«مسارات الحداثة» في أعمال 25 شاعراً عربياً

شوقي بزيع يقرأ تجارب «الشعراء المؤسسين»

«مسارات الحداثة» في أعمال 25 شاعراً عربياً
TT

«مسارات الحداثة» في أعمال 25 شاعراً عربياً

«مسارات الحداثة» في أعمال 25 شاعراً عربياً

في كتابه الجديد «مسارات الحداثة، قراءة في تجارب الشعراء المؤسسين»، الصادر عن «دار الرافدين» في بيروت، يتتبع الشاعر شوقي بزيع سير وأعمال مجموعة من الشعراء، لكل منهم «إيقاعه وحساسيته وطريقته في استخدام اللغة ومقاربة الأشياء». الاختيار لم يأتِ اعتباطيا، بل جاء تبعا للأدوار المؤثرة والطليعية التي لعبها كل منهم، «في نقل الشعرية العربية من طور إلى طور، وفي دفع الذائقة الجمعية للانقلاب على معاييرها السابقة». ثمة إذن، مقياس للاختيار، وبالتالي رؤية خاصة لبزيع في انتقائه للنماذج التي وضعها تحت مجهره النقدي. وهو في مهمته هذه، على وعي بأن ثنائية الشاعر - الناقد التي يمارسها، تضعه أمام «مهمة صعبة أقرب إلى المجازفة غير الآمنة» كما جاء في مقدم الكتاب. لكنه يشرح أيضاً بأن «في داخل كل شاعر ناقداً مستتراً» وأن الشاعر ناقد من نوع مختلف، لأنه يحكم على التجارب من خلال ذائقته الجمالية وحساسيته واختباره الشخصي وسعة الاطلاع.
ورغم أن عنوان الكتاب عن الشعراء المؤسسين إلا أن حيزا مهما منه خصص لموضوع الحداثة، حيث قدم بزيع دراسة مستفيضة أعاد من خلالها تعريف وتوضيح، مفهوم الحداثة، الذي كلما زدته شرحا أوغلت في غموضه. بعد التعريفات والمرور على أهم النقاد والأدباء الذين حاولوا تحديد معنى الحداثة وتاريخها والولوج إلى تعقيداتها، نخلص إلى أن ثمة من يرى فيها آثاراً آتية من الشرق، ومنهم من اعتبروها غربية خالصة. فمفهوم الحداثة لم يكن يوماً واحداً بالنسبة للمجتمعات المختلفة، على أي حال. ولا يوجد تاريخ متفق عليه لقيام الحداثة، ولا مقاربة واحدة لفهمها، فهي «صراع على أرض ملغزة». وإذا كانت الحداثة ملتبسة في الغرب فهي حين وصلتنا صارت عندنا أكثر تعقيدا. لأننا بحسب بزيع، لم ندخل الحداثة أصلاً، حتى المعدات والتقنيات نستخدمها بروح تقليدية. لذلك فإن السؤال الكبير هو «هل بالإمكان إنتاج أدب وإبداع حديثين في مجتمعات العالم الثالث التي لا تملك من الحداثة إلا قشرتها السطحية؟». ربما هذا هو السؤال الذي يحاول بزيع الإجابة عنه من خلال قراءة من يعتبرون رواداً في الشعر الحديث. حوالي 25 شاعراً قرأ بزيع تجاربهم قارناً السيرة بالنتاج، عاكفاً على استبطان هذه الحيوات الإبداعية على طريقته الخاصة.
سعيد عقل من المؤسسين بالنسبة لبزيع، لأنه وإن افترق عن الحداثة في اهتمامها بالتفاصيل، كما بالمعيش واليومي والهامشي، يلتقي معها في الخروج على رتابة القول الشعري النمطي والمستهلك، وفي البحث عن منظور للكتابة يحتفي بالجديد والطازج والمغاير إلى حد الإدهاش. وهو حديث كذلك بسبب تراكيبه وصياغاته واشتقاقاته التي لم يسبقه إليها أحد. وهو «بوصوله بالنموذج الخليلي إلى ذراه الأخيرة، سهل طريق التغيير لجيل جديد من الرياديين الذين بادروا عبر شعر التفعيلة إلى خلخلة البيت الشعري وأنساقه الإيقاعية الرتيبة».
يدافع بزيع أيضاً عن اختياره نزار قباني رغم أن البعض يسفه تجربته، وهو يعتبره «شاعراً ريادياً تأسيسياً... اجترح حداثته الخاصة التي لا تمتح من مياه الآخرين... وأحد الرواد القلائل الذين وسعوا ذلك الطريق إلى حدوده القصوى، وأخرجوا فن الشعر من عزلته المتفاقمة ليعود على يديه ديوان العرب وخبزهم اليومي ومثار افتتانهم باللغة».
وبالطبع في الكتاب بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، اللذان دار سجال نقدي حول أيهما كانت له الأسبقية في ريادة الشعر الحر. هل هي الملائكة بقصيدتها «الكوليرا» أم السياب بقصيدة «هل كان حباً؟» بالنسبة لبزيع، ريادة السياب محسومة، وهي متأتية «من فرادة تجربته وقوة مخيلته وأسلوبه، كما من سطوة لغته البالغة على الأجيال الشعرية اللاحقة». وبالتالي فإن السياب أحق بالريادة بمعناها العميق الذي لا يجب أن يخضع للمصادفات والأحداث العرضية. فنازك الملائكة «ظلت أسيرة تمزقها المستمر بين تشبثها بالتقاليد الموروثة والانقلاب عليها»، ربما بسبب نشأتها المحافظة التي رسخت في داخلها نزوعاً إلى التهذيب والخفر اللذين لازماها مدى الحياة. لكن مواطنهما البياتي لم يقاوم اسمه ولا شعره مرور السنين، وأصبح ذكره خافتاً حد النسيان، مع أنه كان مع السياب والملائكة، من أكثر رواد الحداثة شهرة. هل السبب هو ترويجه المفرط لنفسه في حياته؟ أم أنه كان ظاهرة إعلامية ماركسية آيديولوجية خبا وهجها؟ أم هو كثرة الهجاء اللاذع للكثير من زملائه الشعراء الذين سرعان ما انفضوا عنه؟ كل هذه الأسباب قد لا تفي للعثور على إجابة قاطعة؟ وقد يكون أحد الأسباب هو «تغييب واضح للذات الفردية في مشاعرها الحميمة وهواجسها المحتدمة لمصلحة الأنا الجمعية التي تضغط بثقلها على الشاعر، الذي يستمرئ من جهته، كونه منشد الجماعة وحادي أفراحها وأتراحها».
يمر بزيع على بلند الحيدري صاحب «الهوية المثلومة والقصيدة المشظاة»، الذي لم يضم حتى إلى أصحاب الريادة الثلاثة من مواطنيه «السياب، الملائكة والبياتي» ويكاد يطويه النسيان. لا يدخر الكاتب جهدا ليبحث عن مكامن القوة في شعر الحيدري، كما مكامن الضعف معتبراً أنها «لا تقلل أبدا من قيمة الشاعر وفرادة لغته وأسلوبه ومقاربته للعالم، ولا يبرر بأي حال، ما ألحقه به النقاد من غبن وإجحاف».
بالطبع لا يستوي الكلام على المؤسسين دون المرور بأدونيس آخذاً بعين الاعتبار الشاعر كما المنظر والأستاذ الجامعي الذي تتلمذ بزيع على يديه في الجامعة اللبنانية، وكان كما بقية طلابه الذين يتابعون الحوارات معه خارج الصف، ويلاحقون أنشطته كما أنه فتح لهم صفحات مجلة «مواقف» التي أسسها بعد توقف «شعر». وفي الكتاب حكاية محاربة أدونيس حين كان أستاذا في «الجامعة اللبنانية» لأنه لا يحمل شهادة دكتوراه، فحول كتابه «الثابت والمتحول» إلى أطروحة وناقشها في الجامعة اليسوعية، وحصل على ما أراد. وأدونيس متميز كشاعر لأسباب عدة من بينها أنه «نظر إلى الشعر بوصفه مساءلة للوجود ومشروعاً لتغيير العالم واستيلاداً للذات من رحم المكابدات الداخلية والصراع مع اللغة». وهو كمنظر لم يربط الحداثة بالتأخر الزمني ولا بالشكل بل بالرؤيا والمقاربة والمشروع، و«لم يقوض أسس النحو العربي بحجة تفجير اللغة أو تمجيد الركاكة كما فعل البعض». والحقيقة الوحيدة في الشعر عنده «هي التحول المستمر والحركة التي لا تهدأ».
ولصلاح عبد الصبور «صاحب الإنجازات النوعية على مستويات الشعر والنقد والمسرح الشعري، وهو المبدع المتعدد، المثقف، التنويري الموسوعي» مكان في التأسيس والريادة. ويشبه بزيع مأساته الشخصية بمأساة الحلاج، مذكرا بمواقفه السياسية التي قد يكون دفع ثمنها حياته، حيث لم يحتمل قلبه اتهامه بالتطبيع. يومها وافقت مصر على مشاركة إسرائيل في معرض الكتاب، وكان هو رئيس الهيئة العامة للكتاب ولم يستقل، كما لم يتمكن من تحمل نظرة الاتهام من زملائه المثقفين، فتوقف قلبه عن النبض. وفي الكتاب صفحات عن شوقي أبو شقرا «صياد الدهشة وشاعر العبث الطفولي» الذي لعب أدوراً محورية سواء في مجلة «شعر» أو من خلال عمله في «الزمان» و«النهار». وصفحات أخرى عن أنسي الحاج صاحب «اللغة الجحيمية» الذي تنافس نصوصه النثرية شعره.
خمسة وعشرون شاعراً يشرح الكاتب أعمالهم ومساراتهم، من بينهم أحمد عبد المعطي حجازي، سعدي يوسف، محمد الفيتوري، محمد الماغوط، يوسف الخال، توفيق صايغ، عصام محفوظ، محمد عفيفي مطر، محمود درويش، أمل دنقل، حسب الشيخ جعفر، مظفر النواب وسركون بولس. هو كتاب مرجعي، يستقي معلوماته بدقة، ويوثق بالعودة إلى المصادر، ليقدم للقارئ إطلالة نقدية مغايرة لشاعر، لم يعف نفسه من المعرفة والتبحر وهموم البحث العميق والجاد.



نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

النصبان الجنائزيان
النصبان الجنائزيان
TT

نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

النصبان الجنائزيان
النصبان الجنائزيان

يحتل الفن الجنائزي حيزاً واسعاً من ميراث أقاليم شبه الجزيرة العربية، وتتميّز جزيرة البحرين في هذا الميدان بنتاج نحتي تصويري يعود إلى القرون الميلادية الأولى، لا نجد ما يماثله في الحواضر المجاورة لها. خرج هذا النتاج من الظلمة إلى النور خلال العقود الأخيرة، وتمثّل في مجموعة كبيرة من شواهد القبور المزينة بنقوش تصويرية آدمية، عُثر عليها في سلسلة من المدافن الأثرية، أبرزها مقبرة الشاخورة. تعكس الشواهد التي خرجت من هذه المقبرة التعدّدية في الأساليب الفنية التي طبعت هذا النتاج البحريني المميّز، وتتجلّى هذه الخصوصية في نصبين ظهرا جنباً إلى جنب في معرض أقيم منذ سنوات في متحف البحرين الوطني تحت عنوان «تايلوس رحلة ما بعد الحياة».

افتتح هذا المعرض في مطلع مايو (أيار) 2012، وضمّ ما يقرب من 400 قطعة أثرية مصدرها مقابر أثرية أقيمت في مستوطنات متعددة تقع اليوم في مملكة البحرين. حوى هذا المعرض مجموعات عدة، منها مجموعة من الأواني الفخارية والحجرية والزجاجية والرخامية، ومجموعة الحلى والمصوغات المشغولة بالذهب والفضة والأحجار المتنوعة، ومجموعة من المنحوتات الجنائزية، منها قطع تمثل شواهد قبور، وقطع على شكل منحوتات ثلاثية الأبعاد من الحجم الصغير. كما يشير العنوان الجامع الذي اختير لهذا المعرض، تعود هذه القطع إلى الحقبة التي عُرفت بها البحرين باسم تايلوس، وهو الاسم الذي أطلقه المستكشفون الإغريق على البحرين، كما أنه الاسم الذي اعتُمد للتعريف بحقبة طويلة تمتد من القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن الثالث بعد الميلاد. ويجمع بين هذه القطع أنها خرجت كلها من المقابر، أي أنها تحمل وظائفية جنائزية، وتُمثل «رحلة ما بعد الحياة»، أي رحلة إلى ما وراء الحياة الأرضية التي تقود بانقضائها إلى حياة أخرى، يصعب تحديد معالمها في غياب النصوص الأدبية الخاصة بها.

حسب قدامى كتّاب الإغريق، أطلق المصريون القدماء على مقابرهم اسم «مساكن الأبدية»، وتردّد هذا الاسم في صيغ مختلفة عبر أنحاء العالم القديم على مر العصور، كما يُجمع أهل العلم. من هذه المساكن الأثرية في البحرين، خرجت شواهد قبور نُحتت على شكل أنصاب آدمية من الحجم المتوسط، تطوّر شكلها بشكل كبير خلال القرون الميلادية الأولى. اختار منظّمو معرض «رحلة ما بعد الحياة» مجموعة من هذه الأنصاب تختزل هذه الجمالية المتعدّدة الفروع، منها نصبان يتشابهان بشكل كبير من حيث التكوين الخارجي، غير أنهما يختلفان من حيث الأسلوب، ويظهر هذا الاختلاف بشكل جلي في صياغة ملامح الوجه. خرج هذان النصبان من مقبرة الشاخورة، نسبة إلى قرية تقع شمال العاصمة المنامة، تجاورها قريتان تحوي كل منهما كذلك مقبرة أثرية خرجت منها شواهد قبور آدمية الطابع، هما قرية الحجر وقرية أبو صيبع.

يتميّز نصبا الشاخورة بانتصابهما بشكل مستقل، على عكس التقليد السائد الذي تبرز فيه القامة الآدمية بشكل ناتئ فوق مساحة مستطيلة مسطّحة. يبدو هذان النصبان للوهلة الأولى أشبه بمنحوتتين من الطراز الثلاثي الأبعاد، غير أن سماكتهما المحدودة تُسقط هذه الفرضية. يبلغ طول النصب الأكبر حجماً 45 سنتيمتراً، وعرضه 18 سنتيمتراً، ولا تتجاوز سماكته 9 سنتيمترات. يمثل هذا النصب رجلاً ملتحياً يقف بثبات، رافعاً يده اليمنى نحو الأعلى، وفاتحاً راحة هذه اليد عند طرف صدره. يثني هذا الرجل ذراعه اليسرى في اتجاه وسط الصدر، مطبقاً يده على شريط عريض ينسدل من أعلى الكتف إلى حدود الخصر. يتألف اللباس من قطعة واحدة، تتمثل بثوب فضفاض، يزيّنه شريط رفيع ينسدل من أعلى الكتف اليمنى، مع حزام معقود حول الخصر تتدلّى منه كتلتان عنقوديتان عند وسط الحوض. يقتصر الجزء الأسفل من النصب على أعلى الساقين، ويمثل الطرف الأسفل من الثوب، وهو على شكل مساحة مسطّحة يزيّنها شريطان عموديان رفيعان ومتوازيان.

يُمثل النصب الآخر رجلاً يقف في وضعية مماثلة، وهو من حجم مشابه، إذا يبلغ ارتفاعه 36 سنتيمتراً، وعرضه 15 سنتيمتراً، وسماكته 10 سنتيمترات. تتميّز يدا هذا الرجل بحجمهما الكبير، وتبدو راحة يده اليمنى المبسوطة بأصابعها الخمس وكأنها بحجم رأسه. يتبع اللباس الزي نفسه، غير أنه مجرّد من الشرائط العمودية الرفيعة، والحزام المعقود حول خصره بسيط للغاية، وتتدلّى من وسط عقدته كتلتان منمنمتان خاليتان من أي زخرفة. يتشابه النصبان في التكوين الواحد، وهو التكوين الذي يتكرّر في شواهد القبور البحرينية الخاصة بالرجال والفتيان، على اختلاف أعمارهم ومهامهم الاجتماعية. وهذا التكوين معروف في نواحٍ عديدة من العالم الفراتي، كما هو معروف في نواحٍ عدة من البادية السورية وغور الأردن، ويُعرف بالطراز الفرثي، نسبة إلى الإمبراطورية التي نشأت في إيران القديمة، وأبرز عناصره اللباس المؤلف من قطعة واحدة مع زنار معقود حول الوسط، وراحة اليد اليمنى المبسوطة عند أعلى الصدر.

يخلو هذا التكوين الجامع من أي أثر يوناني، حيث تغلب عليه بشكل كامل وضعية السكون والثبات، بعيداً من أي حركة حية منفلتة، ويظهر هذا السكون في ثبات الوجه المنتصب فوق كتلة الكتفين المستقيمتين، والتصاق الذراعين بالصدر بشكل كامل. من جهة أخرى، تعكس صياغة الملامح الخاصة بكلّ من الوجهين. رأس النصب الأول بيضاوي، وتجنح صياغة ملامحه إلى المحاكاة الواقعية، كما يشهد الأسلوب المتبع في تجسيم العينين والأنف والفم. أما رأس النصب الثاني فدائري، وتتبع صياغة ملامحه النسق التحويري التجريدي الذي يسقط الشبه الفردي ويُبرز الشبه الجامع، ويتجلّى ذلك في اتساع العينين اللوزيتين، وتقلّص شفتي الثغر، وبروز كتلة الأنف المستقيم.

أُنجز هذان النصبان بين القرن الثاني والقرن الثالث للميلاد، ويمثّلان فرعين من مدرسة محليّة واحدة برزت في البحرين وازدهرت فيها، والغريب أن أعمال التنقيب المتواصلة لم تكشف بعد عن نحت موازٍ في نواحٍ خليجية مجاورة لهذه الجزيرة، شكّلت امتداداً لها في تلك الحقبة.