272 رسالة حب من بول إيلوار لحبيبته غالا

كتاب جديد يكشف لماذا مزّقها فيما احتفظت هي بها

إيلوار (يسار) كانت له علاقات وثيقة مع رسامي عصره مثل ماكس أرنيست وبيكاسو وبريتون وغيرهم
إيلوار (يسار) كانت له علاقات وثيقة مع رسامي عصره مثل ماكس أرنيست وبيكاسو وبريتون وغيرهم
TT

272 رسالة حب من بول إيلوار لحبيبته غالا

إيلوار (يسار) كانت له علاقات وثيقة مع رسامي عصره مثل ماكس أرنيست وبيكاسو وبريتون وغيرهم
إيلوار (يسار) كانت له علاقات وثيقة مع رسامي عصره مثل ماكس أرنيست وبيكاسو وبريتون وغيرهم

في السنوات الأخيرة من حياة الشاعر الفرنسي بول إيلوار 1895 - 1952. قلت رسائله إلى زوجته السابقة غالا، التي كان يعتبرها «الضياء الوحيد» في حياته، وكان يكتب لها قائلاً: «نحن لم ننفصل تماماً» مع أن غالا قد تركته منذ نحو عشرين عاماً.
في رسائله الأخيرة كتب لها: «علينا ألا نترك أي أثر لعلاقتنا الحميمة، ولهذا السبب قررت تمزيق كل رسائلك»... في حين أن غالا التي ارتبطت بالرسام السريالي سلفادور دالي منذ عام 1929. كانت تحتفظ بكل رسائله التي ورثتها لابنتها من إيلوار بعد وفاتها عام 1982. وقامت دار النشر «أناودي» الإيطالية بنشر ترجمة هذه الرسائل في كتاب يضم نحو 272 رسالة حب، تتحلى بقيمة توثيقية، تغوص حتى في مرحلة غنية من تاريخ الفن والأدب في فرنسا.
إيلوار كان يتوسط، كما هو معروف، الحركة السريالية الفرنسية، وكانت له علاقات وثيقة مع رسامي عصره مثل ماكس أرنيست وبيكاسو وبريتون وغيرهم، ومن هنا تجيء أهمية رسائله التي تسلط الأضواء على تلك المرحلة الخصبة ومعاصريها الكبار. ولكن يظل الحب المحور الرئيسي لرسائله، والذي يكتبه إيلوار بأسلوبه النثري الجميل، ويذكر في إحدى رسائله من عام 1929: «ما من حياة هناك، وإنما حب فقط. دون حب، يضيع... يضيع كل شيء وإلى الأبد»... وتحمل سطور رسائله، تلك النبرة الأقرب إلى الحس بالكآبة واليأس، وكأنما يخاطب الخواء، ويحاول تجاوز فراقه لغالا من خلال الكتابة، التي تظل مفتوحة، دونما جواب، لأنه وكما يبدو قد مزّق جميع رسائل غالا بالفعل، إلا بعض الرسائل من عام 1916 التي أرسلتها غالا إليه أثناء تعارفهما الأول. وهي رسائل تعكس ثراءً كبيراً في اللغة ودفء التعابير.
ففي عام 1912 التقى إيلوار الذي كان يبلغ 17 عاماً، ابنة العائلة الروسية النبيلة، «إيلينا دياغونوفا» في مصح لعلاج الأمراض الصدرية في سويسرا، ونشأت منذ ذاك علاقة حب بينهما انتهت بزواجهما عام 1917. بعد فترة بدأت أحاسيس المعاناة والخوف تداهمه، لظنه بأنه سيفقد غالا يوماً ما. فقد كان يقول لها «مدّي لي يد الحب، إذا كنت تشاءين، تنعمي بحريتك، هذه الحرية التي أريد منحك إياها، كما لم يجرؤ أحد على ذلك». أما غالا فقد جسدت أحاسيسه هذه إلى واقع طالما كان يخشاه فأخذت تقضي شهوراً طويلة في سويسرا بصحبة أحد الأشخاص، وهي لا تريد رؤية زوجها.
وفي تلك الفترة كان إيلوار يكتب لها رسائل غرامية حول علاقاته مع النساء وارتياده دور السينما التي تعرض أفلاماً (إباحية) والتي يعتبرها إيلوار مجرد تعويض لحبه الكبير لغالا. وقد كان يسمي تلك الأفلام بـ«الفن الوحشي»، ويدعو زوجته إلى مشاركته برؤية هذا الفن. أما النقاد فقد اعتبروا هذه الرسائل، بمثابة خروج عن التقاليد البرجوازية التي كانت سائدة آنذاك... ولها طابع مميز، حتى بالنسبة للعلاقات ضمن الوسط الفني... ويسري البعض الآخر، لو أن الغيرة رافقت هذا الحب، لاتخذ مصيراً درامياً، خصوصاً بعدما رحلت غالا مع دالي نهائياً وتركت إيلوار وحيداً. وتتطرق رسائل إيلوار إلى موجة السريالية، ومن عاصره من الرسامين ومشاكله العديدة مع معاصريه الآخرين. فمثلاً كان إيلوار يسمي «ماكس أرنيست» في رسائله بـ«الخنزير»، وذلك لأنه اختلف معه ذات مرة في منزل رائد السريالية (أندريه بريتون)، وسدد إليه لكمة قوية على عينيه حيث تحولتا في اليوم التالي، إلى هالة زرقاء اللون. وهو يقول بهذا الصدد: «لقد بدت عينه مقرفة للغاية، تصوري، أن شاعراً مثلي يضطر إلى استخدام وسائل الملاكمين لحل مشاكله مع صديق».
إيلوار يعتبر أرنيست أحد رواد المدرسة الدادائية، أحد أهم وأعز أصدقائه.. «ولكني لن أراه بعد الآن أبداً». بعد فترة وجيزة ذهب إيلوار مع بريتون وأرنيست لحضور افتتاح مسرحية (هيلينا الجميلة). أما غالا التي كانت تتحفظ بكل كلمة يكتبها، فتزوجت سلفادور دالي عام 1935... الأمر الذي جعل إيلوار يتزوج بدوره... وقد كان يقتني آنذاك كافة التحف الفنية الثمينة التي تعود للحضارات البدائية القديمة، واللوحات الفنية والبطاقات البريدية القديمة لأنه ذكر في إحدى رسائله إلى غالا، فيما لو مات دالي أو داهمه الجنون، فلن يكون لديك مورد تعيشين منه، فوالده سيرث كل شيء حتى اللوحات المهداة إليك... فتصوري يا لها من فكرة بغيضة...
ولكن إيلوار لا يعتبر دالي مجنوناً وإنما بالعكس يقدره كفنان وكشخص وقد كتب له قصيدة، وبعث له ذات مرة من مشفاه يطالبه بإرسال بعض التخطيطات، لكي تنقذه ولو لفترة مؤقتة من إلحاح الممرضات. إيلوار يتقبل دالي «كما هو» رغم علاقته بغالا ومواقفه الدوغمائية أثناء الحرب العالمية الثانية ومن الحياة عموماً. ورغم أنه لا يتفهم شعر إيلوار، لكنه يظل ذلك الرفيق الذي يقدم نفسه وروحه عارية كما هي، دونما رتوش، وهو ذلك الإنسان الذي لا يمكن أن يكون عدواً حتى لو تعلق الأمر بغالا «حب إيلوار الوحيد»، الذي بقي وفيّا له طيلة حياته.
بول إيلوار هو أحد المؤسسين للمذهب الأدبي السريالي في فرنسا، مع الشاعر آراجون وآخرين، لكنه اختلف فيما بعد مع هذه المجموعة وانقطع عنها كلياً في عام 1938.كتب الشعر في سن مبكرة، ونشر أولى قصائده عام 1913 وعمره 18 عاماً. وتعتبر قصيدته «أكتب اسمك أيتها الحرية» نشيداً عالمياً ملهماً لكل المناضلين من أجل الحرية والسلام في العالم، وقد ترجمت هذه القصيدة إلى العديد من اللغات ومنها اللغة العربية.
يتميز أسلوب إيلوار الشعري بقصر القصائد وكثافتها، وبمحتواها الإنساني المفعم بمشاعر الحب والرقة والحماسة النضالية. وظف قريحته الشعرية لنصرة المقاومة ورفدها بالمقاومين أيام الاحتلال الألماني النازي لبلاده فرنسا، كما استخدم الشعر في الدفاع عن المحرومين والمضطهدين، وفي نبذ الحروب ومشعليها، وما تخلفه من مآسٍ ودمار. ومن أشهر قصائده لتمجيد المقاومة، قصيدة «كابرييل بيري»:
«مات رجل لا يملك
للدفاع عن نفسه
غيرَ ذراعيه المفتوحتين
على الحياة
مات رجل ليس له طريقاً آخر
غير الطريق حيث البنادق منبوذة
مات رجل مستمراً في النضال
ضد الموت وضد النسيان
لأن كل ما أراده هو
أردناه نحن كذلك
ونريده اليوم
أن تكون السعادة ضياء
في العيون وفي أعماق القلوب
وعلى الأرض تكون العدالة}



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.