفقر والتهميش الاجتماعي.

وقد بدا واضحاً أن يُتْمَ أبو نواس المبكر، وافتقاره إلى الإشباع العاطفي، وما عاينه طفلاً من انحراف أخلاقي في عائلته، هو ما شكل الدافع الأهم لفجوره وتهالكه على اللذة، كنوع من الانتقام الثلاثي الرمزي، من أمه ومن نفسه ومن مجتمعه على حد سواء. وهكذا راح يضرب عرض الحائط بالأعراف والتقاليد.

وقد يكون بشار بن برد، بموهبته المتفردة وسلوكه الملتبس، أحد أكثر الشعراء تجسيداً للمفارقة القائمة بين نزق السطوح وتراجيديا الأعماق. فمن الصعوبة بمكان أن نرى مروق هذا الشاعر المولود لأب فارسي وأم رومية، من المنظور الشعوبي وحده، بل علينا أن نضيف إلى ذلك فقر أسرته ونشأته على الرق، فضلاً عن عماه بالولادة ودمامته المفرطة. وقد ولّد كل ذلك في داخله شعوراً بالنقمة على كل ما يحيط به، وصولاً إلى اعتبار عماه نعمة إلهية، بقوله:

قالوا العمى منظرٌ قبيحٌ قلتُ بفقدي لكمُ يهونُ

تالله ما في البلاد شيء تأسى على فقْده العيونُ

ولم يكن الحسين بن الضحاك الخليع ليختلف كثيراً عن مجايليه، سوى أنه كان يفوقهم في الفكاهة والظرف إلى حد أنه بات نديماً لغير واحد من خلفاء بني العباس، ابتداءً بالأمين وانتهاء بالواثق.

وكان من بين هؤلاء حماد عجرد، الذي اشتهر بمكره وسعة حيلته، رغم إغراقه في الفسق والتهتك. وقد رُمي حماد بالزندقة كأترابه الآخرين، وكاد أن يواجه المصير المأساوي نفسه الذي واجهه بشار، لو لم يشفع به لدى المهدي صديقه الأثير محمد بن أبي العباس السفاح. وإذ عرف عنه ميله الدائم إلى الخصومة والعراك، لم يتردد في خوض السجالات الحادة مع منتقديه، حتى لو كانوا من الأئمة والمتنسكين، وهو الذي خاطب الإمام أبا حنيفة الذي لامه على سلوكه طريق الفسق، بالقول:

إن كان نُسكك لا يتمُّ بغير شتمي وانتقاصي

فلطالما زكّيتني وأنا المقيم على المعاصي

على أن كل ما تقدم لا يمنعنا من ملاحظة الوجه الآخر لهؤلاء الشعراء والكتاب، الذين اندفعوا إلى الفسق والمجون كشكل من أشكال الاحتجاج على الواقع، بشقيه الشخصي والاجتماعي. فهم في تهالكهم على الفوز بغنائم الجسد و«أتاواته» وملذاته، ظلوا في أعماقهم ظامئين إلى العاطفة الصادقة والحب الحقيقي. وإذ انتهى بعضهم مقتولاً على يد السلطة الحاكمة بتهمة الزندقة، كما حدث لبشار وابن المقفع، فإن بعضهم الآخر قد عمد إلى قتل حبيبته بدافع الغيرة، كما حدث لديك الجن الحمصي فوق مسرح مغاير. ومع ذلك فقد بدوا كما لو أنهم آثروا خسارة الحب لكي يربحوه مسترداً في الشعر والحنين، وهو ما يؤكده أبو نواس بقوله:

وأُقسمُ لولا أن تنال مَعاشرٌ جنانَ بما لا أشتهي لجنانِ

فواحزنا حزناً يؤدي إلى الردى فأُصبح مأثوراً بكل لسانِ

تراني انقضتْ أيامُ وصليَ منكمُ وآذَنَ فيكم بالوداع زماني

كما يتجلى الوجه الآخر للعلاقة بالمرأة في شعر بشار بن برد، وفي قصائده ومقطوعاته التي نظمها في غرام «عبدة» على نحو خاص، حيث التعلق بالمعشوق يتكفل به القلب والأذن لا العين، وواسطته البصيرة لا البصر. وإذ يقارن بشار في حالات غيرته القصوى بين الفراق الذي يحمل حبيبته إلى أحضان سواه، والموت الذي يضعها في عهدة التراب، يختار الثاني على الأول، ويهتف بحرقة:

من حبها أتمنى لو يصادفني من نحو قريتها ناعٍ فينعاها

كيما أقول فراقٌ لا لقاء له وتضمر النفس يأساً ثم تسلاها

كما بدا مطيع بن إياس كأنه يحمل في مورثاته الجينية طبائع السلالة وميلها الجارف إلى الاستمتاع بمباهج الحياة وملذاتها الحسية. فقد روى الأصفهاني بأن خارجة، جدة مطيع، كانت تحمل من النهم الجسدي ما جعلها تنتقل من زوج إلى آخر، وتستجيب لكل من يخطبها من الرجال. وقد سار مطيع على خطى جدته، بحيث انصرف بكليته إلى المتعة. ومع ذلك فإن مطيع بن إياس الذي عُرف عنه استهتاره وتهتكه وأشعاره الماجنة، هو نفسه الذي حمله العشق على إظهار ما بداخله من عذوبة وشجن. فإذ اضطر إلى فراق جارة له كان قد أحبها في الري، وجلس يستريح إلى نخلتين في محلة حلوان، راح يخاطب النخلتين بالقول:

أَسعِداني يا نخلتيْ حلْوانِ وارثيا لي من ريب هذا الزمانِ

ولعمري لو ذقتما ألم الفرقةِ أبكاكما الذي أبكاني

أسعِداني وأيقِنا أن نحساً سوف يلقاكما فتفترقانِ