ورد وديك الجن الحمصي... الحب مذبوحاً بسيف الغيرة

هل بلغت قصة زواجهما المأساوي مسامع شكسبير عن طريق تجار البندقية؟

مسرحية «عطيل»... وجوه تشابه مشتركة بينها وبين التراجيديا العربية التي جسدها ديك الجن
مسرحية «عطيل»... وجوه تشابه مشتركة بينها وبين التراجيديا العربية التي جسدها ديك الجن
TT

ورد وديك الجن الحمصي... الحب مذبوحاً بسيف الغيرة

مسرحية «عطيل»... وجوه تشابه مشتركة بينها وبين التراجيديا العربية التي جسدها ديك الجن
مسرحية «عطيل»... وجوه تشابه مشتركة بينها وبين التراجيديا العربية التي جسدها ديك الجن

لم يحتفِ البشر عبر تاريخهم الطويل بعاطفة من العواطف الكثيرة المتباينة التي تعتمل في دواخلهم كما احتفوا بالحب، خاصة في شطره «المشبوب» المتعلق بالرجل والمرأة، وما يصيبهما بفعل سطوته العنيفة من تغيرات. والأدل على ذلك هو دخول هذه العاطفة في النسيج العميق للشعر والأدب، والفن بوجه عام، حيث ترك لنا الرجال العشاق والنساء العاشقات نماذج وتعبيرات إبداعية غير قابلة للحصر.
على أن تلك النماذج لم تكن وليدة الحب المألوف أو العلاقات العاطفية العادية التي تؤول إلى نسيان محقق، بعد أن يوصلها الزواج إلى نهاياتها التقليدية السعيدة، بل كانت تجد ضالتها في التحديات الصعبة والعوائق الاجتماعية المختلفة التي توصل العلاقة إلى طرق مسدودة، يتقاسم نهايتها الشعر والجنون والموت. وهو ما بدت تمثلاته واضحة في كثير من الحضارات الشرقية والغربية، كما جسدته على نحو خاص تجربة الشعراء العذريين عند العرب.
لم يكن الزواج بالمقابل ليثير، عدا استثناءات نادرة، «لواعج» الشعراء والفنانين لأنه بإلغائه التام للمسافة الفاصلة بين الشخصين المتحابين يحرم الشعر من أبرز شروطه المتعلقة بالشغف ولهب التخيل وترجيعات الفقدان. وإذا كان الفن في بعض وجوهه هو البديل الرمزي عن الحياة غير المتحققة، فإن زواج المتحابين لا يترك للفن ما يفعله، إذ يقوم الواقعي في هذه الحالة مقام المتخيل المحلوم بتحقيقه.
والأدل على ذلك هو أن معظم القصائد التي كتبها الشعراء حول المرأة كان يتم إنجازها في فترات التتيم والوجد العاطفي التي تسبق الزواج، حتى إذا وصلت العلاقة إلى مآلاتها السعيدة خمدت نيران الشغف، وتراجع الوحي الشعري إلى خانة الصفر. والأمر نفسه يحدث في كثير من حالات السرد، حيث لا تجد الحكايات وقصص الحب والسير الشعبية ما تضيفه إلى زواج الطرفين المتحابين، سوى الإشارة إلى كونهما قد «عاشا في ثبات ونبات، إلى أن أتاهما هادم اللذات ومفرق الجماعات» الذي هو الموت.
وانطلاقاً من كل ما تقدم، كان يمكن لقصة الحب التي جمعت بين ديك الجن الحمصي وحبيبته ورد أن تؤول بعد تتويجها بالزواج إلى نسيان محقق، لو لم تسهم الظروف المعقدة التي أحاطت بتلك العلاقة الشائكة في توفير النصاب الضروري لتحويلها إلى مأساة مروعة ظلت تردداتها الحزينة تُتناقل بشكل دائم من جيل إلى جيل. وقد ورد في غير مصدر قديم أن الشاعر العباسي عبد السلام بن رغبان الذي لقب بديك الجن، بسبب قصيدة نظمها، أو لخضرة زائدة في عينيه، أحب جارية له نصرانية تسمى ورداً، ثم دعاها إلى الإسلام فأسلمت.
وقد ملك جمال المرأة على الشاعر قلبه وعقله، فنظم فيها قصائد ومقطوعات عدة، من بينها:
انظرْ إلى شمس القصور وبدرها
وإلى خزاماها وبهجة زهرها
لم تبكِ عينكَ أبيض في أسود
جمَع الجمال كوجهها في شعرها
وتمايلتْ فضحكتُ من أردافها
عجباً ولكني بكيت لخصرها
أما سبب قتله لورد، فيُرجعه أبو الفرج الأصفهاني في كتاب «الأغاني» إلى مكيدة دبّرها بليْل ابن عمّ له يدعى أبا الطيب، كان الشاعر قد هجاه بسبب تحامله عليه وعلى زوجته. وإذ كان ديك الجن مسافراً في تجارة له، كان ابن عمه ذاك قد حبك له دسيسة ماكرة، مفادها أن ورداً تخونه مع غلام له، الأمر الذي جعله يعود مسرعاً إلى حمص.
ولم يكد الزوج المستشيط غضباً يتنفس الصعداء، حين وجد امرأته وحيدة في المنزل، حتى فوجئ بمن يقرع الباب، تنفيذاً للفصول الأشد خطورة من المكيدة، ثم تبادر المرأة الغافلة عما يجري بالسؤال عما إذا ما كان زوجها قد عاد من السفر أم لا. فلم يكن من ديك الجن، وقد انطلت عليه الحيلة، ووجد في الحادثة المدبرة الدليل الملموس على خيانة زوجته، سوى أن يمتشق سيفه، ويحتز به عنق المرأة التي أحبها حتى انقطاع الأنفاس.
لم يُظهر ديك الجن في البداية أي شعور بالندم على فعْلته الشنعاء، ربما لأنه أحس بأن قتله لورد لم يكن ثمرة الوساوس المجردة، بل هو إحقاق عاجل لعدالة الأرض، حيث القتل ذبحاً هو العقاب الطبيعي للزوجة الخائنة. وهكذا، حلّ محلّ الندم شعور ممض بالمرارة والغم الشديد، إزاء نزوع زوجته إلى الخيانة والغدر. وهو ما جسدته مقطوعات عدة، من مثل:
أيها القلب لا تعُد لهوى البيض ثانية
ليس برقٌ يكون أخْلبَ من برقِ غانية
خنتِ سرّي ولم أخنكِ فموتي علانية
ولعل أكثر ما يلفت القارئ في البيت الأخير هو حرص ديك الجن على ارتداء ثوب العفة والوفاء، مقابل الخيانة المفترضة للزوجة المظلومة، فيما يُجمع المؤرخون على أنه كان منذ صباه منصرفاً إلى اللهو والمجون ونشدان الملذات، وصولاً إلى ولعه بالغلمان، خاصة الفتى «بَكر» الذي عمد -وفق بعض الرواة- إلى قتله، بعد أن ساورته الشكوك حول علاقته بورد. وإذا كان العلامة السيد محسن الأمين، في موسوعته الشهيرة «أعيان الشيعة»، قد أصر، خلافاً لإجماع المؤرخين، على نفي تهمتي القتل والمجون عن ديك الجن، فإن تسويغ هذا النفي بتشيّع الشاعر، ونظمه لكثير من القصائد في امتداح آل بيت الرسول، ليس بالأمر المقنع، لأن كثيراً من الشعراء العرب عاشوا حالة الفصام نفسها.
وأبلغ دليل على ذلك هو الفرزدق الذي لم يمنعه مديحه للإمام زين العابدين من اقتراف أفدح الآثام والمعاصي. على أن الجانب الأكثر إيلاماً من تلك المأساة الصادمة هو اكتشاف الشاعر بعد وقت قليل لحقيقة المكيدة التي دُبّرت ضده بليل، والتي أوصلت العلاقة بينه وبين زوجته إلى مصيرها الأسود. وإذ تجنبت السلطتان السياسية والقضائية في ذلك الزمن إنزال أي عقوبة تُذكر بالشاعر القاتل، تكفّل ديك الجن بالمهمة، عن طريق تبكيت الذات والنكوص الكامل باتجاه الزمن «الوردي» الذي تتعذر استعادته. وما لجوء الشاعر إلى جعل حادثة قتله لورد المحور الأبرز لمعظم القصائد اللاحقة سوى محاولة منه للتكفير عن جريمته المروعة، كما لجعل اللغة وسيلته الأنجع للحصول على العزاء المناسب، في حين أن «الزواج الشرقي العبودي» قد حرم الزوجة المغدورة من هذا الحق وتركها -وفق ما تقوله فاطمة المرنيسي- لقمة سائغة بين فكي «الصمت والجحيم».
وإذا صحت أحاديث بعض الرواة عن أن ديك الجن قد عمد إلى إحراق جثة زوجته بعد قتلها، ثم صنع من رمادها كأساً لاحتساء خمرة الندم المر، فإن تلك الفعلة الغريبة هي، على الرغم من تنافيها مع الشرع الإسلامي، محاولة رمزية أخرى للحيلولة دون تسليم الجسد المعشوق إلى عهدة التلاشي النهائي، وللاحتفاظ بما تبقّى منه في عهدة العاشق.
وهو أمر مشابه من الناحية الدلالية لما فعله الخليفة الأموي الوليد بن يزيد الذي أصر بعد موت عشيقته الأثيرة «حبابة» على البقاء إلى جوارها، وعدم إعطاء الإذن بدفنها إلا بعد أن بدأت جثتها بالتحلل.
كثيرة هي المقطوعات التي نظمها ديك الجن في رثاء ورد، وهي على الرغم من صدق نبرتها، وصدورها عن قلب مكلوم، تبدو من الناحية الفنية متفاوتة الجودة والجدة والعمق. لكن أروعها على الإطلاق هي مقطوعته الهائية التي نظمها في حمأة هلوساته، وفي ظل التمزق الدامي بين المشاعر المتنابذة، إذ يقول في أبياته الأشهر التي تناقلها الرواة:
يا طلعة طلَع الحِمَام عليها
وجنى لها ثمرَ الردى بيديها
أجريتُ سيفي في مجال خناقها
ومدامعي تجري على خدّيها
روّيتُ من دمها الثرى ولطالما
روّى الهوى شفتي من شفتيها
فوَحقّ نعليها وما وطئ الحصى
شيء أعزّ علي من نعليْها
ما كان قتليها لأني لم أكنْ
أخشى إذا هبّ الهواء عليها
لكنْ ضننتُ على العيون بحسنها
وأنفتُ من نظر الحسود إليها
ومن الصعب بالطبع أن نمر مرور الكرام على وجوه التشابه المشتركة بين التراجيديا العربية التي جسدها ديك الجن، ومثيلتها الغربية التي جسدها شكسبير في مسرحيته الشهيرة «عطيل»، مع ملاحظة أن المأساة الأولى قد حدثت على أرض الواقع، فيما حدثت الثانية على أرض الفن، وبفارق ثمانمائة عام تقريباً.
وإذا كان بعضهم يدحض حقيقة استلهام كبير الشعراء الإنجليز لمأساة الشاعر العباسي، بحجة عدم معرفة الأول باللغة العربية، وعدم قدومه إلى بلاد العرب، فثمة دلائل لافتة تشير إلى عكس ذلك. من بينها أن شكسبير زار البندقية التي شهدت أحداث مسرحيته المعروفة لفترة غير قليلة، وليس من المستبعد أن يكون قد اطّلع على تلك المأساة من خلال التجار النشطين الذين كانوا يجوبون سواحل المتوسط في تلك الحقبة من الزمن.
كما أنه ليس أمراً بلا دلالة أن يختار صاحب «روميو وجولييت» لمسرحيته بطلاً داكن اللون قدُم من المغرب إلى البندقية، ليصبح مع الوقت قائداً لجيوشها، وليحب ديدمونة ابنة أحد وجهاء المدينة التي هي من غير دينه، ويتزوجها من غير رضا أهلها، تماماً كما كان حال ورد. أما مكيدة أبي الطيب ضد الزوجين المتحابين، فتقابلها مكيدة ياغو، حامل الراية في جيش عطيل، ضد ديدمونة، والادعاء بأنه يحتفظ بالشال الحريري الذي كان عطيل قد أهداها إياه علامة على خيانتها.
حتى إذا عمد عطيل إلى قتل زوجته انتقاماً لكرامته المجروحة، عمدت إميليا زوجة ياغو إلى تبرئة الزوجة المقتولة من تهمة الخيانة، كاشفة عن أن ياغو قام بسرقة الشال الذي كان بحوزتها إذ ذاك، ليحث قائده الغيور على ارتكاب جريمته. وإذا كان شكسبير قد أحدث تعديلاً على المأساة الأولى، عبر دفْع بطله إلى الانتحار الجسدي، فإن العقاب الذي فرضه ديك الجن على نفسه، وقد استسلم لليأس والندم وإدمان الشراب، ليس أقل وطأة من الخيار الشكسبيري الذي وضع عبر انتحار البطل حداً سريعاً لمعاناته المؤرقة.
قد لا تكون هناك علاقة واضحة، أخيراً، بين مأساة الثنائي العاشق في العصر العباسي الأول وذينك الخطين الطويلين من الشجر المائل المزروع على مداخل حمص، ذلك أن الرياح الدائمة التي تتسلل من المتوسط عبر الممر الخفيض الذي يفصل بين جبال عكار وجبال طرطوس هي التي تتسبب -وفق علماء المناخ- بإجبار الأشجار في تلك النواحي على الانحناء، حتى تكاد تلامس الأرض.على أننا نستطيع بقليل من الخيال الشعري أن نربط بين مشهد الأشجار ذات الظهور المقوسة ودم ورد المراق على تراب الأنوثة المغدورة، بما يذكّرنا بقول الكاتب الفرنسي ميلوز: «الرياح العاتية تعوي بأسماء النساء الميّتات منذ زمن طويل.
أما بساتين الميماس المجاورة للمدينة، المخترقة بالنصل الفضي الآسر لمياه العاصي، التي رعت بحنوّ بالغ غرام الحبيبين المشبوب، فهي رعت بالحنو نفسه الدم المتسرب من جسد الجمال الذبيح، بحيث بدت المسافة بين جنة الحب وجحيمه أوهن من أن تُتلمّس بالأنامل أو تُرى بالعين المجردة».



هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.


14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن
TT

14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع المتوسط، وتتكون من أربعة عشر فصلاً، يمثل كل فصل منها جيلاً، من قصة عائلة مصرية من الجد الرابع عشر، حتى الابن في الحاضر، مبتعدة عن تقديم أي خلفية تاريخية لأحداثها، وتكتفي فقط بإشارات عابرة إلى تطور نمط الحياة من جيل إلى آخر.

مع النهاية، نلاحظ أن ثمة وجوداً لفكرة العود الأبدي ودوران الزمن في حركة دائرية، عاكسة تأثير الماضي في الحاضر والمستقبل، وكيف يؤثر كل فعل في مصير الآخرين، وهكذا لا يوجد بطل للرواية، فالـ14 شخصية هم جميعهم أبطال، وكل واحد منهم بطل حكايته، فأسماء الفصول كلها معنونة بأسماء شخصيات، وهكذا يكون الزمن هو البطل الأول، وهو الذي يمارس ألعابه الوحشية في المقام الأول، غير أن كل شخصية لها حكايتها التي لا تأتي منفصلة عن الماضي، ولا ينقطع تأثيرها في المستقبل، وتعيش هي أيضاً ألعابها الخاصة، عبر أحلامها وانكساراتها والصراع الذي تدخل فيه.

وفي ظل ذلك تلعب الرواية على وتر البحث عن الهوية، من خلال علاقات حب يبدو فيها وكأنه مغامرة كبيرة وليس مجرد شعور، مغامرة ترسم المصائر وتعيد تشكيل العلاقات، وثمة أحلام، وهزائم وانتصارات، يتغير معها المكان والزمان، وبطبيعة الحال يلعب الموت دوراً كبيراً في الأحداث، وكثيراً ما يأتي بدايةً وليس نهاية.