قراءة في علاقة اليمن و«القاعدة» وما قد تعنيه لواشنطن اليوم

أمام أوباما تحديات جديدة.. بينها مخاطر الحرب الأهلية

يمنيون يعاينون سيارة محترقة يشتبه في أنها كانت تابعة لتنظيم القاعدة بعد استهدافها من قبل طائرة {دورن} أميركية (أ.ف.ب)
يمنيون يعاينون سيارة محترقة يشتبه في أنها كانت تابعة لتنظيم القاعدة بعد استهدافها من قبل طائرة {دورن} أميركية (أ.ف.ب)
TT

قراءة في علاقة اليمن و«القاعدة» وما قد تعنيه لواشنطن اليوم

يمنيون يعاينون سيارة محترقة يشتبه في أنها كانت تابعة لتنظيم القاعدة بعد استهدافها من قبل طائرة {دورن} أميركية (أ.ف.ب)
يمنيون يعاينون سيارة محترقة يشتبه في أنها كانت تابعة لتنظيم القاعدة بعد استهدافها من قبل طائرة {دورن} أميركية (أ.ف.ب)

مرة أخرى عاد اليمن إلى اللعبة، بعد أن كانت للولايات المتحدة الأميركية قبل 5 سنوات حكاية نجاح ونصر مبكر في الحرب ضد «القاعدة». أما الآن، فقد ضاعت تلك المكاسب وظهرت «القاعدة»، وسيحتاج الرئيس الأميركي باراك أوباما وطاقمه إلى إيجاد طريقة لخوض نوع جديد من الحروب، وسيضطرون إلى فعل ذلك في أحد أسوأ البلدان ضيافة في العالم. في أرض تنهار وتنحدر نحو الحرب الأهلية والعنف، وترتفع فيها أسعار الطعام وتجف الآبار.
صعود «القاعدة» وسقوطها ونهوضها من جديد في اليمن، قصة نجاح وإخفاق، وتحديات قرن جديد، وطريقة جديدة في فهم العالم. وهي قصة تمس أميركا كما رصدها الكاتب غريغوري دي. جونسون في كتاب تحت عنوان «اليمن والقاعدة.. الحرب الأميركية في جزيرة العرب»، أوضح خلاله أن أفغانستان كانت تمثل فكرة لـ«الجهاديين» أكثر منها مكانا جغرافيا.

ضخ تنظيم «القاعدة» كمًّا هائلا من المعلومات في شكل وثائق وفيديوهات وملفات صوتية، أصدرها في اليمن، ولاحقا في شبه الجزيرة العربية. ومنذ عام 2007 أصدر كمية كبيرة من المواد عبر المنتديات المتشددة على شبكة «الإنترنت»، وفي ما بعد عن طريق جناحه الإعلامي. ولكن مع كل ذلك ليس هناك من يستطيع أن يجزم بدقة بصحة هذه المواد وما جاء بها من معلومات. مع هذا، حاول الكاتب الأميركي غريغوري دي. جونسون في كتابه «اليمن والقاعدة.. الحرب الأميركية في جزيرة العرب» أن يستعين ببعض الصحافيين والفارين من «القاعدة» لكي يتوثق ويعيد توثيق ما أصدره التنظيم من معلومات في هذا الشأن.
الكتاب تعرض لبعض الشخصيات الرئيسية التي اعتبرها المؤلف منطلقات لمعلوماته ومصادره. ومن هذه الشخصيات محمد الأهدل، وكيل «القاعدة» والقائم على شؤونها المالية حتى عام 2003، عندما استسلم كجزء من اتفاقية سرية، وحرر عام 2006 وهو يعيش في اليمن. كذلك تعرض الكتاب لعبد الله بن حسين الأحمر، شيخ مشايخ قبائل حاشد القوية ورئيس البرلمان اليمني عام 1993 حتى وفاته عام 2007، كما ترأس أيضا حزب الإصلاح الذي كان حزب المعارضة اليمني الأبرز.
ذهب الكاتب إلى أنه في عام 2009، وتحديدا في أوائل يناير (كانون الثاني) منه، اجتمع عدة رجال في بيت صغير آمن ذي طابقين في المرتفعات المطلة من الشمال على العاصمة صنعاء، وكانوا قد جاءوا من كل أنحاء العالم العربي، إلى أفريقيا وجنوب آسيا. وخلال بضعة أشهر انضمت إليهم حفنة من الأميركيين ومجموعة من الأوروبيين. وكلهم حارب وأخفق في أماكن أخرى، وبعضهم سجن في أماكن مختلفة منها غوانتانامو واليمن، إلا أنهم صمدوا وظلوا أحياء على الرغم مما مروا به من ظروف صعبة.
جاء الرجال إلى المنزل الصغير الآمن، في ذلك اليوم، عبر خليج عدن بقوارب لتهريب الرقيق الأبيض، فضاعوا بين حشود اللاجئين اليومية من أفريقيا. وبعض السعوديين جاءوا بالسيارة عبر خط الحدود المخفي في الرمال، وغيرهم هبطوا في مطار صنعاء الدولي مدعين أنهم طلبة لغة عربية أو سياح وكانوا مستعدين لما ينتظرهم.
وعلى بعد قارتين، كان باراك أوباما – الرئيس الأميركي المنتخب آنذاك – غير مستعد لما هو على وشك أن يحدث.
كان يجلس في مكتبه المؤقت في فندق «هاي - آدامز» الفخم المجاور للبيت الأبيض في العاصمة الأميركية واشنطن، ويحضر لتطبيق التغيرات التي وعد بها خلال حملته، وكان على رأس قائمته إغلاق سجن قاعدة غوانتانامو، لأنه أزعجه وأضر بصورة أميركا في الخارج، وقسم أصوات الناخبين في الداخل، وكانت المحاكم الداخلية تهاجم أسسه الشرعية، بينما كانت تتدفق قصص التعذيب عبر أقفاص السجن الحديدية.
ومع أن أوباما لم يكن يعلم ذلك في حينه، فإن حفنة من الرجال الملتقين في البيت الصغير الآمن باليمن، كانوا على وشك إجباره على ما لا يريد، ويلزمونه في الأيام المقبلة، بالرجوع عن وعد حملته الانتخابية. وكان السؤال الصعب: كيف للولايات المتحدة الأميركية أن تحارب عدوا حاذقا.. لا دولة له من دون الدخول في اجتياح عسكري جديد مكلف لا يزيد المسألة إلا صعوبة؟
وصل أوباما إلى منصبه مستعدا للتعامل مع الحربين في أفغانستان والعراق، إلا أنه لم يمض وقتا كافيا للنظر في اليمن، فخلال الأيام الأولى من يناير، كان اليمن لا يزال مسألة ثانوية، لكنها لم تبق كذلك. وبحلول أسبوعه الأول في المنصب، وجد أوباما أنه سيحتاج إلى الإجابة عن السؤال الذي طرحه اليمن ومقاتلوه، وهو الذي لم يبدأ حتى بالتفكير في المشكلة بعد.
وعلى الرغم من إعلان أوباما اعتزامه إغلاق معتقل غوانتانامو بعد أيام، فإن الرجال في اليمن كانوا يعرفون ما يفعلونه، فمن مخبئهم الضيق في الصحراء، وباستخدام مجرد كاميرا وبضع كومبيوترات محمولة، أحرجوا رئيس الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءه العرب باستخدام فيديو واحد لا غير. حتى الطريقة التي نشروا بها المعلومات كنت محسوبة لزيادة التأثير، فنشروا أولا خبرا تشويقيا على صفحات المنتديات المتشددة على شبكة الإنترنت في الأيام التي سبقت مراسم تنصيب الرئيس الجديد، ومن ثم، بعدما أدى أوباما القسم الرئاسي، نشروا المادة النهائية.

* قصة هشام الديلمي
* في الصباح الباكر من يوم 12 سبتمبر (أيلول) 1987، دوى رنين الهاتف الحاد على الجدران الثقيلة في منزل داخل صنعاء. ثمة صوت غير مألوف على الجانب الآخر من الخط، يطقطق عبر أميال من التشويش، قبل أن ينقل الخبر: «لقد استشهد هشام.. مبارك».
هذا كل ما ستحصل عليه العائلة.. حفنة كلمات من رجل غريب على بعد ألفي ميل. لا جثة يدفنونها ولا رسالة أخيرة تمرر إليهم، وفي الوقت الذي وصل فيه الاتصال من باكستان، كان قد مر على موت هشام 12 يوما.
هشام الديلمي ابن إحدى عائلات اليمن المتدينة العريقة، كان قد غادر اليمن قبل شهور للقتال ضد السوفيات. عبد الوهاب هو رب العائلة التي تتكون من 12 ولدا وحفنة من البنات، إلا أن هشام كان المفضل عنده؛ إذ كان يدرس القرآن، وعندما اكتشف أبناء جيله الفتيات إبان الدراسة الثانوية، وصاروا يطاردونهن كظلالهن في شوارع صنعاء الملتوية، جلس هشام يلتهم أعمال سيد قطب. لم يلمس قلب الشيخ ذي التسعة والأربعين عاما منظر مثل منظر ابنه الممتلئ منحنيا على كتبه.
ومع أن شهر سبتمبر أحد أجمل أوقات السنة في صنعاء، فإن ذلك الصباح من سبتمبر 1987، كان ثقيلا على عبد الوهاب. الذي وجد صعوبة في الكلام وهو يستمع إلى أولاده يخبرونه بأمر الاتصال الهاتفي الآتي من باكستان، وبينما هم يتحدثون، انحرف ذهنه عودة إلى قصة يعقوب القديمة في التوراة، وكيف تعامل مع خسارة ابنه المفضل، ولكن هذا أيضا لم يمنحه كثيرا من المواساة.. «كان قلبي حزينا، واغرورقت عيناي بالدموع»، يقول متذكرا: «أردت ولدي».

* بعيدا عن الجغرافيا.. أفغانستان فكرة
* يعتقد الكاتب أن أفغانستان ما كان لها أن تكون حرب هشام؛ «إذ هي صراع ضمن سياق الحرب الباردة في آسيا الوسطى، وعلاقتها بالإسلام قليلة وكذلك لا علاقة لها باليمن بتاتا. كان الدين هنا مصادفة جغرافية على رقعة شطرنج سياسة القوى العظمى، ولكن العرب جذبهم شيء أعمق.. شيء أكثر سحرا من السياسة أو السلطة.. شدهم هذا الشيء إلى الحرب الدائرة في أفغانستان.. فدخلوا متعثرين إلى بلد لم يفهموه تماما من قبل».
أفغانستان، ذات الشتاء القارس، بلاد عديمة اللون، وصحاراها مقفرة تتشقق وتتفتت تحت الأقدام، وجبالها متزاحمة في الشرق، متكسرة ومسننة بوديان تخترقها الأنهار، لا تشبه في أي شيء الصحارى الخالية والمدن المكتظة التي يدعوها معظم الشبان الآتين أوطانهم.
كانت على البقايا الرملية للحرب في البلاد قد نشطت قبائل منقسمة، وظهر «أمراء حرب» مخدرون، ومجرمون صغار، وجواسيس، وأصناف أخرى من البشر. كانت هذه هي أفغانستان من حيث التاريخ والخبرة، ولكن ثمة أفغانستان أخرى ما بعد الفوضى، تربت في عقول المراهقين النقية من أمثال هشام، الذين جاءوا ليشكلوا «جيوشا شعبية دينية» تنطلق من هذه البلاد التي كانت فكرة أكثر منها مكانا.

* شرارة الاقتتال الأولى
* انطلقت شرارة القتال مع قيام الاتحاد السوفياتي يوم الميلاد من عام 1979، بإنزال عسكري لدعم الحكومة الشيوعية في كابل. وهذا ما جعل العرب يحولون الحرب إلى «جهاد» على الفور. وبعكس كثير من الحكومات العربية، التي كانت تدعم الأمر علنا لكنها كانت تحاول في الخفاء ثني شبابها عن السفر، أرسل «اليمن الشمالي» - وكان في ذلك الوقت دولة مستقلة منفصلة عن اليمن الجنوبي - عشرات من خيرة شبانه وألمعهم. وبالنسبة إلى جيل كامل من الشباب اليمني، غدت الرحلة إلى الخطوط الأمامية في أفغانستان تعبيرا طقسيا عن النضج.
كانت هناك 3 قنوات تغذي خطوط اليمن إلى أفغانستان: القناة الأولى، الحكومة برئاسة علي عبد الله صالح الرئيس الخامس لليمن الشمالي الذي وصل للسلطة عام 1978؛ إذ كان يدعو المجندين إلى القصر الرئاسي، ويجلس المراهقين على مقاعد عملاقة فخمة ويتحدث إليهم في هذا الأمر.

* مصطفى بادي.. رفيق جديد
* وفي الوقت الذي كان فيه هشام يطلب من أبيه الإذن له بالسفر إلى أفغانستان، وصل يافع يمني آخر اسمه مصطفى بادي إلى قرار مشابه، حينما كان يستمع إلى شيخ القرية وهو يتحدث عن أفغانستان بأنها تتعرض إلى هجوم شيوعي من السوفيات. وبعد أيام اشترى تذكرة سفر واستقل طائرة متجهة إلى مدينة كراتشي؛ كبرى مدن باكستان، وفي طريقه إلى حمام الطائرة، بدأ حوارا مع شابين يمنيين، واستمع الاثنان إلى بادي يكرر خطبة شيخ القرية ويخبرهم عن جرائم السوفيات في أفغانستان التي هو الآن في الطريق إليها.
أخبر الشابان اليمنيان بادي، وهم في سماء بحر العرب، أنهما متوجهان إلى أفغانستان، فبقي تحت رعايتهما، ومن ثم أرشداه عبر معبر كراتشي الصاخب إلى فندق هادئ وأحضرا له تذكرة سفر إلى بيشاور على متن طائرتهما عبر البلاد. وفي ردهة الواصلين وقف شخص فلسطيني ينتظرهم عرف عن نفسه ببساطة بـ«أبي تراب»، فجمع اليمنيين مع مقاتل أفغاني بدا كأنه أبكم، وأصعدهم في حافلة صغيرة، ومن ثم في بيت داخل قسم المدينة الجامعية في بيشاور.

* عبد الله عزام.. «راعي الجهاد في أفغانستان»
* شرح «أبو تراب» لأولئك الشبان اليمنيين، أن البيت هو «مكتب الخدمات»، وهو نزل ومركز تبادل تعليمات بيروقراطي للمتطوعين العرب يديره عبد الله عزام وهو «راعي الجهاد في أفغانستان»، وفق المؤلف جونسون. وفي الداخل سلم الثلاثة جوازات سفرهم وبطاقات هوياتهم وأموالهم واختاروا هويات جديدة؛ إذ قيل لهم: إن «الأسماء الجهادية» ستحميهم أثناء حياتهم السرية في بيشاور. واختار بادي اسم «أبو إبراهيم» وطوال بقائه في أفغانستان، لم يعرف إلا باسم «أبو إبراهيم».

* أميركا الصديقة.. تتحول إلى عدو لـ«القاعدة»
* سافر عزام إلى الدول الأوروبية والولايات المتحدة لتجنيد الشبان المسلمين للحرب في أفغانستان. وسمحت الولايات المتحدة بالفعل لعزام بإنشاء مراكز على امتداد البلاد مثل نيويورك وكانساس سيتي وتوسون، وذلك لتشوق واشنطن لإغراق الاتحاد السوفياتي في «المستنقع الأفغاني» مثلما أغرق الشيوعيون من قبل أميركا في «مستنقع فيتنام».
وبحلول أواخر عقد الثمانينات من القرن الماضي، تحولت قطرات المتطوعين العرب إلى فيضان، وكثيرون منهم جذبهم عزام وتلميذه أسامة بن لادن. وفي 15 فبراير (شباط)، حين عبر العسكري السوفياتي الأخير في أفغانستان الجنرال بوريس غروموف «جسر الصداقة» الذي صنعه السوفيات من الحديد والإسمنت المسلح وصولا إلى أوزبكستان السوفياتية، أكمل السوفيات رحيلهم تاركين خلفهم «حكومة دمية في كابل»، برأي مؤلف الكتاب، لكن بن لادن كان يريد أن ينهي العمل.
شعر بن لادن (31 سنة في حينه) بثقة هائلة بعد الانسحاب السوفياتي، وكان يخطط لرحلة وحيدة أخيرة نحو الحدود إلى أفغانستان. ولم يكن أحد يتوقع أن يكون هناك كثير من القتال، ولكن في ضاحية لانغلي، بولاية فيرجينيا، حيث مقر وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، اتفق محللو الوكالة مع تحليل «المجاهدين»، ووضعوا بالاشتراك مع الاستخبارات الباكستانية خطة لدعم الثوار المقاتلين أثناء اندفاعهم غربا من باكستان نحو كابل، قبل أن تلاحقها تفاصيل كثيرة من الأحداث غيرت مسار الحرب وانتهت بمواجهة جديدة بين «القاعدة» وأميركا.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.