يحدث كثيراً أن يعاني الكُتاب من ظاهرة «متلازمة الورقة البيضاء»، أو الحبسة أو العجز عن الكتابة، ولو لفترة قصيرة. وقد يحدث الأمر معكوساً، أن يتمرد المبدع على ما يكتبه خشية تكرار نفسه، أو نتيجة إحباط فكري ونفسي لعوامل كثيرة، متعلقة به أو بالوسط الاجتماعي والثقافي الذي يعيش فيه. وفي الحالتين، تبقى العلاقة بين الحالتين، علاقة معقدة، غامضة، وهي تنتج، بسبب ذلك، إشكاليات كبيرة قد تتفاقم مع مرور الزمن، إذا لم يتداركها الكاتب نفسه.
في هذا التحقيق، آراء لعدد من الكُتاب حول العلاقة الشائكة بين الكاتب ونصه...
- رضوى الأسود (روائية مصرية): صراع الكاتب مع نفسه
أعتقد أن ثنائية الكتابة والتمرد لا تخضع لقاعدة ثابتة، حتى لا يمكن الوقوف على أسبابها بشكل واضح، وبالتأكيد تختلف من شخص لآخر. لكنني سأتحدث عن تجربتي الشخصية، فعندما كنت في الثلث الأخير من أحدث رواياتي «بالأمس كنت ميتاً»، وجدتني أتوقف عاجزة عن استكمالها، بعدها بدأت أحداث محنة شخصية مررت بها وكانت الأمرّ والأصعب على الإطلاق، فوجدت الكتابة تأتيني بغير ميعاد، وكم كانت معي جزيلة العطاء، ووجدتني أكتب بلا توقف، وكأن أحدهم يملي عليّ الأحداث، وانتهيت منها في وقت قياسيّ، لتسجل تلك الرواية نجاحاً غير مسبوق، وتصبح علامة فارقة ونقلة نوعية في مشواري الأدبيّ.
بعدها، استعصت عليّ الكتابة الروائية لمدة عام أو أكثر وظلّت تتمرد عليّ، ومررت بما يسمى بـ«متلازمة الورقة البيضاء»، حتى نصحني صديق، حين شكوت له، بأن أكتب عن تلك التجربة الشخصية التي مررت بها، وتداعياتها، شجعني كثيراً ولم يتركني، فوجدت فكرة تهبط على رأسي، ثم شرعت في كتابة رواية جديدة، صحيح أنها لا تمت بصِلة لحياتي، لكنني في نهاية الأمر أمسكت بتلابيب الكتابة، وتمكنت من إخضاعها.
الآن، ومنذ نحو 14 شهراً، وأنا في تلك الحالة من تمرد الكتابة عليّ، تأتيني أفكار عدة، لكن تتبخر سريعاً دون أن أتمكن من اللحاق بها وتدوينها، وحين أفكر في سبب ذلك لا أعلم، فأجدني أقول؛ لمن أكتب إذن؟
أما عن تمردي على الكتابة خوفاً من التكرار، فلم تشغلني تلك الفكرة من قبل، ومنتجي في العموم سواء من الكتب الفكرية أو الروائية ليس بها تشابه على مستوى الفكرة أو البناء أو الشخوص.
- أحمد ولد إسلم (روائي موريتاني): الكتابة فعل تمرد
العلاقة بين الكاتب والكتابة مُعقدة وتحكمها عوامل نفسية واجتماعية، ويصعب وضعها في إطار محدد، فمهما كتب الأدباء عن تلك العلاقة فإن طبيعتها الذاتية تبقى المسيطرة. فلدى الكاتب الواحد تختلف تلك العلاقة بين نص وآخر، هناك نص يكتب تزجية، ونص يكتب رغبة، وآخر يكتب مشاركة، بل هناك نصوص تكتب فقط من أجل الكتابة، لا يريد منها الكاتب إلا أن تخرج من عقله ليستريح.
هل يمكن وصف الكتابة بالمُتمردة؟ أعتقد أن ذلك الوصف فيه شيء من القسوة، ولو اكتسى بصبغة المديح، ربما يكون الوصف لائقاً بالكاتب أكثر، لأن فعل الكتابة على بساطته ليس سوى تمرد على اللحظة، رغبة إنسانية خالدة في تشويه أو تحسين الموجود، تلك الرغبة الدفينة في النفس البشرية منذ الرسوم الأولى على الكهوف، كأن شيئاً ما يدفع الإنسان إلى ترك أثره على الصخر، ثم على الطين، وعلى ورق البردي، وجلود الحيوانات، كان يصرّ كل مرة على تخليد نفسه بوصفه متمرداً غير راضٍ عن الهيئة التي وجد عليها الكون.
ومنذ صارت الكتابة مهنة، حاول من كرّسوا لها أنفسهم تطويعها بالاحتكار، ووضع قواعد لها، وإضفاء صفاتهم البشرية على فعل محايد، والحقيقة أن حالة امتناع الأفكار عن التدوين ليست تمرداً من الكتابة، بقدر ما هي عجر بشري طبيعي، كما لا يمكن وصف تدفق الأفكار واستجابتها للتدوين بانصياع الكتابة. وعلى المبدع التوقف عن التهرب من الاعتراف بعجزه، فليس للكتابة ذنب في ذلك.
- أريج جمال (روائية مصرية): جزء من الحالة الإبداعية
اختبرتُ التمرد حسب المفهومين، كانت الكتابة في أوقاتٍ عصيّةً عليّ، عندما خضعتُ مثلاً لضرورة إنجاز روايتي «أنا أروى يا مريم»، وفقاً لخط زمني معين يتوافق مع شروط منحة «آفاق» التي كنتُ حاصلة عليها آنذاك. وصل حدّ التمرد أن اختفت الكتابة تماماً، عانيت بشدة كي أنتج مشهداً واحداً، لم أستطع أن أتجاوز هذه الحالة، ولكسرها بدأتُ ارتجالاً طويلاً، كتبتُ على ورق أبيض، وبأقلام تلوين، سجلتُ بعض المقاطع على تليفوني، توقفتُ في الشارع فجأة لأكتب استناداً إلى مؤخرة سيارة مصفوفة، جلستُ على الرصيف وشخبطتُ وسط استغراب المارّة. تلك الفترة على صعوبتها علمتني الصبر الجميل، أحب كثيراً تعبير النبي يعقوب هذا، الصبر الجميل، يعني أنكِ تحاولين وتصبرين على النتيجة، تمارسين الحياة ثم تعودين للكتابة وتصبرين، وهكذا. الصبر هو كلمة السرّ برأيي، وهو صعب، لكنه تمرين، وأعتقد أنه تجربة روحية لا غنى عنها للكاتب، واختبار حقيقي لتمسكه بحِرفته. أنتِ تتمسكين بالكتابة، وقد تكون المكافأة سكينة داخلية، ولا يصحّ الاستخفاف بها. في النهاية أنجزتُ روايتي، لكن بعد أن خالفتُ خطتي الأولى.
أما حالة أن أتمرد على ما أكتب، فهي لا تقل إيلاماً عن الحالة الأولى. ورغم أنها قد تبدو للناظر حالة اختيارية، فإن حقيقة الأمر ليست كذلك. فبعد انتهائي من كتابة «أنا أروى يا مريم» كانت شهيتي مفتوحة للكتابة إلى ما لا نهاية، فكرت أن أعمل جزءاً ثانياً وثالثاً من الرواية، لكني انتبهتُ إلى أني أكتب بنفس الروح والأسلوب. في البداية فرحتُ بالطلاقة، ثم بدأت أكتشف الفخ، واضطررتُ في النهاية إلى التسليم. استثمرتُ هذه الحالة في الكتابة الصحافية، وفي دراسة الترجمة، ثم بدأت أكتب قصصاً قصيرة «بضمير الغائب»، وكذا كنتُ أفعل مع يومياتي، لأن الرواية تمت بضمير المُتكلم، وكانت تلك طريقتي في التمرد.
التمرد في رأيي جزء من الحالة الإبداعية، إذا كان الكاتبة - الكاتب يتحليان بدرجة من الوعي، سواء بالذات أو بحيوية الكتابة نفسها. هي شُعلة كي تحافظين عليها مُتجددة، عليكِ أن توافقي على المرور باختبارات. على طريقة الأساطير، هناك دائماً شيء مطلوب لن تعرفيه سوى بالتقدم. لا أقول هذا كي أُعقّد الناس، بالعكس. لديّ أصدقاء يتخذون قراراً بالكتابة، فيجلسون وينتجون عدد الكلمات التي حدّدوها سلفاً. لكن الكتابة بالنسبة لي رحلة متواصلة، أكتشف فيها العالم من جديد، أزور عوالم صغرى، أستمتع وأفهم نفسي على نحو أفضل. أحتاج إلى هذه الاكتشافات، في الرحلة، وهذا هو الإبداع بالنسبة لي، هو تمرد على تاريخ مضى، على لحظة سابقة، والتجريب الحُر من كل قيد إلى ما لا نهاية.
- عادل آيت أزكاغ (ناقد مغربي): تمرد وتساؤل معاً
بدءاً، لا مناص من القول إن علاقة التمرّد بالإبداع محكومة بطابع جدلي، مركب، معقد، متعدد الوجوه. لكن لا بأس من الإفصاح أن المبدع ربما يتمرد على الكتابة إذا كان يخشى تكرار نفسه، ويبحث عن أسلوب جديد أو موضوع لم يُطرق قبْلاً، في ظل سعيه للإتيان بالمُبتَكَر الممتع الغني، للإضافة إلى هذا المجال أو ذاك وإخصابهما في الإبداع أو الحياة. وهذا شيء صحي تماماً.
بينما أعتقد بالمقابل أن الكتابة تتمرّد إلى حد العصيان على المبدع - الكاتب، ويتوقف عنها، حين لا يكون مبدعاً حقيقياً، أي مزيفاً، لأن الإبداع عملية تساؤلٍ وخيال وانفعال وتجريبٍ مرنة، ومحاولة إنشاء وتوليد، وحالة بحثٍ واكتشافٍ مستمرة. ما يجعل المبدع الحقيقي دائم الإبداع، دائم البحث عن الجديد، دائم الإنجاز والإضافات اللافتة التي تملأ نقصاً هنا وثغرات هناك. تتمرد عليه أيضاً حينما تتداخل عوامل خارجية وداخلية عدة في ذلك أو أحدها (نفسية - اجتماعية - سياسية...). هكذا قد تصبح ذاتية عندما يكفهر مزاجه، أو تضطرب عاطفته، أو لا يكون عقله مهيأ لاستقبال الأفكار المُبدِعة التي لا تزور عادة «إلا العقول المستعدة لاستقبالها» كما قال المفكر الفرنسي «باستور»، أو عندما يكون خياله عاجزاً عن التقاط الإشارات أو العلامات أو الومضات الإبداعية. وإذا ما طرحنا سؤال؛ متى يحدث ذلك؟ فأظن أن الإجابة تتحدد من خلال تموقعه في حالة نفسية سلبية، كأن يعاني من الحبسة أو الاكتئاب أو الإحباط، أو يعيش في حالة من الهوس (السلبي - اللاواعي بطبعه) الذي هو ضد الشغف (الوعي بالعمل ورغبة إنجازه منظماً بمحبة - الإيجابي بطبعه)، أو يعاني من الإحساس بالمصادرة والمنع وتسليط الرقابة عليه أو على إبداعه أينما افتقد حريته التعبيرية الكاملة التي هي أحد شروط الإبداع وأساساته، أو أن يشعر بالتجاهل واللامبالاة وعدم التقدير له ولإبداعه.
لكن الثابت، عطفاً على هذا، هو أن المبدع «الهش» لا يمكن أن يبدع إذا كان محاطاً بظروف غير سليمة أو عائشاً في حالة غير صحية كيفما كان نوعها، ما يتطلب تمرداً معيناً منه، يساعده على إثبات وجوده بجرأة مقبولة وبجدارة، فضلاً عن أنّ إنجازه ناتجٌ عن نزعته الإنسانية المُتجذّرة التي تقوده لنفع الغير، وعمله صادقاً، في حالة توازن نفسي بين عقله وعواطفه وتصالحه معهما. إضافة إلى الفن والحياة، وإثراء لجوانبهما، ثم تنويراً لذاته وللآخرين.
المبدع الحقيقي الغني لا يمكنه أن يعاني من الفقر في حسه الإبداعي أو من الجفاف الذهني، كما أنه متمرّد بطبعه على كل الأشياء المعيقة، التي لن تشكل أي تأثير عليه، سواء كانت ضده أو في صالحه، لأنه واثق من نفسه بلا غرور، واعٍ بإمكاناته، وبوجوده وحدوده، وبنوعية تفكيره الذي يسميه د. شاكر عبد الحميد «الإبداعي، لا الاتباعي، الافتراقي لا الاتفاقي». بل متمرد كذلك ومترفع عن كل مظاهر التخلّف، والعقليات السطحية الجافة، ثم إنه متمرد أيضاً على جميع الأشكال المفتقرة للجمال.