بترايوس: التهديد الأخطر للمنطقة ليس من «داعش» بل من ميليشيات إيران

القائد السابق للقوات الأميركية في العراق أعترف بالأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة والعراقيون بعد حرب 2003

الجنرال ديفيد بترايوس
الجنرال ديفيد بترايوس
TT

بترايوس: التهديد الأخطر للمنطقة ليس من «داعش» بل من ميليشيات إيران

الجنرال ديفيد بترايوس
الجنرال ديفيد بترايوس

التزم قائد القوات الأميركية في العراق السابق ديفيد بترايوس الصمت خلال الأشهر الماضية وبعد استقالته من منصب رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، إلا أنه تحدث في حوار نادر عن الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة في العراق وعن خشيته من الدور الإيراني والميليشيات التي تدعمها طهران في العراق. وظهر بترايوس في العراق فجأة قبل أسبوع للمشاركة في «منتدى السليمانية» الذي استضافته الجامعة الأميركية في العراقي بمدينة السليمانية. ووافق على إجراء حوار مكتوب، وفي ما يلي أبرز ما جاء فيه:
> كيف كان شعورك عندما عدت للعراق بعد غياب دام 4 سنوات؟
- لقد اكتسبت معرفة قوية عن العراق، فهو ذلك المكان الذي قضيت فيه بعضًا من أهم سنوات حياتي؛ لذا كانت تجربة العودة مثيرة للمشاعر بعد زيارتي الأخيرة له في ديسمبر (كانون الأول) في 2011 بصفتي مديرًا لهيئة المخابرات المركزية (سي آي إيه).
لقد شعرت بالامتنان عندما أتيحت لي فرصة العودة لكي أطمئن على أصدقاء ورفاق عرفتهم منذ زمن طويل.
ومن المستحيل العودة للعراق دون أن يخالجك إحساس ملح بالفرص المهدرة ومن ضمنها تلك الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة، وتلك التي ارتكبها العراقيون أنفسهم، ومن بينها تضييع الكثير مما قمنا به نحن والتحالف وشركاؤنا من العراقيين ودفعنا ثمنا باهظا لنحصل عليه ومنها استمرار فشل القادة السياسيين في العراق إزاء النزاعات السياسية المستمرة منذ سنوات واستغلال فشلهم من قبل المتشددين على المستوىين الطائفي والعرقي. إن ما أشعر به إزاء الموقف الراهن في العراق يمكن تلخيصه في عبارة ذكرتها عندما اضطررنا لزيادة عدد القوات على الأرض في العراق، فحينها قلت إن الموقف في العراق صعب، ولكن ليس لدرجة ميؤوس منها. فما زلت أعتقد أنه بالإمكان الحصول على نتائج مقبولة إلا أن هذا يعتمد علينا جميعًا، أعني العراقيين والأميركيين وقادة المنطقة وقادة دول التحالف، كي نعمل معًا لتحقيق تلك النتائج.
> لقد كنت شاهدًا على التقدمات التي حققتها «القاعدة» في العراق بين 2007 و2008، كيف هو شعورك الآن وأنت ترى الأمر يتكرر مرة أخرى على أيدي «داعش»؟
- ما حدث في العراق كان مأساة بالنسبة للعراقيين والمنطقة والعالم أجمع، إنها مأساة لأن الأمر ما كان يجب أن ينتهي على هذه الحال في المقام الأول، فالتقدم الذي حققناه بعد زيادة أعداد القوات استمر تأثيره الإيجابي طوال ثلاث سنوات، ولكن ما حدث بعدها وبالتحديد في أواخر 2011 كان نتيجة أخطاء وسوء تقديرات كانت عواقبها متوقعة وهناك الكثيرون الذين يتحملون مسؤولية ذلك، ولكن على الرغم مما حدث ومن الذكريات المريرة التي بقيت في الأذهان إلا أنني أعتقد أن العراق وقوات التحالف حققت تقدمًا كبيرًا ضد «داعش» لدرجة تدفعني لأن أجزم بأن التهديد الأخطر الذي يلوح في سماء العراق ويهدد استقراره واستقرار المنطقة على المدى البعيد لا يتمثل في «داعش»، بل في الميليشيات الشيعية التي تدعم إيران الكثير منها وتقود البعض الآخر.
لقد عادت هذه الميليشيات إلى الظهور في شوارع العراق استجابة لفتوى أدلى بها المرجع الشيعي السيستاني في لحظة كانت تتعرض فيها البلاد لخطر محقق وتمكنت تلك الميليشيات من إيقاف زحف «داعش» على بغداد، ولكنهم في أثناء ذلك لم يتمكنوا فقط من التخلص من المتشددين السنة، بل ومن المدنيين السنة، فارتكبوا فظائع بحقهم؛ لذا يمكننا القول إن تلك الميليشيات كانت بمثابة المخلص للعراق من تهديدات «داعش»، ولكنها مثلت أيضا تهديدًا خطيرًا لكل المجهودات الكبيرة التي بذلت لجعل سنة العراق يشعرون بأن لهم نصيبا في نجاح العراق بدلاً من فشله.
على المدى البعيد، من الممكن أن تصبح تلك الميليشيات الشيعية التي تدعمها إيران قوة كبيرة في العراق وتخرج عن سيطرة الحكومة العراقية فتصبح خاضعة لسيطرة إيران فقط.
وبعيدًا عن العراق، أشعر بالقلق العميق أيضا إزاء الأزمة السورية المستمرة، والتي تعد من وجهة النظر الجيوسياسية بمثابة شرنوبل (الروسية) آخر، فحتى تتم السيطرة على الأوضاع هناك ستستمر الأزمة في بث أشعة الاضطرابات والتشدد الديني على أنحاء المنطقة بأكملها. لذا فإن أي استراتيجية لإعادة الاستقرار للمنطقة يجب أن تأخذ في الاعتبارات التحديات الموجودة في سوريا والعراق، فليس من الكافي أن نقول إننا سنتولى التصدي لتلك التحديات في وقت لاحق.
> ما الأخطاء التي وقعت؟
- السبب المباشر للأزمة التي يمر بها العراق حاليًا هو تعاظم تسلط وفساد وطائفية الحكومة العراقية ورئيس وزرائها (نوري المالكي) بعد رحيل آخر قوة أميركية مقاتلة في 2011 فتصرفات (المالكي) أهدرت أبرز الإنجازات التي نتجت عن زيادة أعداد القوات الأميركية في العراق، كما أدت تصرفاته إلى تهميش أبناء الطائفة السنية مما مهد للمرة الثانية بانتشار التشدد، وهو ما سهل في الأساس على «داعش» الاستيلاء على مساحات كبيرة في العراق. قد يجادل البعض قائلاً إن ما حدث لم يكن من الممكن تجنبه وأن العراق كان على موعد مع السقوط بسبب الطبيعة الطائفية المميزة للمجتمع العراقي، لكنني لا أوافق على هذا الرأي.
مأساة العراق تتلخص في فشل قادته السياسيين بدرجة كبيرة في تحقيق تطلعات الشعب العراقي ولا يوجد من يتحمل القسط الأكبر في المسؤولية عن هذا الفشل سوى المالكي.
أما بالنسبة للدور الأميركي فيما حدث، فهناك من يتساءل إذا ما كان بالإمكان تجنب ما حدث إذا أبقينا على 10 آلاف جندي هناك؟ لا أعرف إجابة لهذا السؤال فأنا بالطبع كنت أتمنى لو وضعنا هذا التساؤل محل الاختبار وأبقينا على جزء كبير من القوات على الأرض.
وعلى نفس المنوال، هل لو ضغطنا من أجل إبعاد المالكي عن صدارة المشهد السياسي العراقي في 2010 كانت الأمور ستنتهي لوضع أفضل؟ من المستحيل معرفة إذا ما كانت هذه الترتيبات ستؤدي إلى وضع أفضل، ولكنني متأكد من أن وجود شخصية أخرى على رأس الحكومة في العراق كان سيحدث تغييرًا كبيرًا حسب هوية هذه الشخصية بالطبع.
أعتقد أنه يتعين علي أن أتحدث بصورة مفصلة عن الطريقة التي تعاطينا بها مع الأحداث في العراق والمنطقة أثناء السنوات القليلة الماضية، لقد كان هناك شعور سائد في واشنطن بضرورة إبقاء الشأن العراقي بعيدًا عن أولويات السياسة الأميركية وأنه مهما حدث في العراق يجب عدم النظر إليه باعتباره أمرًا هامًا بالنسبة للأمن القومي الأميركي وأنه بإمكاننا أن نركز انتباهنا على تحديات أهم بالنسبة لنا. لقد كان من السهل تفهم هذا الشعور بعد التكلفة الباهظة إلى تكبدناها في العراق والإحباطات الهائلة التي واجهناها هناك.
وسادت نفس تلك النظرة إزاء الحرب الدائرة في سوريا، فلم يخالج واشنطن شعور بأن ما يحدث في سوريا على الرغم من فظاعته سوف يمثل تهديدًا على الأمن القومي الأميركي.
أعتقد، وحتى مع إدراكنا المتأخر لهذه الأخطاء، أننا لن نجد سوى قلة ممن يصرون على أنه كان بإمكاننا اتباع نهج مختلف عند التعاطي مع تلك الأحداث ففي حقيقة الأمر إذا كان هناك درس أتمنى أن نكون قد تعلمناه في خلال السنوات الماضية هو أن هناك صلة بين الأوضاع الداخلية في بلاد الشرق الأوسط وبين مصالحنا الأمنية الحيوية. وسواء كان من الإنصاف قول هذا أم لا، هناك في المنطقة من سيقول إن انسحابنا من العراق في أواخر 2011 ساهم في تضخيم تصور مفاده أن الولايات المتحدة تنسحب بعيدًا عن المشهد السياسي في الشرق الأوسط، وهذا التصور شكل عقبة كبيرة إزاء قدرتنا على إدارة دفة التطورات في المنطقة وحماية مصالحنا بصفة عامة.
هذه التصورات زعزعت من ثقة حلفائنا أيضا، بل وجعلت من الصعب لفترة من الوقت إقناعهم بمساندة جهودنا ومواقفنا مما سبب لنا إحباطات كبيرة بالطبع، فمن ناحية عملية ما زال لدينا مصالح كبيرة في المنطقة وقدراتنا الفعلية فيها ما زالت كبيرة جدًا، فلا «داعش» ولا إيران تمثلان عقبة هائلة يصعب علينا مواجهتها، ولكنه كان ذلك التصور الذي ساد المنطقة في السنوات القليلة الماضية بأن قوة الولايات المتحدة آخذة في الاضمحلال وأن قوة خصومنا أخذة في التعاظم. أتمنى أن نتمكن من البدء في الوقت الحالي في تغيير هذا التصور.
> ما تصوراتك عندما تشاهد قاسم سليماني، القائد بالحرس الثوري الإيراني والذي مول وسلح الميليشيات التي نسفت القوات الأميركية وقصفت السفارة الأميركية حينما كنت بداخلها، وهو يطوف في ميادين القتال كما كنت تفعل؟
- أجل، حاجي قاسم، صديقنا القديم. تدور الكثير من الأفكار برأسي حينما أشاهد صوره، غير أن غالبية تلك الأفكار ليست مناسبة بشكل ما للنشر في صحيفة. ما أود قوله هو أنه رجل متمكن للغاية وخصم ذو دهاء وجدير بالاحترام. إنه يقوم بدوره بمنتهى الفعالية. ولكنها لعبة طويلة بالفعل، لذا، دعونا نرى عما تتمخض عنه الأحداث.
إنه لأمر مثير للاهتمام أن نرى الطريقة التي صار بها سليماني على واجهة الأحداث في الشهور الأخيرة – يا له من تغيير لافت للانتباه بالنسبة لرجل ظل يعمل في الظل لفترة طويلة.
وبصرف النظر عن الدوافع، إلا أنه في الواقع تؤكد حقيقة مهمة للغاية: وهي أن النظام الإيراني الحاكم ليس من بين حلفائنا في منطقة الشرق الأوسط، بل إنه في نهاية المطاف ليس إلا جزءا من المشكلة، وليس الحل. فكلما اتسعت صورة الهيمنة الإيرانية على المنطقة، كلما استعرت نيران التطرف السني وزادت من صعود جماعات إرهابية مثل «داعش». وفي حين وجود قدر من المصالح المشتركة بين الولايات المتحدة وإيران في هزيمة داعش، إلا أن مصالحنا مختلفة على الصعيد الأوسع. إن الاستجابة الإيرانية لسياسة اليد الممتدة الأميركية لم تكن مشجعة بحال.
وبالتالي فإن القوة الإيرانية في الشرق الأوسط تعتبر من قبيل المشكلات المزدوجة. وهي ذات إشكالية عميقة نظرا لأنها ذات نزعة عدائية تجاهنا وتجاه أصدقائنا. كما أنها خطيرة كذلك بسبب، كما نشعر جميعا، أنها تأتي بردود فعل ضارة على مصالحنا – ومن بينها التطرف السني الحالي، وإذا لم نتخذ حذرنا، احتمال الانتشار النووي في المنطقة كذلك.
> كانت لديك بعض التفاعلات مع قاسم سليماني من قبل، أيمكن أن تخبرنا عنها؟
- في ربيع عام 2008، اشتبكت القوات العراقية وقوات التحالف فيما بدا بأنها معركة حاسمة بين القوات الأمنية العراقية والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران.
وفي خضم القتال، تلقيت كلمة من مسؤول عراقي رفيع المستوى تفيد بأنه قد تلقى رسالة من قاسم سليماني لأجلي. وعندما التقيت والمسؤول العراقي الكبير نقل لي الرسالة: «الجنرال بترايوس، يتعين إحاطتكم علما بأنني أنا، قاسم سليماني، المحرك الفعلي للسياسة الإيرانية حيال العراق، وسوريا، ولبنان، وغزة، وأفغانستان». إنه يسيطر على السياسة وعلى الأرض، مما يحتم علي التعامل معه. وحينما سألني محدثي العراقي عن رسالتي إلى قاسم، قلت له بأن يخبر سليماني بأنه يمكنه «سحق الرمال».
> إذا ما نظرت إلى ما حدث حينما غيرت موجة القوات الأميركية التي كانت تحت إمرتك من تيار الحرب، هل هناك من شيء وددت لو أنك فعلته بطريقة مختلفة؟
- هناك دائما تصرفات التي، وفق الاستفادة من تجاربنا السابقة، ندرك أننا قد أخطأنا الحكم فيها أو ربما كنا تصرفنا حيالها بأسلوب مغاير. هناك بالتأكيد قرارات، في سياق فترات انتشار قواتي في العراق، اتخذت منحى خاطئا. وبصراحة بالغة، هناك الكثير من الناس الذين يشكلون ضررا كبيرا في العراق اليوم كنت أود لو أننا أزحناهم من ميدان القتال حينما واتتنا الفرصة لفعل ذلك. ولأبعد من ذلك، كانت هناك بالتأكيد إجراءات اتخذت في عامنا الأول بالعراق، على وجه الخصوص، جعلت من جهودنا اللاحقة عسيرة جدا إلى حد بعيد. غير أنها كلها معروفة للجميع.
> ما هي نصيحتك الرئيسية (على افتراض سؤال الناس عن ذلك) حول أفضل السبل لمواصلة الحرب ضد «داعش»؟
- ما يحتاج إليه العراق في هذه المرحلة هو تجميع كل العناصر المدنية - العسكرية لحملة مكافحة التمرد التي أنجزت مثل ذلك التقدم الهائل خلال فترة زيادة القوات الأميركية، مع اختلاف واحد كبير - وهو أنه يتعين على العراقيين إنجاز عدد من المهام الحاسمة التي تحتم علينا إنجازها قبلا. يتعين على العراقيين، على سبيل المثال، توفير الجنود على أرض القتال، حتى لو كان تحت عمل المستشارين وحماية العناصر الجوية الأميركية، مع وجود وحدات التحكم الجوي التكتيكي كلما لزم الأمر.
وإذا لم يتمكن العراق من توفير تلك القوات، ينبغي علينا حينها زيادة الجهود لتوفيرها. كما ينبغي على العراقيين أن يتحركوا على مسار المصالحة مع زعماء السنة ومع المجتمع العربي السني ككل. ويمكننا المساعدة في ذلك بطرق مختلفة، ولكن مرة أخرى، لا يمكن تحقيق النتائج الملموسة المستدامة إلا على أيدي العراقيين أنفسهم - والذين يمتلكون المقدرة الواضحة على فعل ذلك، حتى مع أن الإرادة لذلك قد لا تكون واضحة في بعض الأحيان.
وبعبارة أكثر تحديدا، فإنني يمكنني تقديم ما يلي:
أولا، من الضروري للقوات العراقية عدم تطهير الأماكن التي لا يستطيعون أو يستعدون للسيطرة عليها. في واقع الأمر، ينبغي عليهم تحديد قوة «السيطرة» قبل البدء في عملية التطهير. يؤكد ذلك على الحاجة إلى القوات السنية القادرة والمضادة لـ«داعش» والتي يمكنها الولوج إلى مناطق الأغلبية السنية، حيث ينظر إليهم السكان نظرة المحررين وليس نظرة الغازين الظالمين.
ثانيا، ينبغي على القوات العراقية التي تنفذ العمليات العسكرية أن تولي رعاية قصوى لسلوكياتهم. إنني قلق للغاية من تقارير الفظائع الطائفية - ولا سيما من جانب الميليشيات الشيعية حال انتقالهم إلى المناطق السنية التي خرجت من سيطرة تنظيم داعش. إن عمليات الاختطاف والقتل الانتقامي، والطرد الجماعي للمدنيين من منازلهم - تسبب تلك الانتهاكات تقويضا لما ينبغي القيام به هناك.
بالتأكيد، فإن دفع السنة للشعور مجددا بضرورة رفض وجود القوات العراقية في مناطقهم يعد من الأمور التي يعقد عليها تنظيم داعش آمالا عريضة. وخلاصة القول تكمن في أن هزيمة «داعش» لا تقتضي سحقهم في ميدان القتال فحسب، بل وفي نفس الوقت، إحياء المصالحة السياسية مع السنة. ينبغي عودة سنة العراق إلى حظيرة الدولة. إنهم في حاجة للشعور بأن لهم سهما في نجاح العراق، بدلا من حصة في إفشاله.
ثالثا، وكما أوضحت سلفا، إننا في حاجة إلى الاعتراف بأن التهديد الأول والبعيد للتوازن العراقي - والتوازن الإقليمي الأوسع - ليس هو تنظيم داعش، والذي أعتقد أنه يتحرك على مسار الهزيمة في العراق وطرده بالكلية من المعادلة العراقية. إن التهديد الأهم وطويل الأجل يأتي من الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران. فإذا ما خرج «داعش» من العراق وكانت النتيجة صعود الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران كأكبر قوة عسكرية في البلاد - متفوقة في ذلك على القوات الأمنية العراقية على غرار تنظيم حزب الله في لبنان - فلن تكون إلا نتيجة سيئة للغاية على استقرار وسيادة العراق، ناهيك بتهديد مصالحنا الوطنية الخاصة في تلك المنطقة.
رابعا، طالما أننا نتحدث عن المشكلات الصعبة، فلدينا سوريا. وأي نتيجة مقبولة (في الوضع السوري) تستلزم بناء قوات قادرة مقاومة لـ«داعش» نعمل على دعمها في ميدان القتال. وعلى الرغم أنه من المهم أن نرى دعم الإدارة الأميركية لمثل تلك المبادرات، فإنني أعتقد أن هناك أسئلة مشروعة يمكن أن تُطرح حول كفاءة المعدل، والنطاق، والسرعة، والموارد الحالية لتلك الجهود. فلن يكون ممكنا، على سبيل المثال، إقامة مقر للقيادة داخل سوريا لتوفير مهام القيادة والسيطرة للقوات التي نساعد على تدريبها وتسليحها في الوقت الذي تتساقط فيه البراميل المتفجرة من طائرات بشار الأسد وبصورة منتظمة.

* خدمة «واشنطن بوست»
خاص بـ«الشرق الأوسط»



رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية

رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية
TT

رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية

رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية

هل عادت رياح اليسار تهب من جديد على أميركا اللاتينية بعد موجة الانتصارات الأخيرة التي حصدتها القوى والأحزاب التقدمية في الانتخابات العامة والرئاسية؟
من المكسيك إلى الأرجنتين، ومن تشيلي إلى هندوراس والبيرو، ومؤخراً كولومبيا، خمسة من أقوى الاقتصادات في أميركا اللاتينية أصبحت بيد هذه الأحزاب، فيما تتجه كل الأنظار إلى البرازيل حيث ترجح الاستطلاعات الأولى فوز الرئيس الأسبق لولا دي سيلفا في انتخابات الرئاسة المقبلة، وإقفال الدائرة اليسارية في هذه المنطقة التي تتعاقب عليها منذ عقود شتى أنظمة الاستبداد العسكري والمدني، التي شهدت أبشع الديكتاتوريات اليسارية واليمينية.
بعض هذه الدول عاد إلى حكم اليسار، مثل الأرجنتين وهندوراس وبوليفيا، بعد أن جنح إلى الاعتدال، ودول أخرى لم تكن تتصور أنها ستقع يوماً في قبضة القوى التقدمية، مثل تشيلي وكولومبيا، فيما دول مثل المكسيك وبيرو ترفع لواء اليسار لكن اقتصادها يحتكم إلى أرسخ القواعد الليبرالية.
هذه الموجة تعيد إلى الأذهان تلك التي شهدتها المنطقة مطلع هذا القرن مع صعود هوغو تشافيز في فنزويلا، وتحت الظل الأبدي الوارف لفيديل كاسترو، فيما أطلق عليه يومها «اشتراكية القرن الحادي والعشرين». ومن المفارقة أن الدوافع التي كانت وراء ظهور هذه الموجة، نجدها غالباً في تمايزها عن تلك الموجة السابقة التي كان لارتفاع أسعار المواد الأولية والصادرات النفطية الدور الأساسي في صمودها. فيما محرك التغيير اليوم يتغذى من تدهور الوضع الاجتماعي الذي فجر احتجاجات عام 2019 وتفاقم مع ظهور جائحة «كوفيد». يضاف إلى ذلك أن تطرف القوى اليمينية، كما حصل في الأرجنتين وكولومبيا وتشيلي وبيرو، أضفى على الأحزاب اليسارية هالة من الاعتدال ساعدت على استقطاب قوى الوسط وتطمين المراكز الاقتصادية.
ومن أوجه التباين الأخرى بين الموجتين، أنه لم يعد أي من زعماء الموجة الأولى تقريباً على قيد الحياة، وأن القيادات الجديدة تتميز ببراغماتية ساعدت على توسيع دائرة التحالفات الانتخابية نحو قوى الوسط والاعتدال كما حصل مؤخراً في تشيلي وكولومبيا.
حتى لولا في البرازيل بحث عن حليفه الانتخابي في وسط المشهد السياسي واختار كمرشح لمنصب نائب الرئيس جيرالدو آلكمين، أحد زعماء اليمين المعتدل، الذي سبق أن هزمه في انتخابات عام 2006.
ولى زمن زعماء اليسار التاريخيين مثل الأخوين كاسترو في كوبا، وتشافيز في فنزويلا، وإيفو موراليس في بوليفيا، الذين اعتنقوا أصفى المبادئ الاشتراكية وحاولوا تطويعها مع مقتضيات الظروف المحلية، وجاء عهد قيادات جديدة تحرص على احترام الإطار الدستوري للأنظمة الديمقراطية، وتمتنع عن تجديد الولاية، وتلتزم الدفاع عن حقوق الإنسان والحفاظ على البيئة.
لكن مع ذلك لا يستقيم الحديث عن كيان واحد مشترك تنضوي تحته كل القوى التقدمية الحاكمة حالياً في أميركا اللاتينية، إذ إن أوجه التباين بين طروحاتها الاقتصادية والاجتماعية تزيد عن القواسم المشتركة بينها، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل حول طبيعة العلاقات التي ستقيمها هذه القوى التقدمية مع محيطها، وأيضاً مع بقية دول العالم.
وتشير الدلائل الأولى إلى ظهور توتر يتنامى بين رؤية القوى التقدمية الواقعية والمتعددة الأطراف للعلاقات الدولية، والمنظور الجيوستراتيجي للمحور البوليفاري. ومن المرجح أن يشتد في حال فوز لولا في البرازيل، نظراً لتمايز نهجه الدبلوماسي عن خط كوبا وفنزويلا، في الحكم كما في المعارضة.
ويلاحظ أن جميع القوى اليسارية الحاكمة اليوم في أميركا اللاتينية، وخلافاً لتلك التي حكمت خلال الموجة السابقة، تعتمد أسلوباً دفاعياً يهدف إلى صون، أو إحداث، تغييرات معتدلة من موقع السلطة وليس من خلال التعبئة الاجتماعية التي كانت أسلوب الأنظمة اليسارية السابقة، أو البوليفارية التي ما زالت إلى اليوم في الحكم. ولا شك في أن من الأسباب الرئيسية التي تدفع إلى اعتماد هذا الأسلوب الدفاعي، أن القوى اليسارية والتقدمية الحاكمة غير قادرة على ممارسة الهيمنة السياسية والآيديولوجية في بلدانها، وهي تواجه صعوبات كبيرة في تنفيذ برامج تغييرية، أو حتى في الحفاظ على تماسكها الداخلي.
ويتبدى من التحركات والمواقف الأولى التي اتخذتها هذه الحكومات من بعض الأزمات والملفات الإقليمية الشائكة، أن العلاقات مع كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا ستكون مصدراً دائماً للتوتر. ومن الأمثلة على ذلك أن الرئيس الكولومبي الجديد غوستافو بيترو، ونظيره التشيلي، اللذين كانا لأشهر قليلة خلت يؤيدان النظام الفنزويلي، اضطرا مؤخراً لإدانة انتهاكات حقوق الإنسان التي يمارسها نظام نيكولاس مادورو، علماً بأن ملايين الفنزويليين لجأوا في السنوات الأخيرة إلى كولومبيا وتشيلي.
وفي انتظار نتائج الانتخابات البرازيلية المقبلة، وبعد تراجع أسهم المكسيكي مانويل لوبيز لوبرادور والتشيلي بوريتش لقيادة الجبهة التقدمية الجديدة في أميركا اللاتينية، برزت مؤخراً صورة الرئيس الكولومبي المنتخب الذي يتولى مهامه الأحد المقبل، والذي كان وضع برنامجه الانتخابي حول محاور رئيسية ثلاثة تمهد لهذا الدور، وهي: الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية وتغير المناخ، والدور المركزي لمنطقة الكاريبي والسكان المتحدرين من أصول أفريقية، والميثاق الإقليمي الجديد الذي لا يقوم على التسليم بريادة الولايات المتحدة في المنطقة لكن يعترف بدورها الأساسي فيها.