فشل الفلاسفة في تغيير العالم

مدرسة فرانكفورت نموذجاً

مارتن جي - إريك فروم
مارتن جي - إريك فروم
TT

فشل الفلاسفة في تغيير العالم

مارتن جي - إريك فروم
مارتن جي - إريك فروم

قبل مظاهرة العنصريين البيض في تشارلوتسفيل، فرجينيا، بفترة قصيرة عام 2017، مد دونالد ترمب الأصغر لأبيه مذكرة عنوانها «الرئيس الأميركي والحرب العلنية». ألقت المذكرة باللائمة على اليهود الألمان في مدرسة فرانكفورت لأنهم بدأوا حروب الثقافة التي دمرت القيم الأميركية. «الماركسية الثقافية»، كما كتب مؤلف المذكرة، مستشار الأمن القومي الأميركي رتش هغنز: «تتعلق بالبرامج والمناشط التي جاءت من ماركسية غرامشي، والاشتراكية الفابية، وبصفة مباشرة أكثر من غيرها من مدرسة فرانكفورت. استراتيجية فرانكفورت فككت المجتمعات عبر هجماتها على الثقافة بفرضها ديالكتيكاً يقحم تناقضات غير قابلة للحل تحت اسم النظرية النقدية».
أوحت مذكرة هغنز بأن مجموعات معارضة لدونالد ترمب، ومنها: حركة «احتلال»، و«حياة السود مهمة»، واتحاد الحريات الأميركية المدنية، ومجلس العلاقات الإسلامية الأميركية، والأكاديميون، والإعلام، والديمقراطيون، والعولميون، وأصحاب البنوك الدولية، وكوميديو التلفزيون آخر الليل، والجمهوريون المعتدلون، جميعاً دمى في يد مدرسة فرانكفورت: «الهجمات على الرئيس ترمب... تحركت في فضاء من الصراع استمد معلوماته وتشكل بفعل محركين ماركسيين».
إنها نظرية مؤامرة –ومعادية للسامية أيضاً– ما يوحي بأن هؤلاء اليهود الماركسيين الألمان الذين عاشوا في منفاهم في الولايات المتحدة خلال عهد الرايخ الثالث كانوا أعداء من الداخل، يفسدون الأرض التي حمتهم. المؤرخ الأميركي الكبير، مارتن جي Jay، يبتهج سخرية في كتاب المقالات الذي أصدره: «من الواضح أننا حطّمنا المرآة هنا ودخلنا في كون موازٍ تعطلت فيه القواعد المعتادة للشواهد وعُلِّقت المصداقية». في حقبة ما بعد الحقيقة التي نعيش، حتى الماركسيون الأموات يُعبّأون بالقوة السياسية بما يتجاوز أكثر أحلامهم غرابة.
تكمن المفارقة في أنه لم يكن لمدرسة فرانكفورت أثر يُذكر في العالم الفعلي. تأسس معهد الأبحاث الاجتماعية، مقر المدرسة، أوائل العشرينات من القرن الماضي ليفسر فشل الثورة في ألمانياً عام 1919. ما استنتجه المنظّرون الماركسيون هو أن التفسير الاقتصادي للتاريخ كان غير كافٍ؛ كانت هناك حاجة إلى تحليل ثقافي للاستبداد والعنصرية ودور الترفيه الجماهيري في إغراء الجماهير بأن تكون تحت الهيمنة.
بناءً على ذلك درست مدرسة فرانكفورت، في أوروبا وفي المنفى الأميركي، كل شيء من أعمدة التنجيم الصحافية إلى سينما هوليوود والموسيقى الشعبية، وغوغائيي الراديو الداعين إلى الاستهلاك. جرى إبعاد الجماهير عن التخلص من الرأسمالية عن طريق ما سماه قادة الفكر، تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، نظاماً كلياً من التعمية (verblendungzussamenhang).
نظرية المؤامرة حول فرانكفورت، التي استحوذت على اهتمام الكثير من الشخصيات اليمينية المتطرفة، ومنهم ترمب وجوردن بيترسون والراحل أندرو برايتبارت، مؤسس الخدمة الإخبارية التي تحمل اسمه، قلبت هذا التاريخ رأساً على عقب. لم يكن أمثال أدورنو وهوركهايمر وإريك فروم وهربرت ماركوزه مجرد مجموعة من الأساتذة الهزيلين الذين يُصدرون من أكاديميتهم نبؤات لا تكاد تُفهم، وإنما كانوا فريقاً صارماً من الهدّامين الذين قاموا في منفاهم الأميركي بتدمير ثقافي جاء شعار «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى» ليكون رداً متأخراً عليه. (لم يصل فالتر بنيامين إلى الولايات المتحدة –خوفه من أن يُسلَّم إلى ألمانيا النازية جعله ينتحر في إسبانيا عام 1940).
لكن الذين انخدعوا بكون مدرسة فرانكفورت انطوت على أساتذة الهدم لم يقتصروا على سذج اليمين فحسب. في عام 2010 كتب فيدل كاسترو أن الأكاديميين الماركسيين المنفيين عملوا مع عائلة روكفلر في خمسينات القرن العشرين لتطوير سيطرة على العقل بتوظيف موسيقى الروك لتكون مخدراً جديداً للجماهير –ومن هنا جاء غزو البيتلز للولايات المتحدة حسب كاسترو، البيتلز الذين، كما يدّعي، أسندت إليهم مدرسة فرانكفورت مهمة تحويل موسيقى «الميرسيبيت» إلى سلاح يدمر حركات التحرر.
يرى المؤرخ جي أن الفكرة مضحكة، مقترحاً بسخرية أنها تفسر قصائد جون لينون الهادئة في إحدى الأغاني الناجحة للمجموعة: «تقول إنك بحاجة إلى ثورة. تدري أنه يمكنك استثنائي... ألا تعلم أن الأمور ستكون جيدة؟». في أواخر الثلاثينات اشترك أدورنو في بحث موّلته مؤسسة روكفلر في جامعة برنستون حول محتوى الإذاعة وليس محتوى العقل، وتعرّف بكل تأكيد على البيتلز بوصفهم أدوات للصناعة الثقافية استطاعت الرأسمالية المتأخرة من خلالها أن تحبط الثورة. لكن أدورنو لم يكن العميل السرِّي خلف مساعٍ للسيطرة على العالم.
الحقيقة هي أن مدرسة فرانكفورت فشلت في إدراك مبدأ ماركس: «الفلاسفة فسروا العالم بطرق مختلفة؛ والمهم هو تغييره». يورغن هابرماس، الذي قاد الجيل الثاني من المدرسة، وصف تراجع أسلافه عن العمل السياسي بأنه «استراتيجية بيات شتوي». لم يكن الوقت مناسباً للنزول إلى الشارع، كما قال أدورنو لطلابه في أواخر الستينات. أما طلابه فرأوا أستاذهم أداة للقمع. وكانوا على صواب. حين احتل الطلاب معهد البحوث الاجتماعية عام 1969 اتصل أدورنو بالبوليس لإخراجهم. إحدى محاضراته توقفت حين كتب طالب على اللوح الأسود: «لو أن أدورنو تُرك لوحده، فلن تنتهي الرأسمالية».
في نفس العام أخبر جي زميلاً له في الدراسات العليا في جامعة كولومبيا بأنه كان يكتب رسالته حول مدرسة فرانكفورت. النتيجة كانت الكتاب التاريخي المهم حول السنوات الأولى لتلك النظرية «المخيلة الديالكتيكية» (1973). صديقه، الذي كان عضواً في المنظمة اليسارية المقاومة «وذر أندرغراوند»، رفض الفكرة. ألم يدرك جي أن أولئك المهرجين الفرانكفورتيين كانوا مخترَقين وأن أدورنو تحديداً كان موضع احتقار لأنه في أثناء منفاه الأميركي غيَّر اسمه ليبتعد عن الاسم الذي يوحي باليهودية (فايزنغروند).
لم يقتنع جي. ومع ذلك اكتشف بعد ثلاثين عاماً أمراً مزعجاً. في إضمامة من رسائل أدورنو وجد جي ما يشير إلى أنه تلقى طعنة في شخصيته. اتهم أدورنو جي بأنه شخص باحث عن الإثارة وجمع المال وحذر الجميع من التحدث إليه. نشر جي مقالة بعنوان «الأموات الذين لا يشكرون» حول شعوره بعد أن أمضى حياته العملية يدعم سمعة شخص يطعنه من الخلف ومن وراء القبر.
في عام 2021 إذاً، سنحسن صنعاً إن نحن تجاهلنا مدرسة فرانكفورت. كتاب جي الجديد يقترح العكس. في مقالات رائعة حول موضوعات تتراوح بين جمع بنيامين للطوابع إلى اهتمام المدرسة بفكر التحليل النفسي الصاعد، يُرينا جي أن أعمال المدرسة ليست مجرد طرائف تاريخية، وإنما هي مما لا غنى عنه لفهم عصرنا. تحليلاتهم للشمولية، مثلاً، لا سيما التوازي الذي رسموه بين صناعة الثقافة الأميركية في منتصف القرن واستعمال غوبلز الشمولي للبروباغاندا لفرض الانسجام والصمت، تلك التحليلات لا تزال فوق أهميتها تنبؤية أيضاً كما يراها البعض: «أدركت مدرسة فرانكفورت أن ترمب قادم»، حسبما جاء في عنوان مثير في مجلة «نيويوركر» عام 2016.
نظراتهم العميقة للنزعة الاستهلاكية والتضحية البشرية على معبد التسوق هي الآن في قلب الحدث. كتب أدورنو وهركهايمر في «جدل التنوير» (1944): «يتمثل انتصار الإعلان في صناعة الثقافة في أن المستهلكين يشعرون بأنهم مرغمون على الشراء واستعمال منتجاتها على الرغم من إدراكهم لحقيقتها». منذ كتبا تلك الكلمات صارت النزعة الاستهلاكية، الكارهة لذاتها، أكثر وضوحاً. كلنا نعلم أن استعمال «أمازون برايم» يجعلنا شركاء في استغلال العمال، لكنّ ذلك لا يثنينا عن الاستمرار. نمتلك مهارات عالية في رفض الاستهلاكية. كما أن تحليلهم لمعاداة السامية ما زال محتفظاً بقوته النقدية أيضاً. يكتب أدورنو وهوركهايمر: «وهكذا يصرخ الناس: امسكوا اللص! –لكنهم يشيرون إلى اليهود. إنهم الضحايا ليس فقط للمناورات والخدع الفردية، وإنما، بصفة عامة، بقدر ما يُعزى ظلم الطبقة كلها إليهم».
لكن ثمة ما نحتاج إلى تعلمه من مدرسة فرانكفورت، مع أنه أمر علّموه على نحو سلبي: مخاطر استراتيجية البيات الشتوي. يقول جي عن بطله أدورنو إنه في أعماقه «أصر على الحفاظ على أمل طوباوي، مقاوم لفشل كل المحاولات التي بُذلت لتحقيقه، أن من الممكن إنهاء هيمنة الذات المؤسِّسة». غير أن الأمل بلا فعل أدى إلى هالة ثقة البرج العاجي المفرطة التي لطالما خيّمت على مدرسة فرانكفورت. قال أدورنو في إحدى المقابلات خلال اشتداد الثورات الطلابية: «لقد أسست نظام فكرٍ نظرياً. هل كان من الممكن لي أن أتوقع أن يرغب الناس في تطبيقه بقنابل المولوتوف؟» كان أدورنو محقاً دون شك في إشارته إلى أوجه القصور في التمرد الطلابي، لكنه كان محبِطاً في تراجعه المدروس إلى النظرية بعيداً عن وطيس المعركة.
الذي كشف مدرسة فرانكفورت أكثر من غيره كان برتولد بريخت. بالنسبة إليه ابتدأت المجموعة كثوريين سعوا إلى اقتلاع الرأسمالية لكنهم تحولوا إلى مثقفين منعزلين. بعد أن حُكم عليهم أن يعيشوا في عالم مهووس بالتطلع إلى ما سماه هيغل «الروح الجميلة»، أمضوا حياتهم ينضدون إدانات غاضبة للمجتمع يوجهونها لقراء يشبهونهم في التفكير بدلاً من السعي إلى تغيير ذلك المجتمع. لقد أحدثوا تغييراً ضئيلاً في العالم بدلاً من أن يغيّروه أكثر مما ينبغي، حسبما قال موظفو مجلس الأمن الوطني لترمب.

* مجلة «نيوستيتزمان»
NewStatesman UK
18 أغسطس 2021

مارتن جي



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟